بعد هجمات ايلول سبتمبر الانتحارية على نيويوركوواشنطن، وتوجه الأنظار نحو النظام في بغداد، باعتباره المشتبه به الآخر، بعد بن لادن و"القاعدة"، الذي يتحمل مسؤولية التورط، بشكل أو بآخر، في تلك الهجمات، رجحت تصريحات العديد من المسؤولين الاميركيين وتوقعات المحللين ووسائل الاعلام، احتمال توجيه ضربة عسكرية للعراق في اطار الحملة الدولية، التي تتصدرها واشنطن لمحاربة الارهاب في العالم. وغداة بدء العمليات العسكرية، في 7 تشرين الأول اكتوبر الجاري، في افغانستان، تصاعدت وتيرة الحديث عن ذلك الاحتمال، بشكل لافت، والتوقع بأن يكون العراق هو الهدف التالي، بعد افغانستان، المرشح لضربة عسكرية. واذ تراجعت، لأيام، وتيرة الحديث عن ذلك الاحتمال عادت لتتصاعد بقوة أكبر، بعد انتشار مرض الجمرة الخبيثة "انثراكس" حيث ترافقت الشبهات التي أخذت توجه نحو نظام بغداد، مع اتساع نطاق التوقعات باحتمال توجيه ضربة عسكرية للعراق، وهي توقعات يمكن التراجع عنها موقتاً، ايضاً ما لم يحسم مسار الحرب في افغانستان. ومهما يكن من أمر هذا "المسار المتعرج" لتلك التوقعات، فإن توجيه ضربة عسكرية للعراق، أصبح، في رأي الكثير من المحللين، احتمالاً مرجحاً وقوياً، وان الجدال لم يعد، حول ما اذا ستقع هذه الضربة أم لا، انما متى، وكيف؟ وهل ستكون ضربة "تأديبية" للنظام الحاكم في بغداد على غرار ضربة "ثعلب الصحراء" في خريف عام 1998 حيث ضرب العراق وبقي النظام، أم ان هدفها سيكون، هذه المرة، اطاحة النظام؟ وبالطبع، فإن ما يرجح احتمال توجيه هذه الضربة هو تعدد الأسباب والمبررات التي ستستند، ربما، لأدلة "تفاجئ" الجميع بتورط بغداد بالهجمات على نيويوركوواشنطن، أو في نشر، أو المساعدة في نشر، بكتيريا مرض الجمرة الخبيثة، بل وربما العودة الى أسباب اخرى، وهي تمرد بغداد على قرارات الاممالمتحدة وطرد فرق التفتيش "أونسكوم" في خريف 1998، أو رفضها "القاطع" لدخول لجنة المراقبة والتفتيش الجديدة "أنموفيك" الى العراق لاستكمال المهمات التي لم تنجزها اللجنة السابقة، وكذلك التفتيش عما صنعته بغداد خلال السنوات الثلاث المنصرمة لتطوير أسلحة الدمار الشامل والإبادة الجماعية لديها، وهو الأمر الذي أشار اليه الرئيس الاميركي جورج بوش غداة بدء العمليات العسكرية في افغانستان وتأكيده على ضرورة سماح بغداد بدخول "أنموفيك" العراق. ان مسألة توجيه ضربة عسكرية الى العراق، التي أصبحت احتمالاً مرجحاً كانت منذ البدء، وما تزال، موضع نقاشات وسجالات هادئة، وحامية احياناً، داخل الادارة الاميركية ذاتها بين اتجاهين، كما بات معروفاً، يريد احدهما تنفيذها بسرعة وإطاحة النظام، ويسعى الثاني الى تأجيلها حتى الانتهاء من الحرب في افغانستان. وكانت هذه المسألة ايضاً موضع نقاش وتباين في الرأي بين الادارة الاميركية وحكومة توني بلير، وأيضاً موضع اعتراض لدى عدد من الحكومات العربية، حيث ما زالت السجالات والتباينات في المواقف الدولية والاقليمية حولها متواصلة، والتي يتوقع لها الحسم بعد ان تُنهي الحرب في افغانستان وتداعياتها، مراحل مهمة واستراتيجية، في مسارها. أما المعارضة العراقية المعنية، أو التي هي من اكثر المعنيين، باحتمال توجيه تلك الضربة، فإن موقفها العام كان، وما يزال، يتسم بقدر من الغموض والارتباك والتناقض، فضلاً عن التباين في مواقف قياداتها، وداخل كل تيار، والذي تعكسه السجالات الداخلية خصوصاً، والعلنية، حول الهجمات الارهابية في نيويوركوواشنطن، وحول الموقف من الحملة الدولية لمكافحة الارهاب، أو الموقف من الحرب الدائرة في افغانستان. أما المواقف إزاء احتمال توجيه الضربة العسكرية الى العراق، وهي موضوع هذا المقال، فقد جرى التعبير عنها بالبيانات أو التصريحات أو المقالات، التي صدرت عن تنظيمات، أو كتبها معارضون ينتمون الى أحزاب، أو مستقلون، فيمكن اجمالها باتجاهين: - الاتجاه الأول، الذي عبر عن رفضه، وادانته، لأي ضربة عسكرية توجه الى العراق ما لم تهدف الى اطاحة النظام، ذلك لأن أي ضربة لا تحقق هذا الهدف، تلحق أشد الأذى والضرر بالعراقيين والعراق من جهة، وتقوي النظام من جهة ثانية. وقد عبر عن هذا الموقف، المؤتمر الوطني العراقي وحركة الوفاق الوطني العراقي، وخمسة وعشرون حزباً وتنظيماً سياسياً كردياً عراقياً، وفي مقدمها الحزب الديموقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، هذا إضافة الى عدد آخر من التنظيمات والشخصيات السياسية والدينية المستقلة. - اما الاتجاه الثاني، فهو الذي عبر، ويعبر، عن رفضه وادانته لأي ضربة عسكرية محتملة توجه الى العراق، بما فيها الضربة التي قد تهدف الى التغيير واطاحة النظام. واذا كان الشق الأول من هذا الموقف يلتقي مع الاتجاه الأول، ويشكل موقفاً عاماً وموحداً للمعارضة العراقية بمختلف تياراتها وتنظيماتها، فإن الشق الثاني هو موضوع خلاف مع الاتجاه الأول. اما تبرير أصحاب هذا الاتجاه، فهو قولهم ان عملية التغيير في العراق واطاحة النظام، ينبغي ان تتم بأياد عراقية ومن دون تدخل خارجي. أما القوى التي تعبر عن هذا الموقف فهي، الحزب الشيوعي وحزب الدعوة، بشكل رئىسي، اضافة الى عدد من القوى والشخصيات الدينية والقومية العربية المستقلة. ان الموقف الذي يعبر عن الاتجاه الثاني في المعارضة العراقية هو موقف سلبي وعدمي في رأي الكثيرين، حتى ضمن قواعد هذه الاحزاب. فإذا كان رفض أي ضربة لا تطيح النظام، أو لا تساعد في ذلك، هو موقف صائب ومحل اجماع، فإن رفض الضربة التي تهدف لاطاحة النظام، من دون تقديم بديل عملي وممكن، ناهيك عن ان مثل هذه الضربة ان حصلت لا يمكن ردها، هو موقف خاطئ ويتعارض مع تطلعات وسعي وكفاح اكثرية الشعب العراقي لتغيير النظام أو اطاحته. أما موقف الاتجاه الذي لا يعترض، بل يؤيد الضربة العسكرية المحتملة، اذا كانت تهدف الى معاقبة النظام واطاحته كهدف دولي واميركي ووطني عراقي في آن واحد، فإنما يستند في قبوله لمثل هذه الضربة، الى انها تقدم مساعدة عملية للعراقيين والمعارضة في سعيهم لإطاحة النظام، وهي ضربة ستمنع، من دون شك، استفراد النظام بالعراقيين وإبادة أي انتفاضة أو تمرد عسكري ضد النظام، كما حصل في انتفاضة ربيع 1991 التي اغرقها النظام في بحر من الدماء، حيث بقي هذا المصير لتلك الانتفاضة هاجساً مرعباً للمبادرة بإشعال أي انتفاضة أو تمرد عسكري جديد ضد النظام، ما لم يكن مدعوماً من قوى خارجية، عربية، أو دولية، أو كليهما. وفي ضوء ذلك، تسعى القوى وتيارات المعارضة التي لا تعترض على أي ضربة عسكرية تهدف الى معاقبة النظام واسقاطه، الى بلورة موقف موحد حول هذه المسألة بين مختلف قوى المعارضة العراقية، وتدور الآن سجالات داخلية من أجل صياغة هذا الموقف بوضوح والتحرك، استناداً اليه لدعوة الولاياتالمتحدة وقوى التحالف الدولي، بأن لا توجه أي ضربة الى العراق ما لم تهدف الى اطاحة النظام، هذا اضافة الى التوجه الى الدولة العربية، خصوصاً المعترضة على مثل هذه الضربة لطمأنتها بعدم حصول تداعيات سلبية في العراق بعد اطاحة النظام، ومناشدتها بتأييد ودعم هذا الاتجاه، خصوصاً اذا كانت الضربة العسكرية المفترضة، احتمالاً مرجحاً بكل قوة. * كاتب عراقي، لندن.