لم يصدق الوزراء المشاركون في مؤتمر وزراء "منظمة التجارة العالمية" التي ارتفع عددها الى 144 دولة بعد انضمام الصين وتايوان في اجتماع الدوحة، ان منظمة التجارة العالمية، والنظام التجاري المتعدد الأطراف الذي يهدف الى تحرير التجارة وفتح الأسواق على مصراعيها، خرجا من "غرفة الإنعاش" الى مرحلة "التنفس الطبيعي". وكان مشهد عدد من الوزراء ومدير عام المنظمة مايك مور وهم يعانقون وزير المال القطري رئيس المؤتمر يوسف كمال في الجلسة الختامية مساء الأربعاء معبراً عن طبيعة الورطة الكبيرة التي أثمرت المناقشات التي جرت في العاصمة القطرية في أن تتجاوزها بصعوبة بالغة، باتفاق الدول كافة على البيان الختامي الذي حمل اسم "أجندة الدوحة للتنمية". يوم الثلثاء شهد اطول مناقشات امتدت الى صباح الأربعاء ومسائه وأدت الى إصابة الوفود ب"الإرهاق" بل نام بعضهم في بهو فندق شيراتون الدوحة مقر المؤتمر، ولهذا كانت الجلسة الختامية العلنية المفتوحة للصحافيين مشحونة بالتوتر والترقب، ولو رفع اي رئيس وفد يده معترضاً على البيان وقرارات المؤتمر لكانت منظمة التجارة وروادها الكبار خصوصاً الولاياتالمتحدة دخلت في نفق مظلم جديد بعدما سيطر هاجس الفشل الذي حدث في سياتل قبل عامين على قلوب المشاركين وعقولهم. واتفقت دول منظمة التجارة في الدوحة على إجراء جولة مفاوضات جديدة، ويمثل هذا انتصاراً كبيراً لمنظمة التجارة إذ كان بعض الدول يرفض ذلك، كما كان المتظاهرون المعارضون من اعضاء المنظمات الحكومية وضعوا شعار لا لمفاوضات جديدة في صدارة شعاراتهم وهتافاتهم التي جرت في مقر المؤتمر. كما حرصت الدول النامية والأقل نمواً التي شاركت في هذا المحفل الدولي الكبير الذي حضره نحو 4 آلاف شخص على إسماع صوتها، وكانت الهند مصدر التهديد الأول الذي كان يمكن ان يطيح المؤتمر لولا أنها قررت اخيراً الانحياز الى "اجماع الدول". ويلاحظ ان "أجندة الدوحة للتنمية" تضمنت تأكيدات مهمة قالت "إننا عازمون على المضي قدماً في مسيرة الإصلاح وتحرير السياسات التجارية لضمان تأدية النظام التجاري المتعدد الأطراف دوره كاملاً في تعزيز الانتعاش والنمو والتنمية" مع الإشارة الى أهمية "مكافحة الفقر" و"وضع احتياجات ومصالح غالبية اعضاء المنظمة وهم من الدول النامية في صميم برنامج العمل المعتمد في هذا الإعلان". وفي إشارة الى الاستجابة الى صوت الضعفاء قال البيان "نلتزم التصدي للتهميش الذي تعانيه الدول الأقل نمواً في التجارة الدولية ونلتزم تحسين مساهمتها الفاعلة في نظام التجارة المتعدد الأطراف". وكان من اهم الإنجازات للدول الكبرى ان مؤتمر الدوحة قدم "حقنة الإنعاش والحياة" لمنظمة التجارة حين عبّر البيان عن "التزامنا منظمة التجارة منبراً فريداً من نوعه لصوغ القوانين وتحرير التجارة العالمية". وفي محاولة للتوازن وإرضاء الدول النامية اضاف البيان "نقر في الوقت ذاته ان اتفاقات التجارة الإقليمية يمكنها ان تلعب دوراً مهماً في تعزيز تحرير التجارة وتوسيعها وفي رعاية التنمية". وتضمن بيان "أجندة الدوحة للتنمية" الذي يعكس عنوانه مؤشرات تعطي الأولوية لهموم التنمية والفقر والتخلف فقرات عدة تناولت تأكيدات حرص على "نظام تجاري عادل" و"تعزيز دعم المعونة الفنية" و"التفاهم حول تسوية المنازعات" و"دعم كفاية نظام التجارة المتعدد الأطراف للمساهمة في حل دائم لمشكلة الدين الخارجي على البلدان النامية والأقل نمواً". وتبنى المؤتمر - وهذا محل اهتمام كبير للدول النامية والفقيرة - اعلاناً خاصاً ب"الدواء" وأكدت "أجندة الدوحة للتنمية" في هذا الإطار السعي الى "تعزيز رعاية الصحة العامة من خلال تسهيل الحصول على الأدوية المتوافرة حالياً وأبحاث تطوير أدوية جديدة وابتكارها". وتضمن بيان "أجندة الدوحة للتنمية" 52 موضوعاً تتمثل عناوينها في "الزراعة والعلاقة بين التجارة والاستثمار والتجارة والديون والتمويل والتجارة ونقل التكنولوجيا والمعاملة الخاصة والتفضيلية والبلدان الأقل نمواً والخدمات والاقتصاديات الصغيرة والتجارة الإلكترونية والتفاهم الخاص بتسوية المنازعات وبرنامج العمل" ومنفذ المنتجات غير الزراعية الى الأسواق والشفافية في المشتريات التجارية وتنظيم برامج العمل وإدارتها وأحكام المنظمة والجوانب التجارية المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية. ويبدو ان مسألة "الشفافية" التي تحدث عنها رئيس المؤتمر وزير المال القطري جعلت الفقراء المهمشين من الدول النامية والأقل نمواً يحسون بأنهم "موجودون" ويجرى التشاور معهم، لكن هذا لا يمنع ان نقول ان "الغرف الخضراء"، وهذه التسمية معروفة من منظمة التجارة شهدت اهم اللقاءات وعمليات التشاور بين الكبار وصانعي القرار الدولي، لكن لم يكن "الصغار" بعيدين من هذه الغرف. وقالت الخليجية والعربية الوحيدة التي شاركت في مؤتمر الدوحة وهي هيلدا الهناي مندوبة سلطنة عمان لدى جنيف "ان الشفافية كانت أبرز سمة لمؤتمر الدوحة"، وأضافت "أن كل اعضاء المؤتمر تحدثوا عن ذلك" كما كان "التنظيم القطري للمؤتمر افضل من سياتل". وعلمت "الحياة" من مصادر عدة "ان الوفود كانت تعرف ما يجري في الغرفة الخضراء" عبر "مشاورات رئيس المؤتمر" وكشفت ان "أصدقاء الرئيس" الذين يجتمعون في هذه "الغرف" لطبخ القرارات الجوهرية انضم إليهم مندوب افريقي بعدما احتج الأفارقة على عدم تمثيلهم في مشاورات المسهلين أو "أصدقاء الرئيس"، وبالفعل تم اختيار ممثل افريقي انضم الى هذه المناقشات "الخضراء". وكانت وزيرة التجارة في بتسوانا تجلس بين "أصدقاء الرئيس" في "غرفهم الخضراء" للمرة الأولى. وكانت مجموعة افريقيا والكاريبي والهادي هددت قبل يوم من الموعد المقرر لاختتام المؤتمر بأنها "ربما لا توقع البيان الختامي بسبب خلاف مع دول اميركا اللاتينية في ما يتعلق بامتيازات تصدير الموز الى أوروبا، وقالت هذه الدول التي عقدت مشاورات جانبية - كما فعل العرب اخيراً - انها غير جاهزة للتفاوض مع دول اميركا في هذا الشأن، ورأت أنه لو تم منح دول اميركا اللاتينية امتيازات "فإننا سنخسر اسواقاً مهمة، ما يعوق الدخول في حركة التجارة العالمية". ومثلما حرصت دول نامية وأقل نمواً على التعبير عن مواجعها وهمومها فإن الخليجية والعربية الوحيدة في المؤتمر هيلدا الهناي نجحت مع مندوب اردني في جنيف في تشكيل تكتل ضم 7 دول انضمت الى منظمة التجارة منذ عام 1995. ونجح هذا التكتل في ايصال صوته الى المؤتمر الذي تبنى فقرة في بيانه تعترف بحجج الالتزامات التي قدمتها هذه الدول، وكان هذا التكتل يسعى الى نص يضمن عدم تحميله التزامات جديدة في الجولة المقبلة، لكن لم يستجب لهذا، لكن هذه الخليجية بدت سعيدة على رغم ذلك، باعتراف المؤتمر ب"معاناة" دول انضمت حديثاً الى المنظمة وقالت ل"الحياة" ان اعترافهم بحجج التزاماتنا السابقة يساعدنا في المفاوضات المقبلة" ويذكر ان بين دول هذه المجموعة التي شكلت "تجمع جنيف" ألبانيا وجورجيا وكرواتيا وملدوفيا. وهكذا تعددت المشاهد في أروقة المؤتمر وغرفه "الخضراء"، لكن المؤكد ان اميركا كانت "مرتاحة" لنجاح المؤتمر، حيث قدمت دعماً كبيراً لعقده في قطر في وقت كانت بعض الدول تسعى الى نقله الى مكان آخر، كما اتسم الدور الأميركي ب"المرونة" بحسب مصادر عدة. وفي أوقات كثيرة كان الأوروبيون يبدون اكثر "قلقاً" و"توتراً"، وكذلك الأميركيون، خصوصاً عندما كان بعض الدول يطرح قضية "الكيل بمكيالين" في قضية فتح الأسواق للسلع في إشارة الى عراقيل تضعها واشنطن وأوروبا امام دخول سلع تنتجها دول نامية أو كانت الهند التي سببت "صداعاً" في المؤتمر تطرح موضوع دخول منتجاتها خصوصاً "المنسوخة" منها.