قبل عرض فيلم ألبرت وألن هيوز الجديد "من الجحيم" عن سفاح لندن المكنى ب"جاك ذي ريبر"، بثت محطة "ديسكفري" الأميركية برنامجاً مطوّلاً عن ذلك القاتل الذي ترصد ثماني نساء من بائعات الهوى في لندن أواخر القرن التاسع عشر وقتلهن ببشاعة. وككل برنامج تسجيلي مشابه، فإن الإجابة عن سؤال من هو القاتل الذي لا يزال سره غامضاً حتى اليوم، تختفي في طيات الدقائق العشر الأخيرة او نحوها. قبل ذلك كانت هناك مقابلات مع تحريين من "سكوتلاند يارد" عادوا الى الملفات الأولى، وباحثين ألوا على أنفسهم معرفة هوية القاتل التي لا تزال غامضة الى اليوم. وقليل من الدراما من باب إعادة رصف الواقع من دون تمثيل او حوار. مجرد ايحاء بما قد يكون وقع وكيف وقع. لكن الدقائق العشر الأخيرة تفيد أن من بين بضعة أشخاص وجهت أصابع الإتهام اليهم وارتاب البوليس البريطاني بهم، واحد تبيّن أنه كان يبغي الشهرة أسمه توماس كتبوش وآخر تبيّن أنه ليس أكثر من لص صغير مايكل أرمسترونغ ثم ثالث يقول البرنامج عنه ما يلي: "... وهناك يهودي بولندي أسمه كوزمنسكي غير معروف الاسم الأول عانى اضطرابات عصبية ودارت الشبهات حوله، بل أكد البعض أنه القاتل بالفعل". كوزمنسكي كان مهاجراً بولندياً عاش في شرق لندن حيث وقعت الجرائم ولم يستطع إثبات براءته. كان إنساناً مركباً على نحو نفسي معقد، وعاطفياً عاجزاً ولأسباب بقيت مجهولة، كان يكره المرأة والعاهرات أكثر من غيرهن. ما أن تم إرساله الى مستشفى الأمراض العصبية في شمال المدينة، حتى توقفت الجرائم ما أكد صحة الظنون. لكن كوزمنسكي لم يقدم الى المحكمة، وقيل أن مرضه النفسي منع ذلك وقيل ايضاً أنه اختفى بعد سنوات، والبعض يقول: لا، انتحر في المستشفى الذي سُجن فيه. عن هذه الشخصية أطلقت السينما نحو عشرة أفلام روائية طويلة. ألفرد هيتشكوك كان السبّاق بفيلم صامت أسند فيه الدور الى إيفور نوفيللو سنة 1926، ثم أعاد تحقيقه ناطقاً سنة 1932 من بطولة نوفيللو ايضاً. في العام 1944 لعب لايد كريغار ذو الجثة الضخمة والإداء المناسب دور "جاك ذي ريبر" في "المستأجر"، نسخة من الأصل أخرجها جون برام. ولم تبتعد السينما البريطانية كثيراً، لا في الزمن ولا في الموضوع، عندما أتبعت كل ذلك بفيلم "الرجل الذي في الغرفة العليا" وأخرجه هوغو فرغونيس وقام ببطولته الأميركي جاك بالانس سنة 1954 وبقي الموضوع حياً بعد ذلك في أفلام انكليزية وأميركية والمانية. وعلى المرء عليه أن يشاهدها مجدداً اذا ما أراد التحقق من أن اياً منها عمد الى ذكر ان القاتل، في نهاية المطاف وكما تشير الدلائل، ليس الشخص المجهول الذي تحوّل الى أسطورة، بل اليهودي المهاجر من بولندا كوزمينسكي. ايضاً "جاك ريبر" هو إسم الشخصية التي يلعبها سترلينغ هايدن في فيلم ستانلي كوبريك الرائع "د. سترانغلوف" والإلهام كان وراء فيلم فرنسي عنوانه "لولو دي نوش" 1985 وعدد من الأفلام التلفزيونية أيضاً. ولا بأس هنا من ذكر أن المخرج المعتزل نيكولاس ماير قدم جاك ذي ريبر شخصية تخترق الزمان فتنتقل الى الحاضر في "مرة تلو المرة" 1979. المثير هنا هو أن المخرج المذكور لم يكتف بأنه تجاهل الإحتمال الكبير بأن يكون السفاح الذي ارتكب تلك الجرائم بوحشية يهوديا، بل لام العرب على العنف من خلال مشهد نرى فيه عمليات عربية ضد اسرائيل على شريط اخباري يبث تلفزيونياً. كيف إذاً ينظر "من الجحيم"، آخر نسخة متوافرة عن هذه الشخصية العتيدة الى الموضوع؟ فقراء وأغنياء قبل اي شيء آخر، "من الجحيم" فيلم رائع او ربما يبدو كذلك وسط الشح الكبير من الأفلام الجيدة، خصوصاً الأميركية. الأخوان ألبرت وألن هيوز قاما بنقلنا الى أجواء مشيّدة بإتقان للندن مطلع القرن تم اتخاذ براغ مكاناً للتصوير بربع تكلفة ما كان سينفق لو أن الأحداث صوّرت في استديوهات غربية. تستطيع أن ترى تفاصيل التصاميم الإنتاجية والديكور وتقتنع أن لندن كانت كذلك بالفعل: جدران عتيقة بأبواب صدئة، شوارع مظلمة، ببيوت مغلقة النوافذ، حشائش فطرية تنبت في كل مكان وفقر موجع ينتشر كالطحالب على البنية الإجتماعية لإنكلترا ذلك الحين. تكاد أن تشم رائحة العفونة. كاميرا بيتر دمينغ تتخصص في دخول تلك التصاميم محافظة على الواقع الذي تفرضه. تنقل الحس بأن الحياة لا يمكن أن تكون أفضل مما هي عليه اليوم بالنسبة لفقراء المدن الكبيرة. في الحقيقة، هناك اكثر من رابط بين الأحداث التي يسندها الفيلم الى مطلع القرن العشرين وبين تلك التي نعيشها اليوم: ليس أن بيننا مجرم أضحى بشهرة جاك ذي ريبر، بل نحن - يوحي الفيلم بنجاح - ما زلنا قيد الظروف ذاتها التي تهيئ لظهورها عشرات مثله في كل مكان. الفارق هو أن البيوت الآيلة الى السقوط ما عادت ترى بوضوح، الشوارع صارت أكثر إنارة، السيارات حلت مكان العربات ذات الجياد والقتل يتم بصور كثيرة لا تقل وحشية، حتى ولو أنها لا تؤدي الى الموت دائماً. كل هذا الإيحاء ضروري لفيلم تقررت تسميته ب"من الجحيم". ما نراه جحيماً، لكن ما نستقبله من هذا الجحيم المغلق والعفن هو جحيم آخر يتواصل وإيانا اليوم. على ذلك، فإن العنف المتبدي في الفيلم مظلم ولكنه ليس عنفاً دمويا مشاهد في "انقاذ المجند رايان" يمكن اعتبارها أكثر عنفاً وفي العديد من المشاهد يقرر الأخوان هيوز جعل الكاميرا تمسح الأجواء وتمر من فوق الجثة من دون تبيانها. بطل الفيلم هو التحري فردريك جورج أبرلين جوني ديب الذي نتعرّف اليه وهو مستلق على أرض صالة صينية مخصصة للمدمنين على الأفيون. هناك في عالم بعيد عن اي واقع يمضي أيامه الى أن يعيده السيرجنت كودلي روبي كولترين الى الواقع طالباً منه التحقيق في جريمة قتل عاهرة تمت في شكل وحشي. الجامع بين الجرائم التي تتتالى في حي يكتظ ببنات الهوى هو مهارة القاتل في استخدام آلات قطع وجز وبتر طبية لاستئصال أعضاء المرأة التناسلية او تشويهها واقتطاع القلب. ايضاً الطريقة التي يتم فيها جذب الضحية اليه، فالقاتل، الذي لا نرى وجهه مطلقاً، يرسل بسائق عربته الى ضحيته ومعه عنقود عنب أحمر. "لماذا العنب؟" يسأل أحدهم في الفيلم فيجيب التحري أبرلين "لأنه ثمرة غالية الثمن ليس في مقدور العاهرات شراؤها". شكوك التحري أبرلين تدور حول مجتمع من الجراحين بعضهم ذو علاقة مباشرة بالأسرة المالكة. ويجب القول هنا أن إحدى الاشاعات التي انتشرت عن شخصية القاتل الفعلية ذكرت أنه من العائلة الملكية وفي اشاعات أخرى أنه ارستقراطي ثري. بهذا المرجع يتم للفيلم إجراء مقارنة في عالم تحكمه الأقلية الغنية ويقع الفقراء ضحية الإعتداء عليه. والمنحى الذي يتخذه الفيلم لدفع هذه الرسالة الى التبلور لا يخفى فالمصلحة العليا تقتضي ترابط الأثرياء والارستقراطيين ولو في إطار مجتمع ماسوني او شبه ماسوني كما يوضح الفيلم. بذلك لا يكون الفيلم أكد أن هوية القاتل هي ارستقراطية ومن جراحي البلاد الأوائل فقط، بل ربطه بالجمعية الماسونية ذكرها او لم يذكرها بالإسم واضعاً اياها في إطار الجريمة من ناحية وفي إطار تقديمها كطرف من أطراف الحكم الإجتماعي والإقتصادي في البلاد. في المقابل، الضحايا هم العاهرات أولاً. والعاهرات في السينما يأتين، غالباً، على نحو يشي بأنهن من سقطات المجتمع التي لم تكن لتتم لو أن العدل كان سائداً فيه. مجموعة من النساء اللواتي لا يمكن انتقادهن لما يقمن به نظرا لأنهن ضحية نموذجية لفئة تتحكم بفئة أخرى وتعتدي عليها وتغتصبها. "غير المسامح" لكلينت ايستوود 1992 واحد من عشرات الأفلام التي أحسنت التعبير عن هذا الرمز وهو صوّب نقده الى النظام المتمثل في شخصية "شريف" البلدة ممثل الحكومة في الميدان المفترض به أن يدافع عن القانون، لكنه يعوض على العاهرة التي تم تشويه وجهها بحصان. موقع واحد ماري كيلي هيذر غراهام هي الضحية المحتملة كما يتراءى وعن حق للتحري أبرلين. انها أجمل عاهرات الفيلم وأصغرهن هناك واحدة كبيرة وأخرى بشعة وثالثة سحاقية الخ... وتحلم بأن تترك "المهنة" وتعود الى قريتها الساحلية الصغيرة. بالنسبة اليها هذه العودة الى الريف هي بمثابة دخول الجنة. انها الآن في الجحيم الوارد في العنوان ومنه، اذا ما عاشت حتى نهاية الفيلم، ستنتقل الى الفردوس. العلاقة بين ماري وفردريك عاطفية. تدرك ذلك من الوهلة الأولى لكن السيناريو لا يلهث وراء تقديمها ضمن تلك الأطر الجاهزة. صحيح أن التحري يسعى جاهداً لإنقاذها من خطر القتل، ويخاف عليها ويتردد اليها باحثاً عن الوردة البيضاء التي يعلم أنها تحملها في ذاتها، الا أن شيئاً من تلك المشاهد المتكررة في الأفلام البوليسية الحديثة حيث البطل ينقذ حياة البطلة في آخر لحظة لا يرد هنا. بدلاً من هذا نجد أن فردريك يواجه تعاضداً بين رئيس الشرطة والجهة التي تحمي القاتل. كيف لا وهما في موقع واحد وينتميان الى الجمعية ذاتها. وهناك مشاهد قوية الإدارة كلما التقى التحري فردريك أبرلين بالرئيس الأعلى للشرطة. الكره المتبادل بينهما ظاهر، والأخير يستخدم وظيفته أولاً لتوجيه التحريات، ثم نفوذه لإجبار التحري على التغاضي عن الحقيقة. فيلم الأخوين هيوز ليس فيلماً متفائلاً، لكنه ككل فيلم واقعي غير متفائل جميل. معالجة السيناريو كتابة تيري هايز ورفائيل ايغلاسياس للموضوع جديدة. بالمقارنة مع الأفلام السابقة حول الموضوع هي ايضاً مختلفة تماماً. لا شيء برّاقاً ولا إيمان مطلقاً بالعدالة ولا إنقاذ حياة في آخر لحظة ولكمات او مطاردات ولقطات وجه قريبة للمجرم وهو يمسح عرقه من الخوف. هناك تحريك جامع لحياة كاملة تبدو كما لو كانت تتنفس وراء جدار يفصلنا وهما عن الماضي وعن الحدث. جوني ديب يعود مرة أخرى الى تمثيل دور التحري طبيب يتم ارساله للتحري في جرائم غامضة في اميركا مطلع القرن العشرين في فيلم تيم بيرتون "سليبي هولو"، وتحري كتب في فيلم رومان بولانسكي "الطابق الثالث عشر" لكنه ايضاً يعود مرة أخرى للعب دور المدمن "خوف وازدراء في لاس فيغاس"، "شم" من قبل بينما ترتقي هيذر غراهام من صورة الفتاة اللعوب في "أوستن باورز 2" وغيره الى دور عليها فيه أن تبدو سهلة وحقيقية في الوقت ذاته. انما يبقى الموضوع الذي كشفته محطة "ديسكفري" التلفزيونية: هوية القاتل التي من المحتمل جداً أن تكون يهودية. سواء أشاهد كاتبا الفيلم ذلك الفيلم التسجيلي ام لا والغالب لا لأن المشروع كان قيد التنفيذ حين بثت تلك الحلقة فإن السيناريو الذي وضعاه يتعرض الى النقطة ذاتها انما بهدف نقضها. في ثلاثة مشاهد على الأقل، هناك اتهام يوجهه رئيس الشرطة بأن القاتل على الأرجح يهودي وهناك مشهد نرى فيه عبارة مكتوبة بالطبشور من المفترض بها أن تؤيد ذلك، لكن التحري لا يعمل ضمن هذا التوجه وسريعاً ما يعمل ضده متعاوناً مع رسالة الفيلم القائلة بأن بريطانية المسيحية الارستقراطية يمكن لها أن ترمي الأقليات بالجريمة من منطلق عنصري واليهود على التحديد من منطلق معاد للسامية. كيف توصل الكاتبان الى هذا الإكتشاف؟ ليس معروفاً فليس في الفيلم مرجع يؤكد ذلك، بل يبقى وروده قائماً على بركة الإيحاء به.