أول الكلام: من شهادات غادة السمان/ عكس الريح: - تطلع إليّ من أعماقي مثل بركان ... عبثاً أطمر فوهته وأسترها بالطحالب والابتسامات وطوابع البريد!! من الصديق العزيز جداً الى نفسي: - أبا وجدي: هذا الأسبوع شعرت - فجأة - أن العمر أقصر من حواديت الأطفال، وأن ما بالنفس لغماً موقوتاً ... أمضيت وقتاً طويلاً أتأمل نهر المواعيد على مكتبي، وأدور في أرجاء الغرفة بحثاً عني !! وأسأل صدري: ماذا فعلت ليَضيق بك القميص هكذا؟! سقط الرضا عن النفس - يا بو وجدي - سقط الرضا، لم أجد بدّاً من أن احمل حقائبي وأفتح الباب ... أعلى من الشارع كنت، وقبل أن أفيق من بؤسي، كنت أركض وألوّح للمارة في شوارع القاهرة بقميصي الأبيض ... كان الأفق خطاً والمساء جميلاً كفستان أنثى ... توقفت عند اول كشك للصحف والمجلات، سألني البائع: إن كنت ابحث عن هاتف عملة بعد ان تأكد ان لا نفس لي في ما يعرضه ... لم يكن فظاً في السؤال، فقد كنت أتبعثر في الطريق كقط يسترخي على عتبة بيت!! كانت الأشجار ملونة رغم الحر القاتل، والناس بشوشون ... تأملت الشرفات الجيرية وأنا أتسكع في الشوارع، تساءلت من فرط تشرّدي: عمن يكون سكانها؟! دهمتني نظرة امرأة بضّة ترفع الغسيل الذي يجف وتنادي على شيء ما في الشارع. لا أعلم كيف نمت هادئاً هذا المساء، والقلب المشقوق تنزّ منه المرارة كالحليب!! صحوت اليوم التالي كفكرة مقوّسة، جلست في مقهى بالزمالك أتأمل الوجوه عند المساء، غافلتني القهوة التي طلبتها وبردت ... جلس قبالتي عجوز بسيط بساطة الأسرى يحمل راديو في يده ينبعث منه صوت محمد الموجي: "يا غائباً لا يغيب"، يُضمّد وقته هو الآخر بالسهو، ويسكب حزنه ل"المعسّل" ويقرأ ما تيسّر له في فضول، كان يحدّق فيَّ ... تخيّلته يسألني: أيها الوحيد كيف وصل بك الأمر الى هذا الحد من التعاسة؟! - حاولت أن أجيبه: بأنني أقضي عقوبة الحياة لا أكثر !! تذكرت وجهاً حميماً يتراءى لي في كل نقلة قدم ... إستوطن العذاب مسمعي وأنا أنصت ل"الموجي": أنت البعيد القريب !! تذكرت بحزن أنه لم يعد في طاقتي البكاء ... تذكرت بحزن: أن دمعتي جرداء، وأن الليل مصفاة ضيقة ... تذكرت أيضاً: أنني احمل بطاقة حضور لسماع "سليم سحاب" وفرقته، ولم أجد افضل من تلك فكرة أضمّد بها جروح المساء. ذهبت لدار الأوبرا أهرب بين مقاعدها من غرام فرد، لأجد نفسي أقع في غرام تسعين عازفاً يقودهم فنان يحمل الزمان كخاتم في إصبعه، يحرّكه فتتغيّر الفصول الأربعة، وتخرج حصى الروح ... كانت عصا "سليم سحاب" تخلط العاشقات بالعاشقين، وينبت الفل حول أعناقهم. اشتريت أنا الآخر فُلاً في طريق عودتي من يد طفل كان يبيع الفل والمناديل الورقية جوار اشارة مرور ضوئية، ينادي على المناديل: "سمايل"، وعلى الفل: "يا فل هوّن عليه"!! كان على يميني سائق يسوّي شعره في المرآة، وفي المقعد الخلفي طفلة تحتضن دميتها وتتأمل بائع الفل ... بشر في الناحية الأخرى يصعدون الأوتوبيس لا يتعارفون، وبشر يهبطون من الأوتوبيس لا يتوادعون ... أشياء كثيرة كأنني أراها للمرة الأولى، أدوّن الآهة والحسرة والحزن وأتساءل: لماذا الكون لم يعد جميلاً كما رسمه لنا مدرّس التربية الفنية في المدرسة الابتدائية؟!! هل أصبح الزمان خصماً - يا بو وجدي - أم أن كل ذلك مجرد خواطر رجل حزين يتحدّاه الفرح؟! قل شيئاً بالله عليك ... فالصمت هو الآخر أصبح دمعة هاربة تجري غير عابئة بي!!