22 تشرين الثاني نوفمبر 1989. مقتل رئيس الجمهورية اللبنانية رينه معوض وانتخاب الياس الهراوي رئيساً. الصيدلي: تيغامت. انه بداية تقرح المعدة. عليك بالانتباه، لا تقلق من مضاعفات الألم. على أي حال أتمنى أن تتحسن الأوضاع الآن في لبنان. فالأخبار تقول ان بلادك مقبلة على استقرار طويل. هذا الأمر سيخفف من أوجاع القرحة. أتمنى أن تعود قريباً الى بلدك وأهلك. - أتمنى. خرجت من الصيدلية حاملاً الدواء. كان ذلك اللقاء الأول مع الصيدلي الانكليزي. وهو لقاء سيتكرر شهراً بعد شهر. والمشهد سيعاود الظهور مراراً. أحمل الى الصيدلي مطلع الشهر ورقة من طبيب الحي طالباً تجديد الدواء. وأخرج بعد املاء ورقة جاهزة ترسل الى دائرة في وزارة الصحة. تكرر المشهد ولم يتراكم الحوار. اعطيه ورقة الطبيب ويعطيني الصيدلي بتهذيبه الانكليزي الدواء ناظراً بعيون تمزج بين الشفقة وحب الاستطلاع. فالصيدلي يريد أن يعرف سبب القرحة، فهي تعتبر من أمراض شعوب العالم الثالث وهي قليلة الوقوع في أوروبا. ولا بد من وجود مشكلة سياسية وراء هذا التوتر الداخلي الذي يضرب اعصاب المعدة. اللياقة الانكليزية الى تقاليد عدم اختراق الخصوصية وفرا الكثير من عناء الكلام. فالصيدلي يريد الربط بين قرحة المعدة والقروح السياسية المنتشرة في منطقتنا. إلا ان الدماثة وحسن الخلق وصرامة القانون عوامل اجتمعت لتمنع سؤال الهوية. 2 آب اغسطس 1990. الجيش العراقي يدخل الكويت. الصيدلي: زانتك، دواء أقوى من تيغاميت. عليك أن لا تكترث بالاخبار المؤلمة. خفف عن نفسك. ابحث عن وسيلة لاخراج التوتر. لا تقلق من المضاعفات، كلها مسألة أشهر وتنتهي المشكلة وتعود الى بلدك. - أتمنى. كانون الثاني يناير 1992. الدولة الجزائرية تلغي نتائج الانتخابات البرلمانية وتعتقل عشرات النواب، والجماعات الاسلامية ترفض القرار، ومخاوف من اندلاع حروب اهلية طويلة. الرئيس الشاذلي بن جديد يستقيل احتجاجاً. الصيدلي: اكسيد. انه اقوى دواء اكتشف حتى الآن. القلق ما زال يوترك. عليك بنسيان احوال بلدك. لا بد من أن يعم السلام الجزائر. يقولون ان العاصمة مدينة تطل على البحر وغنية بمناظرها الخلابة. أتمنى ان تستقر الأوضاع سريعاً وتعود الى بلدك وأهلك وتشفى من أوجاعك. - أتمنى. قادة منظمة التحرير الفلسطينية يوقعون اتفاق أوسلو 1993 والولايات المتحدة تضمن عودة الفلسطينيين الى الضفة وغزة للاقامة في وطنهم في فترة قصيرة. الصيدلي: اكسيد... أيضاً. الأخبار جيدة، عانى شعبك الكثير ويحق له الآن أن يرتاح، من حق شعبك أن يستقر ويكون لكل أسرة عنوانها البريدي وهاتفها. قريباً ستحصلون على دولة وطوابع بريد ويصبح من حقك العودة الى ديارك وأهلك. أتمنى أن تستقر الأوضاع وتخف أوجاعك. - اتمنى. ايار مايو تموز يوليو 1994. اندلاع الحرب الأهلية في اليمن والدولة تنجح في كسر الحركة الانفصالية في الجنوب. الصيدلي: اكسيد... أيضاً وأيضاً. ارجح ان الاستقرار سيسود اليمن. يقولون ان صنعاء مدينة - متحف وانها ساحرة بطبيعتها ومبانيها. أتمنى أن تعود قريباً الى مدينتك وأهلك. - أتمنى. 23 أيار 1997. فوز محمد خاتمي برئاسة الجمهورية الايرانية. الغرب يرحب والقوى السياسية تتوقع عودة طهران الى محيطها وتواصلها مع العالم. الصيدلي: اكسيد... أيضاً وأيضاً. يقولون انه رجل دين متنور وانه يريد الاصلاح والمصالحة العاقلة مع المعارضة والدول المجاورة والعالم. أتمنى الآن أن تستقر الأوضاع في ايران وتعود الى طهران لتعيش بارتياح في بلدك وبين أهلك. - أتمنى. بدء عملية "ثعلب الصحراء" في كانون الأول ديسمبر 1998. التحالف الغربي الاميركي - البريطاني يقصف العراق ويوقع عشرات الضحايا بين المدنيين ومنظمات حقوق الانسان تستنكر استمرار الحصار الذي عرض حياة آلاف الأطفال للموت جوعاً ومرضاً. الصيدلي: زوتون. انه ياباني. آخر وأقوى الاكتشافات لمعالجة تقرح المعدة. يقال انه يقضي على المرض في أقل من شهر. أتمنى أن تشفى. - ... شكراً. تناولت الدواء وخرجت مسرعاً. لحقني الصيدلي الذي تجاوز الستين من عمره. الصيدلي: اعتذر عن مشاركة بلدي في قصف العراق. أرجو أن تكون المرة الأخيرة. أرجو أن يكون أهلك بخير. أتمنى أن تستقر أوضاع بغداد وتعود الى بلدك... - أتمنى. الصيدلي: زوتون... أيضاً. تفضل. - شكراً. ضجر السنوات سيطر على الحوار الدائر حول نفسه. لم يعد للسؤال معنى ولا للهوية. الصيدلي: زوتون... أيضاً وأيضاً. تفضل. - ... شكراً. الصيدلي: زوتون... تفضل. - ... شكراً. الصيدلي: ... زوتون. - ... شكراً. الصيدلي: ... تفضل. - ... شكراً. الصيدلي: ... . - ... . تلاشى الحوار وتناثرت الكلمات. فالسياسة لم تكشف الهوية، والهوية كانت أقل تعقيداً من تطور اوجاع القرحة. اذار مارس 2000. قررت الصحيفة تعزيز مكاتبها في بيروت وارسال بعض العاملين فيها الى لبنان. الصيدلي: زوتون... تفضل. - ... شكراً أيها الصديق، ربما هذه المرة الأخيرة التي أراك فيها. وداعاً. الصيدلي: لماذا. - قررت الصحيفة اعادتي الى بيروت... وطني. انكشف اللغز، واكتشفت الهوية فظهر الفرح على وجه الصيدلي الدمث. الصيدلي: لبنان، لبناني. هذه اخبار رائعة. الآن ستعود الى بلدك الجميل. البحر، الشمس، الهواء، الأهل، الأصدقاء... الأحباء. أتمنى أن تستقر وترتاح من أوجاح القرحة. - ... أتمنى. آذار 2001. عدت الى لندن لتمضية العطلة السنوية. ودفعني الضجر لزيارة الصيدلية والاطمئنان على صاحبها الطيب. ... مرحباً. الصيدلي: أهلاً. أراك بخير أيها السيد. كيف أصبحت الآن. أتمنى أن تكون قد شفيت من القرحة. - ... لا. أسوأ. * كاتب لبناني من اسرة "الحياة".