كابول سقطت. الشتاء الأفغاني يقترب. منذ 11 أيلول سبتمبر الفائت، والشتاء الأفغاني يقترب. ارتفع دخان البرجين، تساقط حديد مركز التجارة العالمية، وتناثر زجاج في أميركا البعيدة. من الركام في مانهاتن تصاعدت غيوم وغطت السماء. الكوكب كله مغطى بالغيوم. الشتاء الأفغاني يقترب. منذ 11 أيلول يقترب. في اسطنبول، ذلك اليوم، جلس رجل يحب روبرت لويس ستيفنسون وجلال الدين الرومي أمام تلفزيون في مقهى. ارتطام الطائرة الأولى بالبرج حوّل التلفزيون التركي الى ارسال مباشر من نيويورك. الرجل في المقهى رفع رأسه مع رواد المقهى الآخرين بحارة وباعة ومرضى بالسل ونظر الى الصور شبه الخيالية تعبر على الشاشة الصغيرة. كانت الحجارة تتساقط فوق هاربين مذعورين، ورأى الغبار على الوجوه، ورأى واجهات محال يعرفها. أراد الرجل أن يقف وأن يخبر الواقفين حوله انه عاش في مانهاتن ثلاث سنوات من حياته. أراد الرجل التركي، الذي كتب أكثر من رواية واحدة عن اسطنبول وعن العيش على الحافة بين الشرق والغرب، ان يشارك الآخرين اللحظة القاسية: لحظة الصدمة امام مشهد مدينة يحبها تتهدم. اكتشف، قبل أن يحرك عضلة لسانه، أن الآخرين لا يريدون ما يريده. اكتشف ان المشهد بالنسبة اليهم ليس مأساة. "ما يحدث لأميركا تستحقه أميركا"، قال له أحد الباعة في الخارج. كانت الغيوم تتباعد في سماء اسطنبول وفوق مياه البوسفور. في القاهرة، ذلك اليوم أيضاً، بلغ رجل ستيني بيته متعباً من الحر، ومن سخام عوادم السيارات، ومن وقت يعبر بلا لحظة راحة. كان يلهث بعد صعود الدرج. ارتمى على الكنبة ونظر الى التلفزيون. أحد أولاده بدّل القناة فظهر مشهد غير واضح تماماً: الهوائي كان معطلاً، أصلحوه قبل يومين، لكن الصورة تهتز. الرجل رأى على رغم ذلك مشهداً لن ينساه. رأى برجاً يتصاعد منه الدخان، وطائرة تقترب من الخلف وتميل ثم ترتطم بزاويته. ارتبك الرجل. لم يفهم معنى ما يراه. هذه حقيقة أم خيال؟ هذا فيلم سينما أم ماذا؟ أحس الرجل برداً في عظامه. ذلك اليوم، في باكستان، رجل صانع آلات موسيقية، نهض من النوم متأخراً، وعنقه تؤلمه من المخدة القاسية. فتح التلفزيون وضجيج كراتشي يجتاح النوافذ مع أشعة الشمس. بينما يفرك النعاس عن رموشه رأى في التلفزيون القديم تلفزيون بلونين فقط: أبيض وأسود، ورثه عن أبيه، بناية تحترق، وأناساً يركضون وسط سحابات غبار. كانت الصورة تهتز كأن حامل الكاميرا أسقطها. ثم سادت العتمة الشاشة. خرج الرجل الى الشرفة. في الضوء القوي تكرر المشهد في رأسه: البناية البيضاء والدخان الأسود والسماء البيضاء ووجوه الناس الملطخة بالأسود. نادى على رجال يتجمعون في الأسفل، قرب مطعم عند الزاوية. أحدهم هتف: "انهم يقصفون اميركا"، وضحك. لم يفهم الرجل ماذا يحدث. فكر انه يرى كل هذا في المنام. مرت الأيام. مرّت الأسابيع. مرّ أيلول ومرّ تشرين الأول اكتوبر. الهواء تتبدل رائحته. الشتاء على الأبواب. الرجال الثلاثة، في اسطنبولوالقاهرةوكراتشي، يتابعون منذ ذلك اليوم، الأخبار كل مساء، على الشاشة الصغيرة. وفي النهار يتصفحون المجلات والصحف ويتفرجون على التلفزيون أيضاً. ثلاثة رجال؟ ملايين البشر. بعد القراءة عن نيويورك قرأوا عن أفغانستان. بعد القراءة عن أفغانستان قرأوا عن الحرب. الحرب بدأت. الضربات الجوية تتبعها هجمات برية. لا بد من هذا. على رغم الضحايا البريئة التي قد تسقط. لا بد من هذا. "الايكونيمست" جعلت غلافها في مطلع تشرين الثاني نوفمبر واضحاً: صورة الطفلين الأفغانيين والكلمات الانكليزية الباردة كالثلج. قد يسقط أبرياء لكن الحرب ضرورية. لا مجال للتراجع. حين تُضرب دولة عظمى فعليها الانتقام. وإلا ضاعت الهيبة. ثم ان العالم يجري وفقاً لقوانين. وبلا قوانين يتحول العالم غابة. العالم ليس غابة. والشتاء يقترب. البرد والزمهرير والعاصفة. أهل الجبال يلجأون الى بيوت حجر، ويشعلون حطباً في المواقد. منظمات الإغاثة الدولية تخشى مجاعة في أفغانستان. عما قليل تتساقط الثلوج. وحين يغطي الجليد الأرض تُعزل الجبال الأفغانية عن العالم. سقوط كابول المباغت قد يؤمن أغذية للمحتاجين. لكن من يحفظ أمن كل هؤلاء البشر في تلك البقاع النائية؟ كابول ليست نيويورك.