كان من الواضح منذ البداية أن هذه المقالة لن تكون، في ظل الوقت المتاح لإعدادها، سوى محاولة أولية لموضوع جديد، متعدد الجوانب، يحتاج في تشعبه وأبعاده إلى بحث أشمل وأعمق. فالملك فهد بن عبدالعزيز وإن كان قد تولى أمانة هذه الأمة منذ يوم 13/6/1982م فإنه في الحقيقة، كان يمارس صلاحيات واسعة في الحكم والإدارة، فوضها إليه سلفه الملك خالد طوال سنوات حكمه الثماني، بل إنه منذ عهد الملك فيصل، كان يشارك مشاركة فاعلة، ويسهم إسهامات بالغة الأهمية، من خلال موقعه الذي كان يحتله بوصفه نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للداخلية، ومن هنا فإن أي بحث يتناول جهود فهد بن عبدالعزيز لابد أن يشمل جهوده أميراً وملكاًً، وأن يبدأ البحث فيه منذ عام 1373ه في الأقل عندما اختير وزيراً للمعارف. لكن الإطار الموضوعي للعنوان يفرض مجالاً زمنياً معيناً ويتطلب حصر الحديث في العقدين الماضيين، اللذين انعقدت فيهما راية البلاد بيد خادم الحرمين الشريفين، وقدم فيهما للإعلام جل ما كان في وسعه أن يقدم، وحازت فيهما كل وسائل الإعلام -الخاص منها والعام- على نصيب وافر من تفكيره واهتمامه، أسوة بما كان يعطيه لكل نواحي الحياة في المجتمع السعودي. أما المدخل الحقيقي لهذه المحاولة الأولية للتوثيق كما أسميتها، فهو أن فهد بن عبدالعزيز، كما عرفه وزراء الإعلام الذين تعاقبوا على العمل معه خلال العقود الماضية، والعقدين الأخيرين بخاصة، وكما عرفه القريبون منه، كان رجل إعلام من طراز خاص، فهو يعرف رجال الإعلام، ويعيش ظروفهم، ويقف إلى جانبهم، ويقيل عثراتهم، ويقدر العوائق التي تواجههم، ويتسع صدره لزلاتهم، وهو الذي بمقدار ما تسوؤه أخطاؤهم سرعان ما يتجاوز عنها تفهماً منه لطبيعة عملهم والصعوبات التي تقف أمامهم. وهو يلم بكل قواعد المهنة، يشاهد ويستمع ويقرأ ويتابع ويتصور ويتذكر ويشرف، ويمد العاملين في هذا الحقل بالتوجيه والتشجيع والأفكار، وقد يشاهد مادة وثائقية أو برنامجاً ذا قيمة تاريخية أو سياسية مهمة. كان للملك عبدالعزيز، كما هو معروف، أسلوبه الخاص في التعامل مع الصحف ومع الإذاعات ومع رجال الفكر والإعلام، وقد تناولت ذلك في بحث مقدم للمؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس المملكة 25/1/1999م ، وكان لخلفه الملك سعود والملك فيصل والملك خالد طرقهم الخاصة بهم، اذ كانوا يشاهدون التلفزيون ويتابعون الإذاعات ويقرأون الصحف، كما كانوا يطلعون، أولاً بأول، على التقارير الإعلامية، وعلى وقائع رصد الأخبار، وخلاصات الاستماع السياسي. وللملك فهد نمطه الخاص في تلقي الأخبار، ومتابعة المستجدات، وكان يشجع المسؤولين في وزارة الإعلام والسفارات على أن يطلعوه على الأحداث المهمة مهما كانت ظروف راحته، ويتوقع منهم أن يمدوه بآخر تطورات الأزمات المؤثرة، مهما كان الوقت الزمني الذي تحدث فيه تلك التطورات. من هنا فلا غرابة إذا ما عرفنا أن الملك فهد، ومنذ أن كان ولياً للعهد، قد التزم تقليد اللقاءات الدورية مع الأسرة الإعلامية ورؤساء تحرير الصحف، كلما حدث موجب يستدعي ذلك، يضعهم خلالها في صورة متكاملة للأحداث الجارية، داخلية كانت أم خارجية، وهو بالأسلوب نفسه يخصص جزءاً من وقته للالتقاء بمرافقيه المراسلين، ويعقد المؤتمرات الصحفية أثناء زيارته الرسمية في الخارج. * * * لقد مرت فترة غير قصيرة خيم فيها على الإعلام جو التكتم وحجب المعلومات وابتعاد وسائله عن صنع الأحداث، حتى صارت السرية هي القاعدة، وإذا ما قدر للمعلومة أن تنشر، فإنها تظهر بمقدار محدود من التفاصيل. لم تكن فكرة المؤتمرات الصحافية واطلاع وسائل الإعلام على خلفيات الأحداث وتفاصيلها واردة، وكان من تقاليد الإعلام وسماته ألا يتم التطرق الى أخبار الحوادث الجنائية والطبيعية، وذلك للاعتقاد بأنها ليست مما يناسب النشر. وظل الإعلام العربي بعامة والسعودي بخاصة، لأسباب ثقافية تشترك فيها معظم المجتمعات الشرقية التي تخضع فيها وسائله للدولة وتوجيهها، ينظر إلى ما يعرض في وسائل الإعلام نظرة متحفظة، تفرق بين ما يصلح للنشر وما لا يصلح، وتمايز بين ما يخصص، في حال نشره، للإذاعة أو التلفزيون أو للصحافة، وهي نظرة مغايرة لما تطبقه وسائل الإعلام في الغرب، حيث يكون الأصل في المعلومة قابليتها للنشر، وعدم وضع أي قيد على عرضها، وهي سمات يطول الحديث فيها. لكننا للإنصاف، نصل إلى حقيقة تؤكد أن وسائل الإعلام السعودي بالذات، بدأت تدخل في مرحلة متدرجة من الانفتاح الإخباري والمرونة في الرقابة، حتى أصبحت فترة التريث في عرض الخبر تقاس بساعات أو حتى بجزء من الساعة بدلا ًمن الأيام. كما بدأت الصحافة الأهلية تتناول كثيراً من الأحداث بالتحليل، وتنقب ذاتياً عن الأخبار من مصادرها الأخرى، وتلتمس طريقها نحو مواقع الأحداث دون الاعتماد كلياً على المصادر الرسمية للأخبار. وهي ظاهرة ملموسة بدأت معالمها تتضح سنة بعد أخرى منذ أحداث الحرم المؤسفة 1980م مروراً بحرب الخليج وأخيراً بحرب أفغانستان. وتغيرت مفاهيم الرقابة والنظرة إليها تغيراً ملحوظاً منذ صدر نظام المطبوعات والنشر سنة 1982م، بما حمله من تخفيف القيود المفروضة على دخول المطبوعات وتداولها، ثم بدأت ظاهرة برامج البث المباشر تعم الإذاعة والتلفزيون بأسلوب لا يسمح بالرقابة المسبقة على تلك البرامج. ولا شك أن دخول المملكة إلى عالم الإنترنت سنة 1997م وتيسير تبادل المعلومات عبر الشبكة العالمية هو أمر يحمد للجهات المسؤولة، حتى صارت المملكة إحدى الدول الرائدة في المنطقة في استخدامها، من دون الإخلال بالثوابت الأخلاقية والعقدية، بل أصبح من اللافت أن الجهات المسؤولة عن الشؤون الإسلامية كانت الأسرع في الإفادة من المعطيات التقنية للعصر والتعامل معها. أما على صعيد التنظيمات "التشريعات" الإعلامية التي صدرت منذ تولي الملك فهد بن عبدالعزيز مقاليد الحكم في البلاد، فهناك جملة من الأنظمة واللوائح المنظمة لشؤون الإعلام، يأتي في مقدمتها على الإطلاق السياسة الإعلامية للمملكة، التي صدرت في 1982/9/9م، وهي وثيقة من 30 مادة ترسم الخطوط العريضة لمسيرة الإعلام، وتحدد الضوابط الدينية والأخلاقية لمنهجها، وتوضح المرتكزات الثقافية والمهنية لأداء وسائل الإعلام. وفي 1989/12/17م، صدر نظام حقوق المؤلف، الذي يعنى بحماية الحقوق الفكرية وتقوم وزارة الإعلام على تنفيذ مضامينه. وفي 1992/3/11م صدر نظام الإيداع، الذي تشترك وزارة الإعلام ومكتبة الملك فهد الوطنية في تنفيذ بنوده، التي تنظم عملية دعم إيداع نسخ من الإصدارات والمطبوعات السعودية في المكتبة الوطنية. وفي مطلع شهر رمضان المبارك من العام الماضي 1421ه صدرت صيغة جديدة "خامسة" من نظام المطبوعات والنشر، وحملت مزيداً من الانفتاح والمرونة على صعيد رقابة المطبوعات وتداولها. وفي هذا العام 2001/7/16م صدرت صيغة مطورة "ثانية" لنظام المؤسسات الصحافية، الذي يعطي صلاحيات داخلية جديدة لهذه المؤسسات، ويخفف من وصاية وزارة الإعلام عليها، ومن المعلوم أن المؤسسات الصحفية الثماني التي تأسست في المملكة عقب صدور النظام لأول مرة سنة 1964م قد أضيفت إليها مؤسسة صحفية تاسعة في جنوب البلاد، وأصدرت صحيفة الوطن قبل ما يزيد على عام. * * * أما على صعيد البنية التحتية الأساسية لوسائل الإعلام، فإن من أبرز ما تحقق منها خلال العقدين الماضيين الانتهاء في سنة 1982م من تشييد المركز الرئىسي للتلفزيون في الرياض، وهو مركز يضم ما يزيد على عشرة استوديوهات تلفزيونية وإمكانية للبث من ثلاث قنوات لا يستخدم إلا اثنتان منها حتى الآن. وتعلمون أن القناة التلفزيونية الثانية قد انطلقت في 12/8/1983م وهي قناة تلفزيونية تسند الأولى أثناء المناسبات الدينية وتوجه نسبة من برامجها للجاليات الأجنبية. واحتضنت المملكة في سنة 1985م فكرة إنشاء القمر الصناعي العربي عربسات حيث يوجد مقر المؤسسة ومركز التحكم الرئيسي لها في الرياض، وكان لإنشاء هذه المؤسسة بأقمارها الصناعية المتتالية في أجيالها المطورة، دور كبير ليس فحسب في ربط المملكة -هاتفياً وإذاعياً وتلفزيونياً- بالعالم العربي وبالعالم أجمع، لكنه ساعد أيضاً في ربط أنحاء المملكة بعضها ببعض داخلياً. وفي العام الماضي 2000م أعلنت مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية عن إطلاق قمرين صناعيين سعوديين تم بنائهما في روسيا، وقد أخذا مدارهما بنجاح، ووضعا في خدمة مختلف الأغراض الاتصالية: الهاتفية والإذاعية والتلفزيونية. ولقد أتاح إنشاء المؤسسة العربية للأقمار الصناعية عربسات سنة 1985م إمكانية جديدة للقطاع الخاص في المملكة أن يقتحم آفاق الإعلام الخارجي من أوسع أبوابه، وكان أول المستفيدين من هذه التقنية هي الشركة السعودية للأبحاث والتسويق التي تصدر جريدة "الشرق الأوسط" ورصيفاتها الثماني عشرة من المطبوعات الصحفية. لقد انطلقت نواة هذه الشركة سنة 1974م من جدة بإصدارها جريدة عرب نيوز Arab News ثم تكون مركز الشركة في لندن، وذلك لإصدار جريدة الشرق الأوسط سنة 1978م لكنها سرعان ما أقامت مراكز صحفية وشركات مساندة ثم توجت جهودها بالحصول على ترخيص من وزارة التجارة في فبراير2000م لتحويل المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق الأم القابضة إلى شركة سعودية مساهمة، وكانت بداية جريدة الشرق الأوسط بداية حقيقية سماها الكثيرون الحقبة السعودية للإعلام في الخارج. وكان من أبرز المستفيدين منعربسات أيضاً مركز تلفزيون الشرق الأوسط إم بي سي M.B.C الذي أنشئ في لندن في ديسمبر 1991، وتبعته الإذاعة M.B.C - F.M. بعد ذلك بعامين، وذلك بخلاف تسيير إذاعتين باللغة العربية، في لندن وواشنطن، وعدد من الشركات الإعلامية المساندة. وفي عام 1993 أطلقت الشركة العربية الإعلامية القابضة البريطانية الجنسية مشروع راديو وتلفزيون العرب A.R.T بعدد من القنوات التلفزيونية مع عدد كبير من الشركات الإعلامية المساندة الإذاعية والتلفزيونية والصحفية والمعلوماتية المنتشرة في أنحاء العالم. وامتد رأس المال السعودي الخاص الطموح إلى بيروتولندن، عندما انتقلت جريدة "الحياة" اللبنانية إلى حيازة الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز منذ عام 1990، ثم أصدر مجلة "الوسط" بعد ذلك بعامين، وأصبحت كما تعلمون تطبع منذ عام في المملكة بعد أن فتح المجال لكل الإصدارات ذات الملكية السعودية بالطباعة داخل المملكة. وأخيراً نستشهد بمجموعة الموارد السعودية التي أنشأت سنة 1994 شبكة "أوربت" للبرامج المشفرة، تتكون من حوالي 50 قناة إذاعية وتلفزيونية، وتتخذ من القاهرة وإيطاليا وقبرص مقراً للبث والمراقبة والإنتاج. وكان مجلس الوزراء قد أقر في 6/10/1982 استراتيجية الإعلام الخارجي وتكوين لجنة للإعلام الخارجي، تم دمجها في المجلس الأعلى للإعلام بعد ثلاثة أعوام في 1/10/1984، وكان من أبرز مظاهر أساليب الإعلام الخارجي بعثات وفود الصداقة المتتالية إلى الخارج، وإقامة معرض المملكة بين الأمس واليوم في عدة عواصم دولية. أما على صعيد الدراسات الإعلامية فكان من أهم ما أضيف إلى أقسام الإعلام في الجامعات السعودية إنشاء قسم للإعلام السعودي في جامعة أم القرى، وكلية الدعوة والإعلام في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سنة 1985م. * عضو مجلس الشورى السعودي.