الصحافة العالمية، خصوصاً وسائل الاعلام الأميركية، تعيش أزمة حادة تواكب ما يجري اليوم على أرض افغانستان. فهذا الاعلام، الذي لم يتوقف عن تلقين دروس للعالم اجمع منذ فضيحة ووترغيت، يجد نفسه وقد زُج في تناقضات عدة لا مجال فيها للتحايل أو اللعب. فالتوجهات التي تفرضها الادارة الأميركية، والأوامر التي يصدرها الجيش الأميركي، ورغبة الجمهور الأميركي في دعم سلطاته، تعني ان أية وسيلة اعلام تنتقد بشدة الممارسات الاميركية ستخسر العديد من قرائها ومشاهديها. اضف الى ذلك حاجة هذا الاعلام الى تقديم قصص وصور يومياً. وكل ذلك لا يسهل مهام هذه الصحافة التي غدت محط انتقادات مبررة وغير مبررة تستلذ بها الصحافة العالمية المكبوتة على يد رقابتها الذاتية والأنظمة القامعة للحريات التي تجد في ما يجري اليوم على الساحة الاميركية التبريرات الكافية لسياستها. "انتبه الى ماذا تكتب"، قالها اري فيشر، الناطق باسم البيت الأبيض لمراسل "نيويورك تايمز". سنة 1996، صرح الجنرال كولن باول الى احد الصحافيين، بأنه لو كانت اميركا كانت على شفير هزيمة حربية وكانت وسائل الاعلام كانت تتكلم عنها، لكان زج في السجن الصحافيين فيما كان الشعب قد هلل لذلك. خمس سنوات مضت على هذا الاعتراف وها هو اليوم قيد التطبيق. ورغم ان الاعلام الأميركي اليوم عاجز عن تحقيقات ميدانية ناقدة للسياسة الأميركية، أو حتى عاجز عن الوصول الى أرض العمليات العسكرية، الا ان الصحف ما زالت تتسلم عشرات المكالمات الهاتفية من الادارة الأميركية تطالبها فيها ب"الاعتدال"، وعدم سرد خبر ما قد يزعجها أو يضعف إيمان الرأي العام. وهناك اليوم جهاز يدعى Pentagon News Network يشرف على ما تكتبه الصحف ويدلي بتعليماته كلما احتاج الأمر، والجمهور الأميركي يبدو متكيفاً مع هذه السياسة. فبحسب استقصاء قامت به صحيفة "لوس انجليس تايمز" ظهر ان 59 في المئة من الأميركيين يقرون بأن على السلطة العسكرية بسط رقابة أقوى على الاعلام الأميركي وهو يغطي احداث افغانستان. فالمثال المتبع اليوم في تغطية الحرب قد استُقي من... حرب الفوكلاند سنة 1982 حيث نجحت مارغريت ثاتشر في تقديم صور للحرب غير محقونة بالدماء، والحد من وصول الاعلام الى ساحة المعركة، ومن ثم احكام الرقابة على كل خبر قد يقلق المواطن البريطاني، وعدم البوح بأي شيء لصحافي يشتبه بانه قادر على انتقاد سياسة ثاتشر في الفوكلاند. في هذه الحالة ماذا يبقى للاعلام الأميركي والغربي سوى التشديد على احداث تجري بعيداً عن افغانستان! بالطبع يتصدّر الخوف من الانتراكس الذي يسيطر على ريبورتاجات الاعلام السمعي - المرئي الاميركي على حساب معارك افغانستان والقصف والتشريد والتهجير وكل الويلات الانسانية التي تعيشها هذه المنطقة. بيد ان داء الانتراكس، الذي قد يكون جزءاً من الحرب بين "طالبان" واميركا، لم يحتل وحده اولويات النشرات الاخبارية. فأي حدث جزئي، كمجنون يطلق النار على جمع في مدينة فرنسية، أو مصرع رياضية في جبال النمسا... "ينجح" في التغلب اعلامياً على حرب افغانستان. اما الصورة "المفبركة" القادمة من ارض المعركة كتصوير جرحى أفغان بينما هم في الحقيقة جرحى باكستانيون من حادث سير، أو اطفال غجر كأفغانيين يتسوّلون لقمة العيش في شوارع المدن الباكستانية الخ... فهي غدت أضحوكة الصحافة العالمية والعالم الثالثية، بعد عقود من الانبهار بالاعلام الأميركي. غير أن هذه الصحافة في العالم الثالث وفي دولنا التي تسخر عن حق من وسائل الاعلام الغربية، ماذا تقدم بدورها للجمهور؟ السؤال يُطرح خصوصاً أن حرب افغانستان أظهرت للعالم وجود رأي عام عربي عبّرت عنه ظاهرة "الجزيرة" ووسائل اعلامية أخرى، وبدأ يؤخذ في عين الاعتبار في التحالفات الدولية الجارية. لنأخذ دولة كالمغرب، بعيدة نسبياً عن منطقة المعارك، ولم تشهد مظاهرات فعلية على ما جرى في دول اسلامية أخرى، أو حتى كما كان الوضع في المغرب خلال حرب الخليج. ماذا يقول الاستقصاء المغربي الأخير؟ 87 في المئة يؤكدون ان بن لادن يدافع عن الاسلام، لكن 75 في المئة يعتبرون ان مرتكبي الهجوم على المدن الأميركية لا يمثلون الاسلام، والغالبية الساحقة من الشعب المغربي، اي 9 من أصل 10، هم ضد الحرب في افغانستان. الصحف المغربية تحدثت عن الهوة التي تفصل القيادة السياسية عن المجتمع المدني. بيد أن مسؤولية عدم الوضوح في الأفكار لا ترجع فقط الى المؤسسات الحكومية، بل تقع ايضاً على عاتق الاعلام المغربي. فالصحافة المغربية تذكّر احياناً بالتلفزيونات العربية التي وضعت على عاتق المسلسلات الاجنبية مهام ادخال الحداثة الى مجتمعاتها، عوض أن تغرس الحداثة في البرامج والمسلسلات التي تنتجها. مجلتا "لوجورنال" و"دومان" المغربيتان اللتان ظهرتا في السنوات الأخيرة بخطاب جديد ومشوّق اعتمدتا هذا الاسلوب في صفحاتها. "لوجورنال" لجأت الى مقالة من صحيفة "لوموند" الفرنسية للتحدث عن النقد الذاتي المتوجب على المجتمعات العربية، والمجلتان نشرتا مقالة من صحيفة "الباييس" الاسبانية تنتقد مستشار العاهل المغربي اندريه ازولاي، وكأن هذه المقالة الاسبانية أتت لتعطي نقد المجلتين شرعية ما. الا أن التناقضات لا تتوقف عند هذا الحد. اذ ان في العدد ذاته من مجلة "دومان" مقالة، في الصفحة الأخيرة، تهاجم اسبانيا واعلامها وتشكك بحرية الصحافة في مدريد! انه تشكيك يغذيه اليوم تخبط الاعلام الغربي في جبال افغانستان.