لو صادفتَ في هذه الايام قولاً أو نصًا قليل الذوق والدقة، وكثير الشمولية والالتباس، ينوب صاحبه عن "الشارع" أو "الشعب" أو "الجماهير"، ويكون وفياً لهم في كل نبضة من نَبَضاته خشية غضبهم: يشهر حقه في وجه عدوه بالعنف اللفظي المطلق، ويمعن في تذكّر أبعد مظالمه وشروره... لو صادفتَ قولاً أو نصًا نرجسيًا، يتباهى صاحبه بتهافته وتفاهته، وينضح بما يشبه التلذّذ بالكذب "الذكي"، فيه الكثير من الصمت والصراخ في آن... فاعلم أنك أمام قول أو نص غوغائي: يهبط قليلا في مستواه فيظهر صراحةً أمام الملأ، أو يرتفع كثيرا، فيبدو أنيقا ومرهفاً، فيفوت على الكثيرين. لكن شكلي الغوغائية، الهابط والمترفّع، مُشبعان بالابتذال والافتعال. ومن مأثورات الغوغاء انهم أعطوا معنى للارهاب ووضعوا بطله في صفوف الاتقياء الصالحين، من دون التردّد في الوقت نفسه في إنكار مسؤوليته عن هذا الارهاب. فقد ربطوا بينه وبين الظلم الاميركي والكراهية الشائعة ضد اميركا، فوسعوا فجوة الكراهية عبر المزيد من التشديد على الفروقات "الجوهرية" القائمة "بيننا" و"بينهم". واستعجلوا سقوط اميركا، من دون إيضاح أسباب رغبتهم هذه، ولا بالتالي تخيّل العالم من بعد هذا السقوط، مع انهم ما أن سمعوا رئيس عدوّهم جورج بوش يتلفظ بكلمة "صليبية" حتى راحوا يزفّون للعالم أجمع أنه مثلهم يدعو الى حرب دينية. فبالغوا في المزيد من النار والدمار اللفظي وتمَسْكَنوا، و أصروا على المزيد من المَسْكَنة، الرتيبة والمملّة، التي تسحب الحياة من الواقع، فتُميته مئة ميتة، بعدما كابروا و جاهدوا وكرّروا التحدّي الذي رفعوه أيام صدام، منذ عقد تماما، من ان المهم الوقوف في وجه اميركا... و لا شيء آخر يهم بعد ذلك... إن شاء الله يكون "بطلنا" معتوها، مختلا أو مريضاً. يكثر الغوغاء بيننا هذه الايام. فنحن مجتمعات "إجماعية"، ترى أن عدم الاختلاف في الرأي، وخاصة الرأي السائد وسط "الشارع" و"الجماهير"، شرط من شروط التحامها ووحدتها، وتاليًا إنتصارها. نشبه القبيلة الكبرى، الهوية الواحدة فيها هي قاعدة النظر للأحوال والامور. يجب ان نكون فيها كلنا متفقين، وإلا هُزمنا: في العائلة، كما في الحي، كما في المؤسسة... والوطن. هناك دائما "نحن" و"هم"، من أصغر حلقة حتى أكبرها. كما في القبيلة "أنا و أخي على ابن عمي وأنا وابن عمي ضد الغريب". لذلك فان الإجماع التام على الفكرة يصبح كالقبول بالانتماء، فيما الاختلاف حولها يفرط عقد هذا الانتماء و يسلخ عن الجماعة: انك لا تفكر مثلنا، إذن أنت لست منا. أما من أين يأتي الإجماع؟ فيبدو احيانا كأن قوة غير مرئية اذاعته وسط الناس. والمؤكد ان الناس ليسوا هم الذين صاغوه، إذ من أين لهم المجال والاقنية التعبيرية؟ والارجح بالتالي ان يكون الاجماع من صناعة المُمْسكين بالمعاني، بالاعلام خاصة... والذي لا نعرف ل"الناس" أو "الشارع" أسهماً فيه، تضاهي أسهم حكامهم. إلا ان مجتمعاتنا لم يكن لها ان تبلغ هذه الدرجة من "الإجماعية"، لم يكن للغوغائية ان تنبث في ثنايا عقولها المدبّرة والمفكّرة خاصة. لو لم تُبتلَ بعبئها الثقيل. لو لم يشهد تاريخها القريب تضافر عنصرين من العناصر المولّدة للغوغائية والداعمة ل "ثوابتها" المستمدة من "الشارع" أو "الشعب" أو "الجماهير". أول هذين العنصرين الحروب نفسها. فمجتمعاتنا لم تتوقف، على مدار نصف القرن الماضي تقريباً، عن ان تكون معنية بها. بل ان عهودها قامت على أنقاض الحروب، فخاضت هذه العهود الحروب على اشكالها، و هي ما زالت حتى الآن بصددها، لا تجهر صراحة بالسلام الذي تتوق إليه أو الذي حقّقت بعض أوجهه. ولا هي مستعدة للحرب بالمعنى الذي يروّج لها غوغاؤها، لكنها تحتمي خلفه، بل تحييه بمنحه الحرية في التعبير ضاربة بذلك عصافير عدة، منها الشرعية لعسكرها وحب الشعب لهم... وهما أقوى من أي اقتراع! اما العنصر الثاني المعزّز للغوغاء، فهو المناخ الذي صخّ المعاني طوال الحقبة الاستقلالية، وصارَ عمره الآن نصف قرن أيضاً... فالتعبير السياسي الوحيد المسموح تكراره أثناءها، كان وما يزال العداء السافر والفظ لاسرائيل واميركا... وإن كان هذا السماح يتسم بالكثير من الالتباس و "الديبلوماسية" عند السؤال. فالدول شيء، في زعم هذا العداء، والشعوب شيء آخر. الدول رصينة وعاقلة، والشعوب مجنونة وعاطفية. فتركيز التعبير السياسي على هذا العداء، وتكراره طوال عقود، أضفى على العواطف السياسية الكارهة نبلاً ووفاءً. فتمتع الكاره برضا الجماعة عنه واحتضانها الدافئ له. كل ذلك طبعًا على حساب العقول السياسية النائمة نومة جميلة في الغابة، بحيث لا ينقذها غير "بطل" لا يهاب الموت من اجل ايقاظها!، "بطل"، ينتظره الغوغاء بلهفة وقلة صبر... ثمة شيء آخر طرأ على الغوغائية، انطلق يوم انطلاقة قطار العولمة السريع، أي منذ عقد تقريبا. يومها دوهمت الغوغائية في غفلة من امرها: كرْهها لأميركا جعلها تتطبّع بأكثر أنماطها الفكرية رواجًا عبر قنوات العولمة نفسها، السريعة والبالغة كل بيت. فزادت اختزاليتها الفكرية وغفلتها الذهنية، وقَذَقها فقرها الثقافي الاصلي في سوق الافكار السريعة والجاهزة والقابلة للرمي في اية لحظة، حتى لو نطقت باسم "الثوابت" التي كلّفها "الشعب" الذود عنها... هكذا ارتفعت درجة عنفها وعرضت عضلاتها وأصيبت بمرض الموت، فمشتْ وراءه. هكذا وبفضل العولمة، أضيف على الغوغاء المزيد من الحدّة والشراسة، اللفظية خصوصا، فاستأهل اول مجنون صاخب وقاتم لقب "البطولة" لدى الغوغاء... وإن بمواربة يفهمها أهل التقية... وهم الاغلبية بين أهلنا. ولم يكن ينقص الغوغاء ليسود سيادة شبه مطلقة غير إستعار البطش الاسرائيلي واشتعال الحرب الاميركية على افغانستان. فأخذ مجده الأعلى، وحازَ على المزيد من الانصار، المعلنين منهم والمقنّعين، فاستأثر بكل الافكار تقريبا، ولوَى الكثير من الوقائع، وبالغَ طبعاً في إنكار العيوب المتربصة بنفسه، فسادَ ضجيجه، وخفتَ صوتُ عقله... أميركا سائرة الآن في الطريق نفسه الذي عرفته مجتمعاتنا "الإجماعية": تعرضت لإعلان حرب، فانجرّت اليها بحماس القوة العظمى ذات الكبرياء المجروح... ولا مجال عندها للتراجع عنها على الاطلاق... إنها في حرب وطنية! لذلك أكثرت إدارتها التحرّش والضغط والغمز واللمز على مؤسساتها ومؤسسات غيرها الاعلامية - أداة معرفتنا بالحرب -، وأصدرت القوانين الاستثنائية الطارئة، التي بدَتْ أليفة لدينا، وجمعت القبيلة الاميركية الواحدة تحت راية الوطن فصاغت الحرب على انها من اجل "حريته"... وصارَ تناول الرئيس بالنقد، مثل المساس بثوابت الأمة. نكص في الوفاء للوطن. فحفل خطابها الرسمي منذ بداية حملتها العسكرية وقبيلها، بقلّة الذوق والمعرفة والدّقة، وبكثرة الشمولية والالتباس. غير ان الغوغاء الاميركي يافع. ليس مثل غوغائنا المخضرم. ففي أميركا ما يزال هناك الكثير من الاقلام الناقدة لسياسة إدارتها الرسمية، والمتيقّّظة لفداحة الحرب وخطورة أسرارها. وهناك الجمعيات الاهلية والمؤسسات المناهضة للحرب. أي ان هامش الحرية من الغوغائيين، "مندوبي الشعب" والخائفين منه، وعدم الرضوخ لإبتزازهم، ما يزال قائما بالرغم من استمرار الحرب... لكن الخطر الذي يهدّد هذه الاصوات القليلة، ليس تطورات الحرب نفسها فحسب، بل غوغاؤنا نحن، والذي قد يذهب، طالما ان المناخ مواتٍ، والحرب دائرة، الى المزايدة، بعد الارتواء من الابتزاز... وتكون النتيجة تشجيعا وحثّا على ارتكاب حماقة اخرى مثل تلك التي ارتكبها بن لادن، أو ربما أفظع منها. فتُلغى ساعتئذ تماما الاصوات الاميركية الناقدة للحرب، والداعية الى السلام، ويسود الغوغاء الاميركي، الاعظم والانظف. فيعمّ الخراب الفريد الذي أين منه الخراب الذي تكون غوغائيتنا قد صفّقت له وغذّت التوق اليه...؟