نحن نكره الولاياتالمتحدة ونحب ان نكرهها. ونحن دائما غاضبون منها، من عدوانيتها وغطرستها وكيلها بالمكاييل المختلفة. ندعم هذا الكره ونحثّ أنفسنا على المزيد، لعلّ ذلك ينصرنا عليها. ونحن لا نريد ان نعرف عن أميركا غير وجهها القبيح، نكثر من التربص برذائلها. لعل ذلك يعلي من شأننا الاخلاقي فيميزنا: هي ظالمة ونحن مظلومون، هي كافرة ونحن مؤمنون، هي مشتّتة ونحن متضامنون، هي تعبد المال و نحن لا نعبد غير الله. وهذه من أوجه التكبّر المدعِّمة لبُغضنا. نكره الولاياتالمتحدة ايضا، ونعتقد ان هذا الكره دليل "جذريتنا" في التفكير. ذلك ان الجذرية عندنا تعني الاقصاء والامحاء وقلب الطاولة. لذلك فان ذروة "نضالنا" ضدها في تظاهراتنا. في حرق علمها، أي القضاء - الرمزي - على هويتها. بل بعضنا يفضّل سحقها بالدوس على هذا العلَم برجليه إمعانا في إذلال تلك الهوية، قبل القضاء عليها. فنحن نكرهها جماعة. في العلن وأمام الملأ وباعتزاز... نكره الولاياتالمتحدة الى حد ان لنا الحق، ملء الحق، في التعبير عن كرهنا لها. ففيما نحن محرومون من التفكير والتعبير عن اشيائنا الحيوية، الراكدة في يومياتنا العادية والاستثنائية، فان لنا ملء الحق، في المقابل، في ان نكره الولاياتالمتحدة الاميركية... وإلا كنا من المتخاذلين أو العملاء أو الجواسيس. لذلك ترى رسميين كُثُراً بيننا، "يتشددون" ازاءها، فتصبح شعبيتهم قائمة على بغضهم لها. وترى أيضا مغنين شعبيين ينتشرون وتنتشر كالبرق أغانيهم الكارهة لها. ومقدّمي برامج، في أقنية رسمية، تحولوا الى نجوم لشدة هجومهم عليها، إذ فضحوا عدوانيتها وغطرستها... فكانت مواقفهم حقاً مشرّفة! فوق كل هذا نحن نكره اميركا اكثر مما نحب الاسلام السياسي، بدليل ان المرء منا لا يمكن ان يكون اسلامياً من دون ان يكون كارها لأميركا. لكنه يستطيع ان يكرهها من دون ان يكون بالضرورة إسلاميا... وهذه قناة قوية قائمة بين الاسلامية والكره لأميركا. بسبب كل هذا الكره لأميركا، غابت عنا البصيرة. وأصابت، من بين من أصابت، عدداً لا بأس به من العقول المفكرة بيننا. فتخبّطت هذه العقول، وبدا كأن تفجيرات نيويورك أفقدت اصحابها الميزان. أحدهم وهو من الكبار ومن غير الاسلاميين، لخص مشاعر مواقف العديد من زملائه حول هذه التفجيرات، فكتب عن منفذيها بعدما عبّر سريعاً عن أساه على الضحايا البريئة: "هناك أيضا الشعور بالحزن والمرارة عندما يتصور المرء ما لا بد ان يكون سيطر على مشاعر منفذي هذا الحادث عندما استبد بهم اليأس والاحباط، لما يواجههم او يواجه اوطانهم او دينهم من إذلال ومهانة، ففضلوا الموت على الاستمرار في تحمل هذا الذل وهذه المهانة". ثم تابع مستنكراً الاتهامات التي وقعت على المشتبه بهم، مستنتجاً: "ويستسهل المسؤولون في هذه الدولة الرهيبة الاشارة الى المشتبه فيهم لا بأشخاصهم بل بجنسياتهم ودينهم"... فلم ينتبه الى مفارقة سبقه اليها غيره من الزملاء، والارجح انهم سوف يتابعون. وقوام هذه المفارقة ان الذين نفذوا التفجيرات واضحو الهوية، ما دام ان الكاتب التقط، بحسه المرهف، نبضاتهم العميقة، بل انتماءاتهم الوطنية. لكن اتهام أميركا لهم بالتفجيرات مرفوض في الوقت عينه. انه يريد ان يقول لنا إنه يعرف تماما منفذي عمليات التفجير، يشير الى حوافزهم النبيلة والعميقة، يكاد يتمنى لو كان معهم، لكنه يرفض الاشتباه. فالارهابيون الذين يعرفهم هو، هم حتماً براء من الجريمة، ولو اقترفوها بمباركته الكريمة! هذا التغييب للعقل لا يأتي إلا في حال الكره الشديد، والمنعقد حوله إجماع استثنائي في مجتمعات يصعب أصلا على افرادها الاتفاق على أتفه الامور. لكن لماذا كل هذا الكره لاميركا؟ او بالاحرى: متى تحولت مناهضة الامبريالية الاميركية من فكرة "مشروع" معارض، رائجة في أوساط محددة، يسارية في الغالب، إلى فكرة يلتقي حولها الجميع، من أنظمة حاكمة، الى نخب مفكرة وقارئة، الى مجمل الشعب؟ الأرجح ان الكره لأميركا تحول منذ عقد الى ايديولوجيا سائدة تقوم على ركيزتين قويتين. الاولى طبيعة الهيمنة الاميركية نفسها التي لا جدال حول آثارها البالغة على البشرية، وعلينا بالخصوص. وهذه نقطة لا نحتاج الى التوقف عندها كثيرا، فكلنا يعرفها: من أبسطنا الى أفصحنا. أما الركيزة الثانية، فهي الانظمة العربية نفسها: فمنذ انتهاء حرب الخليج الثانية، وتكرّس إخضاعنا للارادة الاميركية، وجدت الانظمة الحاكمة نفسها أمام معضلة صعبة: فهي بعدما تنازلت، مرغمة، عما تنازلت به لاميركا، لم تعد قادرة على تقديم اي تعديل في أدائها السياسي. فالتعديل يعني لها تنازلاً عن صلاحياتها وامتيازاتها، بل تهديداً لموقعها فيما هي فاقدة لطاقاتها. هكذا أخذت بالانحدار، وراحت تفوّت الفرصة تلو الاخرى. وبما ان الايديولوجيا السائدة، بحسب التعريف الماركسي الذي لا يزال قائماً، هي التي تحفظ مصالح "الطبقة الحاكمة"، فان هذا الكره لأميركا هو الضالة التي وجدتها هذه الطبقة لتجنب الانهيار، ولو تفاقم الانحدار: فهذه الايديولوجيا تسمح لها بالبقاء هنيئة، حيث هي عليه الآن، وذاك بأن تحمّل اميركا كافة أوزار فشلها السياسي الذريع. وبما ان الايديولوجيا السائدة هي، بالتعريف نفسه، وعيٌ مزيف، كان مطلوبا من ايديولوجية العداء لاميركا والكره لها ان تجعلها المسؤولة عن كل إخفاقاتها: الفساد والبطالة، المحسوبية والشللية، الفراغ الاخلاقي والانتاجي، العنف والقهر والكذب، ناهيك عن التبعية واللهاث الحضاري. وكلها حالات وأراضٍ خصبة لحشائش طفيلية تجذرت فأوقعت المجتمع بأسره في أمراضها. ومنها الغوغائية والمزايدة والانتصارية والتآمرية. فتغذى الكره لأميركا بهذه الامراض وعاش... ثم الارجح ايضا ان هناك شيئاً من الصدق في كره هذه "الطبقة الحاكمة" العربية لأميركا. إذ يكون مندوبوها الى مؤسساتها الرسمية قد ذاقوا ولمَسوا قلّة احترامها لهم. والعديدون عبروا عن ذلك عندما قالوا ان المسؤولين الاميركيين لا يستمعون اليهم بآذان صاغية. لكن هؤلاء انفسهم لم يتساءلوا لماذا؟ لماذا كل هذا الازدراء، وكل هذا التعالي؟ هل لأنهم فقط ابناء عالم الجنوب، العربي، المسلم والفقير؟ لم يتساءلوا... كلا، بل اكتفوا بالتنديد والاستنكار متجاهلين بأنهم، فوق كونهم أبناء جنوب، فهم لا يمثلون هؤلاء الابناء، ولو مثلوا كان ذلك تهريجا. إذ لم يخطر في بالهم، ولم يستطيعوا أن يتخيّلوا أنفسهم منتخَبين حقيقيين، وكم سوف يتعدّل الميزان لمصلحتهم ساعتئذ، بالرغم من انهم ابناء جنوب، فقير ومسلم. لذلك فهم صادقون في كرههم لاميركا. هذا ما يفسر أشياء كثيرة حصلت أخيراً: منها، مثلا، انه كلما تصاعد البطش الاسرائيلي ضد الفلسطينيين، زاد الكره لأميركا واستشرى، إذ تكون حُجبت بذلك مسؤولية "الطبقة الحاكمة" عن أصناف التقاعس والتهافت والمراوغة والعجز التي كانت من خصائصها الاساسية اثناء الانتفاضة. ومنها ايضا - وهذا مثل آخر- قدرة صدام حسين على حشد مليوني أو ثلاثة ملايين عراقي للتظاهر ضد اميركا وحرق علمها، بصفتها المسؤولة وحدها عن مأساة العراق، وعن موت نسائه واطفاله، معفياً بذلك نفسه من كل خطاياه القاتلة، وكاسباً شعبية بإبائه وعزته تجاه أقوى قوة في العالم وتحدّيه لإدارتها. لائحة الامثلة تطول... والخلاصة تفرض نفسها الآن، وهي: ان إيديولوجية العداء لأميركا والكره لها، بعد تفجيرات نيويورك، لم تَعُد مناسبة تماما لبقاء "الطبقة الحاكمة" في مكانها. لكن هذه الطبقة غير قادرة، في الآن عينه، على التنصّل من هذه الايديولوجيا صراحة، أو بالسرعة اللازمة، أو بالطريقة المطلوبة. ماذا تفعل بهذين العداء والكره، وقد لعبت على أنغامهما طوال عقد من الزمن، وهي مضطرة الآن الى تهدئتهما لتنفيذ إملاءات الدولة المكروهة نفسها: موضوع هذين الكره والعداء؟