أصبح في حكم المؤكد أن الدول المتقدمة ومنظمة التجارة الدولية تريد أن يصدر عن المؤتمر الوزاري للمنظمة المنعقد في الدوحة اعلان بالموافقة على بدء جولة جديدة لتحرير التجارة الدولية. والهدف من هذه الجولة الجديدة المقترحة هو إدخال مزيد من المواضيع في نطاق التحرير، مثل حرية انتقال الاستثمارات ومعاملتها بالقواعد نفسها التي تطبق على الاستثمارات المحلية، واضفاء المزيد من الشفافية على المستويات الحكومية تمهيداً لفتحها أمام الشركات الاجنبية، وقضية تشغيل الاطفال والمسجونين والتأمينات الاجتماعية وعلاقتها بكلفة السلعة، وقضية البيئة، وخفض الرسوم الجمركية على السلع الصناعية، ودعم السلع الزراعية، ومعايير المنافسة. ومع رفض الدول النامية تحاول منظمة التجارة تبرير الدعوة لاطلاق جولة جديدة من المفاوضات بالآتي: 1- في العالم حوالى 2.1 بليون شخص يعيشون على اقل من دولار واحد يومياً، وهناك ايضا 6.1 بليون شخص يعيشون على اقل من دولارين في اليوم. وتحتاج هذه الأعداد الكبيرة الى المزيد من الاستثمارات في الصحة والتعليم، وعلى رغم أن ذلك من مسؤوليات الحكومات الا ان المجموعة الدولية يجب أن تساعد في ذلك، وتأتي مساعدتها من خلال التجارة الدولية وفتح أسواق جديدة أمام صادرات الدول النامية ما يمكنها من توجيه موارد اكثر للتنمية، وهو ما يتفق مع رؤية الكثير من الاقتصاديين الرأسماليين في أن التجارة هي محرك النمو. لكن هناك عدداً كبيراً من العقبات التي تمنع وصول صادرات الدول النامية الى أسواق الدول المتقدمة، ولكي يقضى على هذه العوائق لا بد من إطلاق جولة جديدة من المفاوضات التجارية. 2- تمثل الإعانات التي ترصدها دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD لصادراتها الزراعية ما يقرب من ثلثي الناتج المحلي لافريقيا، وفي حال إلغاء هذه الاعانات سيكون ذلك مكسباً للاقتصاد الدولي. 3- ويحاول مايك مور المدير العام لمنظمة التجارة الدولية التلويح بأن نجاح مؤتمر الدوحة يعني اعادة تأكيد التزام الدول الاعضاء بالقيم المشتركة من الانفتاح وتحكيم القانون السلمي بدلاً من قاعدة الغابة، وأن الحكومات ادركت ان المشاكل مشتركة وأنه لا يمكن لأمة واحدة مواجهة هذه المشاكل مثل الايدز، ونظافة البيئة، والارهاب الدولي. ومن يتابع سلسلة تصريحات مسؤولي الدول المتقدمة يلاحظ انهم يركزون على مدى الفائدة التي يمكن ان تجنيها الدول النامية من تحرير التجارة من خلال بدء جولة جديدة من المفاوضات التجارية، وبعد اسبوعين فقط من احداث 11 ايلول سبتمبر يصرح ممثل الحكومة الاميركية روبرت زويلك بأن وضع موانع أمام التجارة الدولية لن يساعد الفقراء ولن يحرر المضطهدين، ولن يساعد الأندونيسيين الملتزمين الذين يحاولون بناء ديموقراطية متسامحة في أكبر دولة اسلامية في العالم. كما بدا المسؤولون في الدول المتقدمة ومنظمة التجارة الدولية في التلويح بالتهديد من انه في حال عدم الموافقة على بدء جولة جديدة من المفاوضات التجارية فإن ذلك قد يقود الدول المتقدمة الى الابتعاد عن التجارة متعددة الأطراف الى الصفقات التجارية الثنائية والاقليمية، والتي بالطبع لن يكون للدول النامية مكان فيها، وفي اجتماع المجلس العام لمنظمة التجارة في 18 تموز يوليو 2001 تقرر تكوين صندوق مالي لتغطية نفقات اشتراك وفود الدول الاقل نمواً في مؤتمر الدوحة. وعلى الجانب الآخر فإننا نجد أن اتجاه الدول النامية نحو تحرير تجارتها الخارجية لم يكن الدافع له الاتفاقات الدولية فقط، بل كان ذلك نتيجة لتحول هذه الدول نحو التخصيص وتضاؤل دور الدولة في الاقتصاد، وهو ما كان تنفيذاً للإصلاح الاقتصادي في هذه الدول وفق برامج التثبيت والتكيف الهيكلي المبرمة مع صندوق النقد والبنك الدوليين. كما ان اتفاق الغات وما ادت اليه اتفاقات جولة اوروغواي وما تبع ذلك من تأسيس منظمة التجارة، كانت كلها مثل باقي الاتفاقات الدولية تعكس حقيقة حجم القوة التفاوضية للاطراف المتعاقدة، ففي البداية كان اهتمام الدول الصناعية مركزاً على السلع الصناعية التي تمثل اهمية كبيرة في اقتصادها، وبالتالي اهتمت الغات بهذه القضية وعندما اصبحت الخدمات تمثل نسبة متزايدة في تجارة الدول المتقدمة، حيث تسيطر هذه الدول على 75 في المئة من تجارة الخدمات الدولية، بدأ الاهتمام بإدراج هذه التجارة في مفاوضات الغات وهو ما تم فعلاً خلال جولة اوروغواي، وما تبع ذلك من عقد الاتفاق العام للتجارة في الخدمات، ونتيجة لاحتكار الدول المتقدمة للاختراعات عملت على إقرار اتفاق حماية الملكية الفكرية. واتضح مدى الصعوبات التي تواجهها الدول النامية نتيجة تنفيذ اتفاقات جولة اوروغواي، وحاولت هذه الدول البحث في هذه الصعوبات لكن الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد الاوروبي رفضا ذلك في مؤتمر سياتل، وكان موقفهما ان يتم التعامل مع هذه الصعوبات على مستويين: الاول هو محاولة التوصل الى اتفاق حول بعض هذه الصعوبات بنهاية عام 2000، وهو ما لم يحدث، والثاني يتعلق بالصعوبات التي تحتاج إلى تعديل الاتفاقات. فهذه تدخل ضمن مواضيع الجولة الجديدة من المفاوضات التي يحاولون إطلاقها في مؤتمر الدوحة. كما أن الدول النامية بدأت تشعر بأنها خدعت من الدول المتقدمة إذ لم تلتزم الاخيرة بفتح اسواقها لمنتجات الدول النامية، بينما التزمت الدول النامية بما وقعته في جولة اوروغواي حيث فتحت اسواقها امام منتجات الدول المتقدمة، مقابل وعود لم تنفذ بحماية صناعاتها الوطنية ومنتجاتها الزراعية، ما ادى الى تدهور اقتصادات الكثير من الدول النامية. وتراجعت صادرات الدول النامية بنسبة 7 في المئة واسعار المواد الاولية بنسبة تصل الى 15 في المئة بين 1986 و1994 فترة جولة أوروغواي. كما شهد معظم موازين التجارة للدول النامية عجزاً ملحوظاً الى جانب تراجع المساعدات والاستثمارات المباشرة المتجهة الى الدول النامية. في المقابل جنت الدول المتقدمة ارباحاً طائلة من عمليات التجارة الدولية قدرها الاقتصاديون بنحو 300 بليون دولار سنوياً. كما يلاحظ ان الدول المتقدمة زادت من استخدامها للقيود غير الجمركية بهدف الحد من دخول بعض السلع لأسواقها، وسمح اتفاق الاوروغواي للدول ان تستخدم اجراءات لمكافحة الاغراق والرسوم المكافئة، ولم يتم التوصل الى آلية للحد مما يسمى بالإجراءات الرمادية المواصفات الصحية، التغليف والتعبئة. يحدث هذا من جانب الدول الصناعية في الوقت الذي أزالت فيه غالبية الدول النامية الحواجز غير الجمركية من خلال برامج التصحيح التي اتبعتها وفقاً لبرامج صندوق النقد الدولي. وفي التطبيق العملي للاتفاقات نجد أنه في عام 1997 تم إبلاغ منظمة التجارة عن 239 حالة اغراق، كانت 143 من هذه الحالات ضد الدول النامية ودول التحول الاقتصادي، ما يتطلب من الدول النامية الكثير من الإجراءات القانونية التي يصعب عليها اتباعها إما لنقص الخبرة أو نقص الموارد. لذلك لا بد من الاعتراف بأن الآمال التي كانت معقودة على تحرير التجارة وما ستؤدي اليه من فتح المجال أمام الدول النامية، كانت توقعات مبالغ فيها، وأن على الدول النامية ان تصر على مراجعة هذه الاتفاقات لكي يكون هناك نوع من التناسب في الفوائد التي تعود على اطراف التجارة الدولية، وأن يكون هناك نوع من التوازن بالنسبة الى النظام التجاري الدولي. كما أن إجراءات تحرير التجارة ستكون لها اثار ايجابية وأخرى سلبية على الاقتصاد الوطني، وما يهمنا هو مدى قدرة الدولة على مواجهة الآثار السلبية لهذه الاتفاقات فنجد أن الدولة لا تستطيع التدخل بفرض قيود لحماية صناعاتها المحلية، أو وضع قيود على دخول المشاريع الخدمية الى اسواقها بخلاف مدد السماح التي اعطها لها الاتفاق، وهو ما يحد من دور الدولة في وضع السياسات التي تراها ملائمة لاقتصادها، وهذه احدى نتائج العولمة، لذلك على الدول النامية أن تطالب بتجارة عادلة بدلاً من تجارة حرة، إذ أن التجارة الحرة تسمح باستمرار التقسيم الحالي للعمل الدولي الذي تتخصص الدول النامية في تصدير السلع الأولية من خلاله، ولا تستطيع الدولة ان تتدخل لخلق مزايا نسبية على المدى الطويل أو لوضع سياسة لتجارتها الخارجية. ويحاول مدير منظمة التجارة استمالة المعارضين لبدء الجولة الجديدة المقترحة بالقول إنهم يتكلمون على أساس وثائق التفاوض الأولية وانهم يحاولون تقليل الفجوات التي أوجدتها سنوات التطبيق. ويعترف بحقيقة أن البلاد الأكثر فقراً مهمشة في ظل النظام الحالي للتجارة الدولية، ويحاول الترغيب بالموافقة على الجولة الجديدة بأنه في حال رفض هذه الجولة فإن الوضع الحالي الذي يشكون منه لن يتغير للأفضل مع بقاء الوضع الراهن. كما أن هناك قضايا لم يتوصل الاعضاء الاساسيون الى اتفاق حولها في الاجتماعات التي عقدت في إطار منظمة التجارة الدولية ومن هذه المواضيع محل الخلاف الزراعة والبيئة، وقواعد المنافسة والاستثمار، والعمالة. ويرجع قلق الدول النامية من إطلاق جولة جديدة لتحرير التجارة الى معرفتها أنه بمجرد بدء هذه الجولة فإن ذلك سيؤدي في النهاية الى الموافقة على تحرير التجارة في المواضيع محل التفاوض، وأن هذا سيستغرق وقتاً أقل من المفاوضات السابقة والسبب في ذلك يرجع الى طبيعة القوى التي تشارك في هذه المفاوضات ومدى قدرتها على التأثير في اتخاذ القرارات. ومن الواضح أن الدول المتقدمة هي الاكثر نفوذاً وهيمنة على عملية اصدار القرارات، وأن المدى الزمني للتفاوض يطول إذا كان هناك اختلاف في المصالح بين هذه الدول، أما عندما تتفق مصالحها فسرعان ما يأتي الاتفاق، ولا يتطلب الامر منهم سوى بعض الملامح التجميلية لإرضاء الدول النامية مع بذل بعض الوعود البراقة لحملها على الموافقة على ما يتفق عليه الكبار. ولايضاح عدم قدرة الدول النامية على توفير الكوادر القادرة على التفاوض نجد أنه في عام 1997 كانت الدول الصناعية ترسل معدلاً قدره 8.6 في المئة من المسؤولين لكل منها لمتابعة انشطة منظمة التجارة في جنيف، وكانت الدول النامية ترسل معدلاً قدره 5.3 في المئة من المسؤولين عن كل منها، وبالتالي تعاني الدول النامية من صعوبات في التفاوض على اتفاقات تجارية لتكون مؤاتية لها، لذلك قام البنك الدولي بتطوير الإطار المتكامل للتجارة والتنمية في اقل الدول نمواً لمواجهة هذه الصعوبات. وهكذا نجد أن اجتماعات الدوحة التي تذهب اليها الدول النامية محملة بمشاكلها ومتخوفة من ان تضاف الى هذه المشاكل رزمة اخرى نتيجة هذا المؤتمر، ومما يصعب من موقفها أنه في الاجتماع السابق في سياتل فشل المجتمعون في التوصل الى اتفاق نتيجة الاختلاف بين الدول المتقدمة ولسبب آخر مثّل ضغطاً على المؤتمر وهو التظاهرات المناهضة للعولمة التي بلغت من القوة من حيث الأعداد المشاركة والمصادمات مع الشرطة الى درجة اغلاق المدينة، ما ادى الى عدم قدرة المجتمعين على اتخاذ قرارات وفشل الاجتماع. لذلك من المتوقع أن تنجح محاولات الدول المتقدمة في فرض ما تريد على المؤتمر، وتبقى أمام الدول النامية محاولة لأن تضع شروطاً على موافقتها على بدء جولة جديدة من المحادثات وذلك بأن تكون الأولوية في هذه المحادثات الجديدة لمناقشة المشاكل التي تعرضت لها الدول النامية من جراء تطبيق الاتفاقات السابقة، وأن تحاول أن تحصل على مزايا تفضيلية في تطبيقها لهذه الاتفاقات والعودة الى تطبيق القاعدة التي كانت في الغات وهي ان المعاملة المتساوية بين غير المتساويين غير عادلة، حتى لا تطبق الدول النامية الشرائح والقواعد نفسها التي تطبقها الدول المتقدمة لاختلاف القوة الاقتصادية بين الطرفين، كما أن على الدول النامية التكتل لإقصاء المواضيع الأكثر ضرراً بها من مواضيع التفاوض مثل عمالة الأطفال، فتح المجال أمام الشركات الأجنبية في المشتريات الحكومية فهل تنجح الدول النامية في ذلك، أم يستمر مسلسل تشرذم هذه الدول والخضوع للضغوط من دون اعتبار لاثار هذه الاتفاقات على المدى البعيد؟ * أستاذ الاقتصاد في كلية التجارة في جامعة المنوفية - مصر.