كانت منظمة التجارة العالمية أحد الموضوعات التي اهتمت بها وسائل الإعلام، ولم تك تعنينا كثيراً مثلها مثل بقية الأحداث الدولية البعيدة عن منطقتنا وواقعنا المحلي. هذا الواقع تلاشى فجأة وأصبحت هذه المنظمة هي إحدى همومنا وتطلعاتنا ننظر إليها بشغف ووجل في آن واحد ذلك بعد الاجتماع الرابع عشر لمجموعة فريق العمل بمنظمة التجارة الدولية الذي تم القبول بانضمام المملكة لتكون الدولة 149 داخل المنظومة الدولية. هذا الانضمام يثير الكثير من الاسئلة إذ يطرح الرأي العام المحلي استفساراته حول الابعاد الاستراتيجية والفوائد والسلبيات المنعكسة على الاوضاع والمواقع الاقتصادية المحلية من هذا الانضمام. هذه الاستفسارات والتساؤلات الكثيرة تعني غيابا او تغييبا لجملة من المعلومات المهمة كانت ستسهم في تفكيك الغموض المرتبط بتداول واطلاق المعلومات والقواعد والتأثيرات الخاصة بالانضمام. لعله من المناسب التذكير ببعض الوقائع التاريخية المتعلقة بتأسيس منظمة التجارة العالمية التي بدأت فعليا - إن جاز التعبير - باتفاق أرجواي عام 1944م والذي تضمن (24) اتفاقا دوليا ومن ضمنها اتفاقية انشاء منظمة التجارة الدولية واتفاقيات التجارة في السلع (الجات 47) والتجارة في الخدمات (الجاتس) وحماية حقوق الملكية الفكرية (تريبس) بالاضافة الى (7) مذكرات تفاهم وجاءت جميعها في صورة ملاحق للاتفاق المؤسس لمنظمة التجارة الدولية المعروف باتفاق مراكش 1994م. وكان اتفاق ( الجات 47) معنيا بتحرير التجارة في كافة السلع وإن لم يطبق الا على السلع الصناعية وبقيت السلع الزراعية والمنسوجات والملابس خارج الاتفاقية وهي السلع التي تملك الدول النامية ميزة نسبية في انتاجها ما انعكس سلبيا عليها في وقت قدمت دول العالم الصناعي دعما متزايدا للمنتجين الزراعيين وصل الى مليارات الدولارات ومرجع ذلك التأثير السياسي الذي يضطلع به القطاع الزراعي في الدول الصناعية. وجاءت اتفاقية (الجات 94) بادخال قطاع التجارة في السلع الزراعية حيث حظر الاتفاق تقديم أي دعم جديد للصادرات الزراعية ولسد انعكاسات الآثار السلبية المترتبة على الدول النامية فقد نص الاتفاق بأن تقوم المؤسسات الدولية بتقديم المساعدات المالية والفنية لها من تحسين كفاءة الانتاج الزراعي وبما يرفع الضغط عن ميزان مدفوعاتها وهو قرار لم يأخذ طريقه الى التطبيق نتيجة لغياب آلية عملية للتنفيذ. تحول قسم من الاتفاقات التسعة الناتجة عن جولة طوكيو (1973 - 1979م) الى اتفاقات متعددة الاطراف وتحول قسم آخر الى اتفاقات عديدة الاطراف. تم ذلك في جولة الاورجواي وهي اتفاقات تشتمل على اجراءات وقواعد واسعة بدءا باتفاقات الزراعة. والاتفاق الخاص بتطبيق التدابير الصحية والصحة النباتية. واتفاق العوائق الفنية امام التجارة. واتفاق المعاينة قبل الشحن. واتفاق التثمين الجمركي. واتفاق تراخيص الاستيراد. واتفاق مكافحة الاغراق. واتفاقية تدابير الاستثمار. واتفاقية المنسوجات والملابس.. الخ واشتملت الاتفاقات عديدة الاطراف على تقنية المعلومات والطائرات المدنية والمبادرة القطاعية والمشتريات الحكومية وغيرها. انتهت جولة اورجواي عام 1994 بالاعلان عن الاتفاق العام بشأن التجارة في الخدمات وهو اتفاق يهدف الى تعزيز النمو الاقتصادي لجميع الشركاء التجاريين الاعضاء في منظمة التجارة العالمية ودفع مسيرة التنمية في الدول النامية من خلال تفعيل دور تجارة الخدمات. متطلبات الانضمام: اصبحت متطلبات الانضمام لهذه المنظمة اكثر تعقيدا منذ تأسيسها عام 1995م على أنقاض اتفاقية الجات 47 وزيادة عدد الدول الاعضاء فيها الى 149 بانضمام المملكة لتشكل ما يوازي 80٪ من مجموع دول العالم وتستحوذ على 90٪ من التجارة الدولية في قطاعات السلع والخدمات والافكار ونسبا اخرى توازيها وتفوقها احيانا في التعاملات المالية وخدمات الاتصالات وحقوق الملكية الفكرية. وقد لا نستغرب التشدد في استحقاقات العضوية اذا علمنا ان الدول المؤسسة خاضت 8 جولات من المفاوضات العسيرة خلال نصف قرن الى ان استقرت في جولة اوروجواي في تركيز احكام النظام التجاري العالمي وبات على الدول التي تأخرت في الانضمام الالتزام بتطبيق الاحكام القانونية للمنظمة فور انضمامها دون الحصول على الفترات الانتقالية والمرونات الحقيقية المماثلة التي منحت للدول الاعضاء المؤسسين. منافع الانضمام: تملك المنظمة آلية فعالة لتسوية النزاعات التجارية بين الدول الاعضاء وهي ميزة تعطي البلدان التي تفتقر للنفوذ الاقتصادي القدرة على الطعن في الاجراءات المتخذة من قبل صاحبة النفوذ. وتعد منظمة التجارة البيئة الوحيدة التي تضع القواعد الملزمة قانونيا لممارسة التجارة وتتعهد باتباعها عند صياغة وتنفيذ سياساتها التجارية. والعضوية كذلك تقي الدول من الاجراءات الاحادية والسياسات التجارية التمييزية. وتحقق لصادرات الدول من السلع والخدمات النفاذ الى اسواق الدول الاعضاء في المنظمة والتمتع بمعاملة لا يشوبها التمييز وفق مبدأ الدولة الاولى بالرعاية. وستستفيد الصادرات من الجهود المتصلة لتحرير التجارةالدولية والالتزامات التي قدمتها الدول الاعضاء على مدى الخمسين سنة الماضية. ويضمن الانضمام الا يتم اخضاع السلع الخاصة بالاعضاء لرسوم مكافحة الاغراق او الرسوم المضادة الا بمقتضى الاحكام والتدابير الواردة في اتفاقات المنظمة. وستدعم عضوية الدولة في المنظمة برامجها الطموحة للاصلاح الاقتصادي حيث ان اضفاء المزيد من الانفتاح على الاسواق امام السلع والخدمات للدول الاخرى من شأنه ان يساعد في التعجيل بعملية الخصخصة وتعزيز مناخ المنافسة وتحديدا للدول النامية ومن بينها عالمنا العربي وانضمام دوله سيكفل لها كافة الحقوق والفوائد التي توفرها مجموعة الاتفاقات الدولية. ولن تكون عرضة للتدابير الجزائية الاحادية الجانب. كما ان وجودها ضمن المنظمة يمكنها من المشاركة الفعالة مع مجموعة الدول النامية في عملية صنع القرار والدفاع عن مصالحها الاساسية كطرف له وزنه في ميدان التجارة الدولية. جاهزية القطاع الخاص: تضاعفت صادرات المملكة خلال العشرين عاما الماضية بنسبة خمسة اضعاف بينما تضاعفت وارداتها خلال نفس الفترة بنسبة ضعفين فقط وتشكل المواد المصنعة ونصف المصنعة حوالي 95٪ من إجمالي الواردات. ويعد النفط من اهم البنود المؤثرة على ميزان المدفوعات (87٪ من اجمالي الصادرات) وبلغت نسبة حجم التجارة الخارجية السلعية الى الناتج المحلي الاجمالي حوالي 70٪ وهي تعادل ثلاثة اضعاف النسبة المماثلة في الدول المتقدمة. والمملكة بحجمها الاقتصادي تحتل مواقع متقدمة في مجموعة من المراكز المهمة كانتاج النفط وتصدير مختلف انواع الطاقة وتوظيف محطات التحلية وفي مجال الناتج الاجمالي المحلي وانتاج الخدمات ومناخ الاستثمار. والصادرات السلعية والقوة الشرائية. وفي ذات الوقت هناك ايضا سلبيات ادائية على صعيد النشاط الاقتصادي وفي مقدمها مركزها المتأخر مصرفيا اذ لا تدخل في سياق الدول التي تحوز على اكبر 100 مصرف تمويلي. وكذلك في مجال المنتجات ذات القيمة المضافة. وفي تصدير الخدمات واغفال البحث العلمي وتناقص الاستثمارات الاجنبية وغيرها من عوائق تنظيمية واختلالات هيكلية وتنظيمية تعمل كافة الجهات الحكومية والقطاع الخاص على التصدي لمشاكلها وتذليل عوائقها من خلال آليات عمل شفافة وفاحصة و من بينها الخصخصة واسترجاع الرساميل المهاجرة وترسيخ مبادئ التجارة الالكترونية. وسيواجه القطاع الخاص حزمة من التحديات المستقبلية وهي ستؤثر حتما في جميع الانشطة الاقتصادية الزراعية والصناعية والخدمية وعلاجها يقتضي شراكة استراتيجية بين القطاعين العام والاهلي بهدف توفير اكبر قدر من الجاهزية للانشطة الاقتصادية في مواجهة النظام التجاري العالمي والاستفادة من مكاسبه وتخفيف تكاليف الانخراط في منظومته الدولية. ومن بين التحديات الماثلة البيروقراطية ومدى فاعلية البنية التحتية والقدرة التنافسية للقطاع الخاص بالاضافة الى الجاهزية الاعلامية. ولتحقيق الرؤية المستقبلية لقطاع الخدمات في المملكة ورفع نسبة مساهمته في الناتج المحلي الاجمالي من 40٪ الى 70٪ خلال العقدين القادمين الذي يشكل تحديا حقيقيا لكافة الخدمات القطاعية الراغبة في زيادة المردود الاقتصادي ينبغي مواجهة جملة من التحديات الراهنة وفي مقدمتها توطين العمالة وتشجيع الاستثمار الاجنبي المباشر وتشجيع عمليات التخصيص والاسراع في تنفيذ برامجها بما تدخره من فوائد هائلة. فوائد الانضمام: سيتم التأسيس لمبادئ جديدة متناغمة مع شروط الانضمام من بينها قدرتنا على النفاذ الى الاسواق باختفاء جميع اشكال العوائق الفنية. وبقاء التعرفة الجمركية والانظمة التجارية. وكذلك مبدأ حق الدولة الاولى بالرعاية وهو حق التمتع بالامتيازات الممنوحة. بالاضافة الى نشوء فرص استثمارية واسعة كالاستثمار في القطاعات الخدمية الرئيسية كقطاع الجملة والتجزئة والاتصالات والبنوك والاعمال والتشييد والصحة والصناعات الاساسية والمضافة المعتمدة على الميزة النسبية التنافسية والصناعات الكيماوية والمعادن وتقنية المعلومات والادوية. إنشاء الشركات المساهمة والخاصة بالتمويل الاستثماري وانشاء المكاتب المتخصصة في النزاعات التجارية. أخيراً إن اعتماد وثائق انضمام المملكة لمنظمة التجارة الدولية في الحادي عشر من نوفمبر في جنيف بالاضافة الى المؤتمر الوزاري الذي سينعقد في هونج كونج في 13 ديسمبر يضع المملكة على اعتاب مرحلة تاريخية جديدة في مسيرتها التنموية ولا يخالجنا أدنى شك في أن قيادة هذه البلاد عندما قررت الانضمام فهي قد قررت أن تتصدى بفاعلية لكل العوائق التي تحول دون التفاعل الجاد والبناء مع متطلبات الانضمام واستحقاقات مرحلة العولمة التجارية وبالتالي فنحن جميعاً في انتظار جهود وقرارات تاريخية تحفز التكامل بين كل القطاعات وتسير نحو إصلاحات هيكلية ترقى للتحديات المتوقعة من الانضمام. ٭ أكاديمي وكاتب اقتصادي