نادراً ما يغضب المسرحي الغنائي منصور الرحباني. أصبح هادئاً، بفعل السنين التي مرّت على التجربة الرحبانية الكبيرة، وصارت اذا أصابته سهامٌ تكسّرت النصال على النصال كما يقول الشاعر العربي الذي يحبّ. غير أن بعض السهام، ومن أشخاص ينبغي أن تكون لديهم حدود في اطلاق الآراء السريعة، يؤذي في شكل إضافي على المعتاد، كونهم الأقدر على فهم قيمة المبدعين والتعامل معهم من هذه الزاوية المنطقية، فإذا بهم يغرقون في ما لا تفسير له غير استعداء من كانوا ذات يوم أصدقاء أو أحبّة... منصور الرحباني لا يعرف سبباً لتلك الملاحظات الاعتراضية التي يقولها المخرج يوسف شاهين حين يُذكر له اسم عاصي الرحباني. ففي مقابلات عدة، صحافية وتلفزيونية يُسأل شاهين عن عمله مع الأخوين رحباني وتحديداً في اخراج فيلم "بيّاع الخواتم"، فيدلي بآراء خاطفة تشبه التعليقات الغامضة التي تترك انطباعاً سلبياً في الجمهور، كأن يقول مثلاً "عاصي بيكفِّر"، أو يقول في مكان آخر "عاصي لا يستطيع أحد أن يعمل معه" أو سوى ذلك مما يجعل التساؤل في الأذهان، وارداً: هل عاصي الرحباني كان بالفعل على هذه الصورة؟ ويعتقد منصور الرحباني أن أخلاق عاصي في العمل، واصراره على متابعة كل شاردة وواردة، وتركيزه على ألاّ يترك مجالاً لدخول الأخطاء الى نتاجه الفني الثري هي صفات كان وما زال النقاد يكبروه بها، وكان وما زال الفنانون الذين تعاونوا معه وشاركوا في المسرحيات الغنائية ذات التوقيع السحري: الأخوان رحباني يريان انها صفات أكثر من ضرورية قدّمت فناً راقياً، ومنحتهم طواعية ومعرفة فنية وابداعية لم تكن متاحة يوماً مع آخرين. ويتذكر منصور الرحباني المرحلة التي طلبا فيها من يوسف شاهين اخراج "بيّاع الخواتم" معتبراً انه كان خلالها ما زال في أوّل حالات إثبات الذات، وكان عاصي يناقشه في الكثير من تفاصيل اسلوب تصويره واخراجه وتقطيعه السينمائي لأنه كان لا يقتنع بسهولة، خصوصاً في الحالات التي يشعر فيها ان هناك ارتباكاً ما لدى من يعملون معه فيحاولون تنفيذ وجهات نظرهم من دون المرور بوجهة نظره... ويقارن منصور الرحباني بين شخصية عاصي الرحباني التي يتحدّث عنها يوسف شاهين، وبين شخصية يوسف شاهين نفسه كمخرج سينمائي، ومن خلال ما يقوله الممثلون الذين تعاملوا معه ليصل الى نتيجة تشي بأن ما يشكو منه شاهين في شخصية عاصي، هو نفسه ما يشكو منه الممثلون في شخصية شاهين، مع ملاحظة جدية هي أن نسبة الأشخاص الذين تأففوا من "تدخلات" عاصي الرحباني طوال حياته الفنية كانوا قلّة نادرة تدّعي انها قادرة على اجتراح شيء من دون تعلُّم، بينما الأشخاص الذين يتأففون من تدخلات يوسف شاهين الديكتاتورية وفرض آرائه من دون أي مراعاة لهم تمكن رؤيتهم في كل وقت، وفي كل وسيلة إعلامية. ولا يريد منصور الرحباني ان يذهب في تحليل انتقادات شاهين لعاصي، أبعد مما يُفترض، غير انه يسأل بوضوح: لماذا هذه الرسائل غير الودّية التي يطرحها شاهين هنا وهناك تكبر، وتكاد تكون سمة واضحة من سمات علاقة شاهين بكبارٍ عمل معهم ويجد متعة في الغمز من قنواتهم حيناً، أو توجيه عبارات لاذعة تجاههم أحياناً، سيّما أولئك الراحلون الذين لا يجوز أن نعاملهم بأي مجانيّة، بل تقتضي الاخلاقيات الفنية من جهة، والقيم المعنوية التي أرسوها من جهة ثانية، معاملتهم بقدر كبير من الدقة والموضوعية، ولن يكون ذلك منّة بل هو واجب. ويبتسم منصور الرحباني حين يعلّق: اذا كان يوسف شاهين هو الذي ينتقد عاصي الرحباني لأنه "بيكفِّر" والمعنى انه دقيق ومتطلّب وصلب في طرح أفكاره وقناعاته وأسلوبه الفني، فلأنه أي شاهين وجد أخيراً من هو أحرص منه وأصعب منه وأفعل منه في التأثير بالجمهور، ولسان حال عاصي كأنه يقول في هذه الحال: من ساوى نفسه بي ما ظلمها... ولو من حيث لا يدري. بعد ما يقارب عقدين من السنوات على رحيل عاصي الرحباني، ما برح منصور الرحباني ينتفض اذا ما ألقيت على الأخ الراحل تهمة. وحين تطالبه بضرورة أن يخفف انتفاضته إلاّ في الحالات الكبيرة حيث لا أحد يجرؤ على انتقاد شخصية عاصي ذات الأبعاد الانسانية والفنية المترامية يقول: أخشى الانتقادات الصغيرة الملغومة والتي في غير موضعها أبداً ان تكون باباً الى ألغام ليس عاصي الرحباني من يستحقها. شيء من عيني ذلك الرجل في عينيّ هذا الرجل، وقد ذهب شيء من هذا مع ذاك.