على هامش الحرب الكونية الدائرة الآن، أو في قلبها، اندلعت حربٌ يستعيذ منها الجميع، علناً على الاقل، وهي الحرب بين الاسلام - الشرق والمسيحية - الغرب. وقد كثُرت في جولات هذه الحرب تصريحات لزعماء غربيين معادية للإسلام، أعقبتها إعتذارات، وتخللتها مقالات ومواقف عربية، دينية ومدنية، تؤكد على سماحة الاسلام وتُبرز فضائله. لكن أية جولة من هذه الاعتذرات او التوضيحات لم تطفىء النار تماما: فالاسلاميون الاصوليون المتعاطفون مع بن لادن، والذين استنكروا وصف الحرب عليه بأنها "صليبية"، عادوا وشددوا على شعار حربهم ضد "الصليبية... واليهود". أما مظاهر الابتهاج بالضربة في نيويورك، والتظاهرات المؤيدة لبطلها والمدافعة عنه باسم الدين الواحد، فتبدو أكثر دينية وأشد و طَلَبا لهذا ال"جهاد...". في أثناء ذلك، هناك اوركسترا كبرى لا تتوقف عن القول إن ما يُعزى الى الاسلام من إرهاب، انما هو ناتج عن عنجهية اميركا وتآمرها على شعوب الاسلام وانانيتها الامبريالية. وما يصعّد ألحان هذه الاوركسترا ان كلامها صحيح، إذ يصعب على اي مراقب محايد الدفاع عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وهذه الحرب الفكرية - الايديولوجية سوف تطرح سجالاً عالميا حول فحوى الاسلام، ومنه سوف تنبثق أسئلة أخرى ايضاً، منها واحدٌ كان نائماً واستفاقَ، وهو: هل الامبريالية الاميركية وحدها هي المسؤولة عن سيطرة هذا النوع العنيف والمتطرف من التديّن؟ هل التطرف الاسلامي، والارهاب الذي يولد من رحمه، هما صنيعة الامبريالية الاميركية وظلمها وتفردها فحسب؟ المنزع الديني الذي نحن بصدده، ذو إطار واسع، مطّاط، يطاول الشريحة الاوسع من العرب المسلمين. لكنه ذو طريقة واحدة في استنباط احكام دينه وتفسيرها، وهي طريقة إعمال النقل لا العقل، أو التقليد بالمعنى الديني، لا السوسيولوجي. فحتى الذين وصفوا أنفسهم بالمعتدلين من بين دعاته، او بالمجتهدين، لا يفعلون غير الاستناد الى تفاسير ميتة في نقلهم للحجة والسند. وأدبيات هذا النمط من التديّن فتاوى وشعارات، ورجالاته رجال دين أو "مدنيون" تعمّموا. اما التديّن نفسه لديهم فشكلي، موجه الى الخارج، الى نظر الآخرين. ولهذا النمط مجموعات وتنظيمات، بعضها "معتدل" والآخر متطرف... لكنك لا تستطيع ان تعرف بدقة مدى التداخل بينهما، ولا الافتراق. ذلك ان النص المفسِّر واحد، ناهيك عن الشعار. وهم يعملون سراً وعلى ارض غير "شرعية"، وغير معترف بهم، الا في حالات استثنائية، هي حالات المقاومة ضد المحتل الاسرائيلي. وبعدها يُطلب منهم عادة لمّ السلاح. والجماهير الغفيرة من الناس مكسوبة الى هذا النوع من التديّن ومن القراءة للدين، من دون ان تكون بالضرورة منضوية تحت ألويته التنظيمية وإن كانت، ربما، على اهبة ذلك من غير ان يعرف أحد متى يحصل ذلك. و هذه الجماهير تختلف عن "نخبة" هذا النمط، التي هي مناضلة وناشطة وغالبا متفرغة، فيما هي اقل التزاما واقل قدرة، نفسية واجتماعية، على "هجرة المجتمع الجاهلي" والتضحية بالنفس من اجل "الجهاد في سبيل الله وضد اميركا واليهود". فما يجمع بين اطراف هذا الاسلام السياسي، وبينه وبين المجتمع هو العنف. فالمجتمع متوحش، وقد صار مكوناً من افراد يجرون كلٌ الى مصيره الخاص و غير المأمون. والنمط الديني السائد في وسطه عنيف بالتالي: تغرف منه الاسلامية السياسية ما تراه انعكاسا لصورتها وصورة المجتمع الذي تزمع قيادته. وتستنبط منه أداة التحريض وقواعد الخوف: الخوف من خرق الاجماع ومن الحدود ، الخوف من التكفير ومن الآخرة ، الخوف من الواقع الزاحف، الواقع... المرير دائما. ومن هذا الخوف بالذات يتغذى العنف والتطرف، ودرجته القصوى الارهاب. ما مسؤوليتنا، في حال أقرّينا ، ولو فرضاً، أن اميركا ليست وحدها ما يقف وراء هذا النمط العنيف من فهم الدين والتديّن؟ المسؤولية الاولى تقع على "الدولة" عندنا. والمعني بذلك السلطات التي حكمت بلادنا منذ حقبة الاستقلالات الوطنية. فيوم كانت هذه الدولة ذات شرعية وطنية وراسخة، لم تتوانَ عن وضع المناهضين الرئيسيين ل "مشروعها الحداثي" في السجن. ولاحقت الطليقين منهم. والمنضوون هؤلاء لم يكونوا سوى الاخوان المسلمين، أي مؤسسي الاسلام السياسي. وعندما بدأت تتآكل شرعية هذه الدولة - السلطة بفضل الزمن، أخرجتهم من السجون. وشيئا فشيئا أقامت مع نصهم ونهجهم صلات وتسويات صار أغلبها ملتبساً الآن. كذلك رست على التسليم بالكثير من شروحاتهم، فتعززت المرجعية الاخوانية. كل هذا والدولة - السلطة ما تزال تمانع في منح اصحابها، الاسلاميين، الحق الواضح والصريح في العمل العلني والشرعي. ولولا ان جل الدولة من العسكر لكانت المصيبة على الاسلام اقل خطورة. لكن الحاصل الآن ان المجتمع، بفضل عسكرته المديدة، لم يعد يملك أية قناة شرعية للتعبير عن مصالحه أو رأيه بمصيره وحياته اليومية. وليس في الميدان امامه لتبليغ سخطه وغضبه الدائمين، غير الميدان الاسلامي السياسي المتطرف. هكذا يلجأ اليه ، تظاهراً أو تعاطفا أو إستجابة لأي نداء مهما تَفُه امره. والاسلام السياسي، من جهته، وجد في نهجه النقلي ما يتناغم مع الغضب والاحباط واليأس الذي ينضح من هذا المجتمع، فسارع الى تبنّيه، عنيفاً، متطرفاً، و احياناً ارهابياً. أما المسؤولية الثانية فتقع على عاتق النخبة القارئة والكاتبة. النخبة الواسعة التي اصابها نوع من البلادة واللامبالاة، وهي تملك ما تملك من الامكانية للادلاء بوجهة نظرها. وهذه النخبة لم تكن بريئة تماما من لعبة الدولة - السلطة والمرجعية الدينية، بالرغم من ضحاياها العديدين الذين سقطوا برصاصها، أو سكتوا الى الأبد حفاظاً على ارواحهم او مصالحهم. كانت النخبة هذه تقف خلف الدولة - السلطة التي بدت لها فجأة انها "تنويرية"، ضد الاسلام "الظلامي"، تقر بالتضييق على الحريات رغم تضرّرها منها فتستقيل من ميدانها الاصلي وتمضي قُدُماً في معركتها الواحدة المتبقية: معركة المغانم والهالات والاسماء والترشيحات على المناصب أو الجوائز المتداولة، معطية للقمع المزيد من التبريرات والتفسيرات، الامنية في أغلبها، وتتيح للقمع التغلغل اليها ليسمّم الإرث الديمقراطي الضئيل الذي اكتسبته من تجربتها "الحداثية" القصيرة والمبتورة. وهذا ما سهّل عملية أخرى جارية بالتلازم مع الاولى. وهي مهادنة هذه "النخبة" للاسلام السياسي على مستويات اخرى: فكون الجذر السياسي للاثنين واحداً، اي العداء لاميركا واسرائيل، وكون الاسلام السياسي طليعته، فهذا يحتّم على "النخبة" تأييده "سياسياً"، على الاقل لتبرئة الذمة. وبهذا تشبه المتقاعدين الذين يصفقون لأحفادهم، بسبب تجديدهم عداوات أو خصومات لم يعودوا قادرين على تحمّل تبعاتها. بل اكتشفت هذه النخبة في لحظة صفاء نفاذ، بأن هناك ما يجمعها بالاصولية: اذ لا تختلف النخبة بتطاحنها وعنفها عن الجماهير الا في مخارج الالفاظ. كما لم تختلف ردود فعلها تجاه انفجارات نيويورك عن ردود فعل العامة التي تحيا اصلا بغية التمايز عنها. فمن الاشياء التي ادهشتني، وما كان علي ان اندهش، ان مثقفين وكتابا بارزين من "اليسار" الناصري والماركسي والقومي والعلماني، ذهبوا الى تسجيل أن هذه الانفجارات كانت "ضربة من السماء"، "رحمة من السماء"...! و ما كان علي ان اندهش: فالجرثومة واحدة، والغنيمة ضئيلة والهدف الاسمى امتشاق أية سلطة، أو البقاء فيها: عنف وفساد وتواطؤ غير معلن تفضي جميعها الى الإرهاب. إذا صحّ شيء مما سبق حول مسؤوليتنا في تصدير اسلام سياسي متطرف واحيانا ارهابي، دون غيره من صيغ الاسلام، فهذا يعني أن علينا ان نفتح هذا النقاش، لا تأجيله بذريعة دقة الموقف. فهذه الحرب فرصتنا: والمساهمة في وقفها تتم بنزع واحد من فتائلها، والصراع بين الاديان واحد من اشد هذه الفتائل هولاً. فلنغير تعابير وجوهنا، ولا نبقى لابسين سيماء الغاضبين والساخطين والمظلومين والضحايا والمستنكرين من اجل حق لم يصلنا. فأن نكون أبناء حق مسلوب، لا يعني بالضرورة وفي كل الحالات اننا على حق. ولا ننتقل الى الرشد الحضاري من دون ان نكون على استعداد لمراجعة انفسنا قبل غيرنا، وتحمل مسؤولية اخطائنا. وأول الغيث التدقيق في المعاني والعبارات والشعارات المصطبغة بالقداسة. ثم نزع السياسة عن الاسلام، بعدما صار الدين ذريعة، ورفع الحجر عن محرماته، وتوضيح طقوسه والبحث في التكفير والحسبة والفتاوى، وفي المحاكم التي يدلي فيها المتهمون بالكفر باقوال لا يعتقدون بها حماية لأنفسهم من عقوبة الردة. المسلمون يحتاجون، فوق ذلك، الى استعادة دينهم شفافاً وروحياً، متشبّعاً بالأمكنة والأزمنة التي وُجد أتباعه فيها وعليها. إسلاماً ديناميكياً وغنياً، لا يستخدمه بعض ذوي المآرب السياسية للتستر على الفساد والكذب. وهذا ليس سعيا وراء صورة عن الاسلام من اجل الخارج، ولا عودة الى "تراث" ما، تابع الى أحد المشاريع "الاستنهاضية" السياسية التي تحفل بها كتابات "مفكرينا". بل اجتثاثاً لجذور الارهاب، ومنعاً لزج الأديان في حرب سوف تخرج منها مدمّرة وفاقدة لروحها العظيمة.