رغم انتشار أقسام علم الاجتماع في غالب جامعات العالم العربي، إلا أن هناك تفريطاً هائلاً في تتبع الظواهر الدينية داخل مجتمعاتنا ودراستها في شكل علمي ومنهجي، «وتكاد الأعمال المؤلفة والمترجمة في علم الاجتماع الديني لا تتجاوز أصابع اليد» (انظر: مقدمة المترجم الدكتور عزالدين عناية لكتاب علم الاجتماع الديني. الإشكالات والسياقات لمؤلفيه: الدكتور سابينو أكوافيفا، والدكتور إنزو باتشي، دار كلمة، أبو ظبي، الطبعة الأولى 2011، ص7). وفي هذا المقال، سيتم التركيز على ظاهرة الصحوة الإسلامية التي تنامت في شكل كبير منذ سبعينات القرن الماضي إلى منتصف العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، هذا الزخم الصحوي والحضور اللافت على المستوى المجتمعي في كافة ميادينه، كان له دوره في التأثير في جيل بأكمله، وصنع توجهات عميقة داخل مجتمعاتنا العربية، ولا زلنا نتعامل مع ظاهرة الصحوة باعتبارها نتاجاً دعوياً وعودة صادقة للإسلام، وهذا معلوم ومشهود في طبيعة الإسلام الخالدة وثبات وحيه المنزّل، ولكن ممارسات الصحوة كحالة اجتماعية متداخلة مع الدين، جعلت منها طبيعة مختلفة، فالدين قبل وبعد الصحوة له رسوخه، بينما الأدوات البلاغية، والاختيارات الشرعية، ومأسسة الحراك الدعوي، ومظاهر الاحتفالات العامة، وخطاب المنابر وأولوياته، تدل على حالة اجتهادية بشرية تمارسها الصحوة، اختلط فيها المقدّس بالإنساني، والديني بالدنيوي، ولأجل تفكيك هذه التداخلات وفتح باب المراجعات وتأسيس منهجية النقد على أساس الحقل الأقرب لهذه الظاهرة، وهو علم الاجتماع الديني أضع بين يدي القارئ، هذه المقدمات الأولى والمحاولة المتواضعة لفهم هذه الظاهرة من خلال ما يلي: أولاً: الدين والتدين، حالتان متداخلتان، ولا تعني تشكلات التدين وفق العصور وظروف المجتمعات أنها الدين بجوهره الإيماني والأخلاقي، فالمجتمع الإنساني متغير ومتطور وأنماط التدين تخضع لهذا القانون المجتمعي؛ بينما الدين أصله باقٍ في رسوخه الاعتقادي وأصوله الكلية التي يجب أن تبقى ثابتة رغم كل المتغيرات، فأنماط التدين تظهر في اختيار اللباس والمظهر الخارجي للفرد، وفي أولويات التعبّد، واختيارات نوع العمل عندما تتقاطع عوالم الفن والمال والسيطرة والطبيعة مع عالم الدين وخصوصياته، كل هذه الممارسات الدينية في ظاهرها، هي في الحقيقة من التدين الذي نراه مختلفاً من بيئة إلى أخرى، فأنماط التدين قد تتنوع من بيئة إلى أخرى رغم ثبات الدين، كما هو مشاهد في حال تدين أهل الخبوب (في بريدة من منطقة القصيم وسط السعودية) وفي حال أتباع داعش من أهل الرقة، أو المجتمعات التي تتكاثر فيها قبور الأولياء كما في المغرب ومصر والسودان، أو كما هو الحال في مجتمع قمّ الإيراني، وبيئات (إسلام السوق) التي تحاول إنتاج تديّن نيو ليبرالي متناغم مع سوق الاستهلاك العالمي في الموضة والهوايات والوعظ الحداثي، بطريقة بورجوازية تسوّق قيم الدين والفضيلة (انظر: كتاب إسلام السوق لمؤلفه باترك هايني، ترجمة عومرية سلطاني، نشر مدارات للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2015م، ص 85-108)، وبناءً على ما سبق، تظهر الصحوة الإسلامية بمظاهر تدينية أملتها ظروف زمانية ومكانية، وارتباطها بالإسلام لا يعني أن الدين اختلف قبل وبعد الصحوة، ولكن اختيارات الصحوة وأولوياتها وخطابها الجماهيري؛ هي النمط الجديد، الذي جعل لها شكلاً متفرداً تجلّى في المظاهر الفردية والبرامج الدعوية والمؤسسات التابعة لها. ثانياً: تتمظهر الصحوات الدينية في غالب الأديان بأشكال متقاربة وأنماط سلوكية متشابهة، يمكن أن أوجزها في المظاهر التالية: 1- محاولة إضفاء الديني والمقدس على الممارسة الطبيعية والاجتماعية. 2- الرغبة في التمايز عن بقية أفراد المجتمع في الشكل والمضمون، بيد أن الاهتمام بالشكل هو الأكثر في التبليغ والممارسة. 3- الدخول في معارك حقيقية أو افتراضية تضمن اصطفاف الجماهير مع دعاة الصحوة الجديدة، كحماة للدين والفضيلة. 4- التركيز على الخطاب العاطفي والخلاصي أكثر من الخطاب العلمي والعقلاني. 5- القدرة البالغة على التمكن من الوصول للطبقات الاجتماعية المغلوبة والمقهورة دون البرجوازية وأصحاب النفوذ، الذين غالباً لا يحفلون بالصحويين ولا ينسجمون معهم، إلا عندما تفرض المصالح تحالفاً جزئياً لا بد من القيام به. ولو استعرضنا أهم الصحوات الدينية في التاريخ المعاصر لوجدنا تمظهراً نسبياً لتلك القواسم المشتركة، فلو أخذنا على سبيل المثل حركة الإحياء الإنجيلي التي خرجت في منتصف القرن الثامن عشر في بريطانيا، حيث بدأت على أيدي مجموعات طالبية من جامعة أكسفورد وخريجيها، قادها جون ويزلي، وتشارلز ويزلي، وكان سبب هذه التحول الطالبي، السمعة والممارسة السيئة للكنيسة، وإهمالها الدور الإصلاحي، وعدم مبالاتها بالمتطلبات الأخلاقية تجاه الفقراء والمعوزين، واستغلالها الدين في الثراء والانغماس في الرذيلة، وقد أعادت هذه الحركة الكثير للتخلي عن خطاياهم، والعيش في حياة أكثر تقوى وأخلاق. (انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة لوليم كلي رايت، ترجمة محمود سيد أحمد، دار التنوير الطبعة الأولى، 2010م، ص 232)، وأشهر النماذج الصحوية في العالم الحديث، الصحوات الكبرى بأميركا في ثلاثينات القرن الثامن عشر وكانت أول حركة جماهيرية في أميركا، انطلقت شرارتها الأولى في المناطق القروية عام 1734م بنورثهامبتون، عندما ألهب جونثان إدواردز الحماس الديني في قلوب الحشود، وجلب للناس مبادئ الحرية والمساواة بلباس ديني شديد الإثارة، وأن التنوير اللاهوتي هو المحقق للسعادة، وبصورة ما تهيأت الجموع للثورة الأميركية ضد الانكليز التي بلغت قوتها في عام 1775م، وبالتالي برز مفهوم جديد للدين يؤمن بالديموقراطية ويعلمن النشاط الديني نحو الحرية الشخصية دون تدخل الدولة الجديدة، ومع موثوقية ورمزية الدستور وواضعيه؛ إلا أن الاحتجاجات عادت مرة أخرى عام 1790م في المناطق السكنية الحدودية، فقد كانوا أكثر اعتراضاً على الضرائب الباهظة، التي فُرضت بقسوة لا تقل عما فعله البريطانيون، حينها خرج ما سماه المؤرخون الأمريكان بالصحوة الكبرى الثانية التي كانت تدعو إلى مزيدٍ من الديمقراطية الشعبوية وتنادي بشعار: «أميركا تقوم على مبادئ الكتاب المقدّس»، تنامت هذه الحركة الصحوية الشعبية بعد تراجع مثقفي النخبة التنويرية، ثم هيمنت تقريباً في اربعينات القرن التاسع عشر على غالب الطوائف الدينية بما عرف بالمسيحية الإنجيلية، وبسبب تأثر الطبقة الوسطى بها، انتشرت في كامل الولايات الكنائس والمدارس والجمعيات الخيرية، وتأسست فلسفة جديدة، تمثلت في عودة القيم المسيحية من خلال «البروتستانتية التنويرية»، أو كما عبّر عنها ألكسس دو توكفيل لما زار الولاياتالمتحدة الأميركية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، حيث قال: «إن البلد يجمع بين عنصرين متمايزين في شكل كامل، عنصرين كانا ليتسببا في الحرب في مكان آخر، ولكنهما في أميركا نجحا في التعاون والاتفاق بصورة رائعة: أعني روح الدين، وروح الحرية» (انظر: كتاب حقول الدم. الدين وتاريخ العنف، للمؤلفة كاريين آرمسترونغ، ترجمة أسامة غاوجي، طبعة الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2016، ص 405-417). هذه الصحوات التي خرجت في أماكن متعددة من العالم، ومنها الصحوة الإسلامية، يمكن أن نشير فيها إلى ظروف نشأة مشتركة تعتمد على التصحيح والعودة نحو الجذور الدينية الأصيلة، وتقديم قراءة جديدة للدين تخضع لظروف البيئة المحيطة، وهذه الحالة نمط اجتماعي بالدرجة الأولى ولو تلبّس بالدين أو تكيف مع السياسة، وبالتالي معرفة عوامل التفاعل بين الدين وأنماط التدين، وحاجة الأفراد لفضاء طهوري يعوّض حاجاتهم النفسية والاجتماعية الناقصة، وغيرهما من عوامل هي ما أنتج تلك الظواهر في العالم، وهذا ما ينبغي أن يفهمه الصحويون الإسلاميون، سنة أو شيعة، أنهم ليسوا الدين، وليسوا المقدس، وليسوا الخلاص، وليسوا الصفوة، أو الفرقة الناجية، فهم نتاج حراك اجتماعي ويمثلون ظاهرة تدينية، خاضعة لمعايير نقدية، لا تهمّش دورهم ولا تدنّس ذواتهم، وإنما تعيد تعريف موقعهم داخل المجتمع. ثالثاً: هناك مجالات تتقاطع فيها الصحوات الدينية بالمجتمع والدولة، بعضها قائم على نظرية التبادل التي تكلم عنها مالينوفسكي، حيث يتحرك الكائن البشري دائماً تحت ضغط الحاجة في سياق تبادلي، ليس خضوعاً لقيمة السوق الاقتصادية؛ بل في كافة مجالات الحياة الاجتماعية (انظر: علم الاجتماع الديني، ص59،61)، فالفرد أو الصحوة بما لديها من ثروات رمزية؛ مثل: حيازة المشاعر الدينية، وكاريزمات الشخصيات الوعظية، والتفاعل مع الجمهور، واجتذاب العواطف، تجعل منها عنصراً فاعلاً في المساومة داخل الدولة والمجتمع، وهذا ما نراه أحياناً من وجود بعض الدعاة في إعلانات بعض الشركات، أو في تعزيز حظوظ رجال الدولة في المجتمع بحضور مجالسهم أو تزكية أعمالهم، أو التأثير في صراع الانتخابات والرهان على تلك القوى الرمزية في إنجاح الأحزاب السياسية، وهذه الحالة التبادلية نتجت بسبب تفاعل تلك القوى اجتماعياً، كما أن هناك ملحظاً آخر يتقاطع أيضاً بين تلك القوى الثلاث (الصحوة والدولة والمجتمع) وهو ما يتعلق بمفاهيم الانتماء، حيث يحضر الانتماء الأممي والديني العابر للحدود في أدبيات الصحوة، في حين تراه الدولة تقاطعاً مع ضرورة الانتماء لهويتها الوطنية والقومية، وفهم طبيعة ومنطلقات وأسس كل منهما يخفف من حدّة التعامل بينهما، فالأبعاد الروحانية التي يستقيها خطاب الصحوة لا تؤمن حقيقةً بالحدود الوطنية، فهو ينطلق في الغالب من مفهوم الأمة الواحدة كما يقرره القرآن والسنة، بينما حركته في المجتمع ومناشطه الدعوية بين الأفراد تقتضي أن تكون خاضعةً لقيود الانتماء للوطن، ومن خلال العمل وفق حدوده ومراعاة أنظمته، وغالباً ما يحدث في هذه التداخلات المفاهيمية مواقف صدامية تُسهم بتشكّل جزر حزبية داخل المجتمع الواحد. وأخيراً، نحتاج إلى فهم سياقات بروز الظواهر الصحوية، وتعلّم طبيعتها الاجتماعية، وأنها منتج تفاعل المجتمع باحتياجاته خصوصاً الدينية منها، وهذا الأمر لا يُستثنى منه دين أو أيديولوجيا، وبالتالي مواجهة الصحوات الدينية بالمقامع الصلبة غالباً ما تكون نتائجها خطيرة وسلبية، وربما تتحول إلى موجة اجتماعية أكبر وتتبنى العنف في شكل أوثق، وقد ينتهي الأمر بالجميع إلى صدامات يخسر فيها من يظن أنه الرابح، لأنها أشبه بمواجهة احتياجات المجتمع الطبيعية؛ كحاجته للرفاه والصحة والعمل وغيرها، لذلك كان التعامل معها وفق أنماط المتغيرات الاجتماعية هو الأحكم والأولى في تحسين توظيفها إيجابياً وتنموياً، والرفق لا يدخل في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شأنه.