تأكيداً لما أوردته "الحياة" عن الانعكاسات المحتملة ل"الحرب على الارهاب" على البلقان عدد 23/9/2001، بدأت تظهر على الأرض مواقف بعض الأطراف التي تريد بدورها ان تستثمر الموقف الدولي الجديد، بعد 11 أيلول سبتمبر لصالح أجندة خاصة لا تخدم الاستقرار في البلقان في أخطر بؤرتين: كوسوفو ومقدونيا. وفي الوقت الذي كان فيه الطرف المقدوني المتشدد الذي يمثّله رئيس الحكومة غيورغيفسكي يعرقل اقرار التعديلات الدستورية التي يُفترض ان تؤسس لمقدونيا جديدة، جاءت الهجمات الارهابية في 11 أيلول لتوحي بخلط الأوراق من جديد. وهكذا بعدما كان غيورغيفسكي يتهم الغرب والولاياتالمتحدة بمساعدة "الارهابيين" جيش التحرير الوطني الالباني، وينتقد في البرلمان المقدوني التعديلات الدستورية لكونها فرضت عليه فرضاً، من أوروبا والولاياتالمتحدة، وجد في 11 أيلول فرصة لخلط الأوراق بين الأطراف المختلفة. فصرّح، في 24/9/2001، انه لا فرق بين أسامة بن لادن و"جيش التحرير الوطني الالباني"، فكلاهما ارهابيان. وفي هذا السياق تكفلت جريدة "دنفنيك" المقدونية بنشر "بعبع" ابن لادن في البلقان من خلال تحقيق زعمت فيه اعتمادها على مصادر استخباراتية. وأكدت ان الكثير من "المجاهدين" الذين ينتمون الى تنظيم "القاعدة" أقاموا لهم قواعد على الحدود المقدونية الالبانية، وحدّدوا الأهداف الأميركية التي يريدون ضربها سواء في مقدونيا مجمع ايبل سنتري قرب مطار سكوبيه، أو في كوسوفو قاعدة بوند ستيل. وهكذا يبدو ان هناك ما يبرّر تقارباً وتعاوناً أميركياً ومقدونياً جديداً في وجه "الارهاب" الالباني - الإسلامي. وترافق مع التوجه المقدوني الجديد هذا تباطؤ البرلمان المقدوني في اقرار التعديلات الدستورية، وذلك على أمل أن يؤدي انخراط مقدونيا في "الحرب على الارهاب" الى مراجعة هذه التعديلات لمصلحة سكوبيه، في مقابل دورها المتخيّل في الحرب القادمة. ولكن هذه المعلومات المفبركة التي سرّبتها جريدة "دنفنيك" لم تخفَ دوافعها وأهدافها على المحللين المتخصصين في البلقان. فاعتبرها المحلّل المعروف، باتريك مور، في تعليق له في اذاعة "أوروبا الحرة" مجرد "محاولة لكسب تأييد الأطراف الخارجية الأوروبية - الأميركية لمصلحة المواقف المقدونية القومية المتشدّدة" نشرة "تشيك" 24/9/2001. وكان الأطلسي اعلن عن اكتمال جمع الأسلحة من جيش التحرير الوطني الالباني، الذي أعلن الممثل السياسي له في هذه المناسبة عن حل هذا الجيش، بحسب الاتفاق الذي وقع برعاية وضمانة أوروبية وأطلسية. وهذا يجعل الكرة في مرمى سكوبيه، ويجعل الضغط الغربي متواصلاً عليها حتى تقوم بإنجاز ما تبقى من الاتفاق السياسي، وخصوصاً اقرار التعديلات الدستورية التي تنهي اللجوء الى العنف بعد الآن. ومن ناحية أخرى، برز في صربيا موقف مشابه عبّر عنه في شكل مفاجئ نيبويشا تشوفيتش، نائب رئيس الحكومة الصربية. فصرح تشوفيتش في 21/9/2001 عن وجود صلات بين ابن لادن و"المجاهدين" في كوسوفو. وقال ان بلغراد أصبحت هدفاً محتملاً ل"الارهاب" الالباني على نمط نيويورك. ونظراً لما تركه مثل هذا التصريح لمسؤول رفيع في الحكومة الصربية من هلع، اتخذت وزارة الداخلية اجراءات خاصة لحماية بلغراد والمدن الأخرى في صربيا، ما أشاع من جديد، عند الصرب، هستيريا "الارهاب" الالباني - الإسلامي. ولكن الجريدة البلغرادية المعروفة "داناس" سرعان ما نقلت عنه في اليوم الثاني 22/9/2001 ما يوضح الهدف من "الكشف" عن وجود ابن لادن و"المجاهدين" في كوسوفو. فقد نقلت "داناس" عن تشوفيتش قوله ان صربيا "لا بد ان تتخذ اجراءات احترازية وأخرى مباشرة للحماية من الارهاب، وبهذا الشكل يمكن ان تتشكل جبهة مع أوروبا والولاياتالمتحدة للحماية من الارهاب". وبعبارة أخرى ان تشوفيتش، مثله مثل غيورغيفسكي، يحاول بواسطة الايهام بوجود "المجاهدين" من اتباع ابن لادن في كوسوفو ان يوحي ان مصلحة الولاياتالمتحدة هي في التعاون مع الصرب، وليس مع الألبان، ضد الارهاب في البلقان، والهدف، كما هو في مقدونيا، تعزيز صربيا وضعها حين يأتي الوقت لحسم مستقبل كوسوفو في الشهور القادمة. ولكن تصريحات تشوفيتش المفاجئة قوبلت بانتقاد الادارة الدولية، وبانزعاج الألبان في كوسوفو. أما في ما يتعلق بالادارة الدولية فقد انتقد المتحدث باسمها، سايمن ميزلوك، مثل هذه التصريحات التي توحي بأن كوسوفو تحولت الى قاعدة لشن "هجمات ارهابية" على صربيا المجاورة، فقال بنوع من التندّر ان كوسوفو الآن فيها من الجنود والشرطة، في الكيلومتر المربع الواحد، أكثر من أي بلد أوروبي آخر. وفي ما يتعلق بالألبان فالانزعاج مبرّر، لأن تشوفيتش نفسه، قبل شهرين، أراد ان يسوّق نفسه رجل الحلول التي تقرّب بين الصرب والألبان، بعدما نجح أولاً في التوصل الى اتفاق السلام في جنوب صربيا، ثم في اطلاق مبادرة "المصالحة التاريخية" بين الشعبين قبل شهرين، وتشمل المبادرة التوصل الى حل يرضي الطرفين في كوسوفو. فلذا جاءت تصريحات تشوفيتش المفاجئة، التي أراد بها ان "يبيع" الألبان، باسم "الارهاب"، ليدخل صربيا في تحالف جديد مع أوروبا والولاياتالمتحدة، لتوضح ان المصالحة التاريخية ليست بهذه السهولة. ويأتي التقرير الأخير ل"معهد تقارير الحرب والسلام" رقم 281 تاريخ 20 أيلول 2001 ليوضح ان الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي ليسا في صدد الانسحاب من البلقان، على خلاف ما كان يعتقد بعضهم ويبني حساباته على ذلك. بل ان الطرفين يركزان على أمرين: على مزيد من التعاون مع الأطراف كلها في ما يتعلق بالجماعات الأصولية. وعلى مزيد من الحزم لانجاز ما اتفق عليه في مقدونيا وغيرها لأجل تكريس وتكريس الاستقرار في البلقان. فعدم الاستقرار هو الذي يبقي على فجوات تستخدمها المافيات والجماعات الارهابية في البلقان. * كاتب كوسوفي - سوري مقيم في الأردن.