تشير الأرقام الأخيرة لحركة اللجوء الجماعي باتجاه ألمانيا، إلى أن المصدر الرئيس لدفع المحبطين إلى ترك أوطانهم والمخاطرة بسلوك الدروب الصعبة لم يعد الحرب والنزاعات المسلحة، كما هو الأمر في سورية وأفغانستان والعراق وليبيا وغيرها، بل هو أيضاً الحكومات الفاشلة في غرب البلقان التي عاشت على الفساد وتحول بعضها إلى واجهات لمافيات تتعاطى كل شيء. فقد كشف وزير الداخلية الألماني أن 40 في المئة من طالبي اللجوء إلى ألمانيا يأتون من دول غرب البلقان (مقدونيا وكوسوفو وألبانيا... إلخ)، وهو ما اعتبره «عار أوروبا» لأن الاتحاد الأوروبي تعامل مع دول المنطقة باعتبارها «دولاً مرشحة» للانضمام إلى الاتحاد مثل «جمهورية مقدونيا» التي صُنّفت كذلك منذ 2005 من دون أن تحقق تقدماً يذكر. لكن مثل هذه الحكومات الفاشلة تجد الآن رافعة جديدة لتعويم فشلها ألا وهي «الحرب على الإرهاب» التي تترافق مع حركات استعراضية أو مشهدية تستحوذ على اهتمام الرأي العام المحلي وتنال رضا الحكومات الأوروبية الساخطة. حالة مقدونيا تمثل «جمهورية مقدونيا» حالة نموذجية للفشل في إدارة دولة غنية بالموارد كان يراد لها أن تكون «سويسرا البلقان» بينما وصلت البطالة فيها الآن إلى نحو 30 في المئة نتيجة للفساد والتوسع في الإنفاق بما يخدم الحزب الحاكم (الحزب الديموقراطي للاتحاد القومي المقدوني) ورئيسه المتشبت بالحكم نيقولا غرويفسكي. وكان غرويفسكي الشاب في الثلاثين من عمره عندما اكتشف لعبة السياسة فعمد إلى رفع الشعارات القومية المتشددة ل «إنقاذ مقدونيا» وهو ما أتاح له الوصول أولاً إلى رئاسة الحزب في 2003، ثم بمزيد من الشعارات القومية في الحملة الانتخابية للبرلمان وصل إلى رئاسة الحكومة في 2006. ومع وصوله إلى هذا المنصب عرف كيف يؤسس لشبكة مصالح سيطرت على المفاصل الرئيسة في الدولة وتمكّنت من تمرير القرارات التي تخدم مصالح هذه الشبكة باسم الحكومة والبرلمان والقضاء إلخ. وفي هذا الشكل أمكن غرويفسكي أن يفوز في الانتخابات الأخيرة في 2014 ليبدأ بذلك الولاية الرابعة له. لكن المعارضة اليسارية لم تعترف بنتيجة الانتخابات وقاطعت البرلمان، ثم عمد زعيمها زوران زائيف إلى بث أسبوعي للتسجيلات السرية لمكالمات رئيس الحكومة غرويفسكي مع رؤساء الأجهزة الأمنية والاقتصادية والقضائية التي تكشف عن وجود «دولة موازية» وراء الكواليس تعمل لأجل مصالحها الضيقة فقط. وقد أثارت هذه التسجيلات ردود فعل تطورت إلى تظاهرات احتجاجية في شوارع المدن المقدونية وصلت إلى ذروتها في مطلع أيار (مايو) الماضي تطالب بسقوط حكومة غرويفسكي وانتخابات برلمانية مبكرة. من هنا، رأى المراقبون أن «عملية كومانوفو» في 9 - 10 أيار (مايو) الماضي التي هدفت إلى تفجير نزاع إثني - ديني بين الغالبية السلافية الأرثوذكسية والأقلية الألبانية الكبيرة (حوالى 30 في المئة من عدد السكان) كانت تفيد غرويفسكي لكي يحول انتباه الرأي العام عن الفضائح التي تكشف عنها «قنابل المعارضة» (التسجيلات السرية) حول «الدولة الموازية» التي يديرها. من هنا، زاد ضغط الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة على غرويفسكي لكي يقبل بمبدأ حكومة انتقالية وانتخابات مبكرة في مطلع 2016. لكن غرويفسكي اكتشف الآن أهمية «الحرب على داعش» التي تقودها الولاياتالمتحدة في إحداث فرق بموقف الغرب منه، أي ليكون «رجل المرحلة المقبلة» أيضاً طالما أن «الحرب على داعش» كما قيل ستستمرّ سنوات وسنوات. فاجأت الأجهزة الأمنية الرأي العام في هذا الشهر بإلقاء القبض على عشرة أشخاص على رأسهم الشيخ رجب ميميشي وبملاحقة حوالى 30 بتهمة «المشاركة في أعمال أرهابية» و «في جيوش وميليشيات أجنبية بنزاعات خارجية». وكان المقصود بذلك المشاركة أو المساهمة بتجنيد شباب للمشاركة بالقتال في سورية والعراق تحت راية «الدولة الإسلامية». إلا أن تعليقات المراقبين والمختصين، ومن ذلك ما كتبته كاتارينا بلاجفسكا، توحي بأن الأمر عبارة عن «طبخة» أو «خبطة إعلامية» لتشكيل صورة جديدة عن غرويفسكي تجعله مقبولاً في الغرب، حيث إن السفارة الأميركية في سكوبيه سرعان ما رحبت بجهود حكومة غرويفسكي «في محاربة الإرهاب». كشفت جريدة «دنفنيك» وغيرها أن الحكومة كانت تعرف منذ زمن بنشاط هذه المجموعة التي وُضع على رأسها الشيخ رجب، وأن «الجماعة الإسلامية» التي تمثل المسلمين أمام الدولة شكت للحكومة منذ أكثر من سنة نشاط الشيخ رجب إمام جامع «توتون سوز» في محلة غازي بابا بسكوبيه القديمة الذي خرج عن «الإسلام التقليدي»، ولم يعد للجماعة سيطرة على الجامع الذي تحول إلى مركز للتطرف الديني. وفي هذا السياق، كانت الأجهزة الأمنية تعرف جيداً الشيخ رجب، الذي كانت السلطات السعودية طردته من الجامعة بسبب أفكاره المتطرفة، لكن وزارة الداخلية رفضت «التدخل في الشؤون الداخلية للجماعة الإسلامية» تاركة الشيخ رجب يدعو جهاراً إلى تأييد «الدولة الإسلامية» وينشط لتجنيد الشباب للذهاب إلى سورية والعراق ل «الجهاد» هناك. حالة كوسوفو بعد سنة من وصول غرويفسكي إلى الحكم في سكوبيه وصل أيضاً الشاب هاشم ثاتشي في 2007 إلى رئاسة الحكومة الكوسوفية بعد انتخابات برلمانية فاز فيها حزبه بشعارات قومية ألبانية، حيث صعّد شعبيته بإعلان الاستقلال عن صربيا في 2008، وهو ما استغله للاستمرار في الحكم عبر تحالفات مختلفة حتى انتخابات 2014 التي ادعى حزبه أنه فاز بها وهو ما يجعله الآن يستعد للانتقال إلى منصب رئيس الجمهورية في مطلع 2016. وكما هو الأمر في مقدونيا فقد عرف ثاتشي أيضاً كيف يبني شبكة من المصالح سيطرت على مفاصل الدولة القائمة وسمحت بتشكل «دولة موازية» كشف عنها تقرير استخبارات «الناتو» الذي تم تسريبه إلى الصحافة الكوسوفية عشية انتخابات 2014 للتأثير في الناخبين. ولكن، تبيّن أن التصويت في كوسوفو ليس مثل التصويت في الغرب، حيث لا يصوّت الناخب لما يراه مناسباً بل لمن يؤمّن له حاجته في العمل في مجتمع تصل فيه البطالة إلى نحو 50 في المئة. وكان ثاتشي وعد في حملته الانتخابية بتأمين 200 ألف فرصة عمل للعاطلين خلال ولايته الجديدة، ولكن الذي حدث أن نحو نصف هؤلاء غادر كوسوفو إلى دول الاتحاد الأوروبي بما يشبه «الخروج الجماعي» خلال الشهور ال12 الأخيرة. وكما في مقدونيا فقد تدخل الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة في كوسوفو أيضاً، ولكن بطريقة أخرى تمثلت بفرض تشكيل محكمة دولية على كوسوفو لتحاكم زعماء سياسيين حول ثاتشي، وربما ثاتشي نفسه وفق بعض التسريبات، بتهم تعود إلى ماضيهم في «جيش تحرير كوسوفو» في سنوات 1998 - 1999، وما ارتكبوه من جرائم بحق المدنيين، وذلك باعتباره الحل الوحيد الذي يرحّل هؤلاء عن الحكم. ولكن، كما في مقدونيا أيضاً، تبدو «الحرب على داعش» هي الرافعة لتعويم الحكومة الفاشلة في كوسوفو التي تريد حرف انتباه الرأي العام عن الأوضاع الصعبة في البلاد و «الخروج الجماعي» للكوسوفيين بأخبار مفاجئة تسيطر عليهم كلياً. هكذا، فوجئ الرأي العام خلال تموز (يوليو) المنصرم بخبر إيقاف شخصين في سيارة تحمل أعلام «داعش» بالقرب من بحيرة بادوفتس التي تزود العاصمة بريشتينا بمياه الشرب، مع عبوات كيماوية لتسميم ماء البحيرة. وقد أدى إعلان الخبر الذي ترافق مع قطع مياه الشرب عن العاصمة، إلى حالة من الهلع بين السكان الذي اكتشفوا أن «داعش» أصبح بينهم. مع ذلك، كان هناك من المراقبين من تحفظ عن طريقة إخراج هذا الخبر والغاية منه. فقد اعترف محامي المعتقلين بوجود عبوات سُميّة معهم، ثم أنكر ذلك، كما تم تسريب أخبار بأن الأجهزة الأمنية كانت تعرف بتحركاتهم وتراقبهم إلى أن أوقفتهم عند البحيرة المذكورة. ومع نفي وجود عبوات سُمّية لا يبقى سوى حوزتهم لأعلام «داعش» على طريق بريشتينا - جيلان الذي يشرف على البحيرة، مع أن جيلان قد تكون مقصدهم الحقيقي. لكن التعتيم الكامل على الحالة ازداد مع إعلان الادعاء قبل أيام بتمديد اعتقالهم شهراً آخر حتى العاشر من أيلول (سبتمبر) المقبل، وذلك «لوجود شكوك بأن المهتمين قد أعدّوا للقيام بأعمال جنائية لإحداث رعب عام وذلك بهدف ترهيب السكان وتخريب المؤسسات السياسية والدستورية والاقتصادية والاجتماعية لجمهورية كوسوفو». مع بيان كهذا، ينشغل الناس في تخيّل ما كانت تخطط له «المجموعة الإرهابية»، خصوصاً مع تمديد اعتقال أفرادها لأجل «المزيد من التحقيقات»، وكل هذا يؤدي غرضه في عودة الثقة بالحكومة «الصاحية» و «المشاركة» في «التحالف الدولي للحرب على الإرهاب»... لكي تحوز صدقية في الداخل وفي الخارج أيضاً.