قبل اغتياله في أقلّ من اسبوع، استطاعت الصّحافيّة ماري فرانسواز كولومباني في مجلّة "إيل" ELLE أن تحظى بمقابلة مع زوجة القائد الأفغاني المعارض أحمد شاه مسعود في منزلهما الذي اشترياه حديثاً في وادي بنشير. في المقابلة تحدّثت السيّدة مسعود عن حياة المقاومة التي عاشتها منذ الإحتلال السوفياتي لبلدها لغاية الحروب التي تواجه الأفغان اليوم. وتمّ الإصطلاح على تسمية هذه المرأة بالسيدة S وذلك لضرورات أمنية لها ولأولادها الستّة، يومها لم تدرك هذه الشابّة التي لا تتجاوز ال29 من عمرها أنّ القدر سيخطف حياة زوجها بعد بضعة أيام على حديثها. بين الأشجار الكثيفة، والمساكن الفقيرة التي تتناثر حولها بقايا الأبقار الجافّة المستخدمة كوقود شتاء، وبين الجبال الجرداء والغبار والشّمس يقع منزل أحمد شاه مسعود الذي شارف على الإنتهاء من بنائه وتأثيثه وكان انتقل إليه منذ اربعة أيّام فقط. المنزل محاط بحديقة واسعة، فيه نبع مياه صغير كان العدوّ الأبرز للطالبان يقضي بعض الوقت قربه مع أولاده الستّة. تفتح السيّدة S الباب بنفسها، جميلة الوجه صاحبة عينين خضراوين وشعر كستنائي فاتح، وقامة مشيقة لم تؤثّر عليها ستّ ولادات، لديها شامة تحت شفتيها وترتدي فستاناً أسود طويلاً، وحذاء صيفياً ذات كعب عال تظهر منه أظافر مطليّة بأناقة متناهية كافية وحدها لأن تجعلها عرضة للجلد في بقيّة أنحاء البلاد التي يحتلّها الطالبان. تنظر السيّدة مسعود الى أبنائها بحنوّ واضح، "إنّهم سعداء لأنّهم يرون والدهم دائماً هذه الأيام ويتمكّنون من اللهو معه". وتضيف: "لدينا الآن مسكن لا تكشفه الطائرات بسهولة لكنّه ليس آمناً مئة في المئة، لذا أرتجف دائما كلّما نظرت الى اطفالي". الواقع انّه كلّما تواجدت عائلة مسعود في وادي بنشير تبدأ حركة طالبان بالقصف، مما تسبّب مرّة بتدمير مخيّم للاجئين وقتل 30 شخصاً. لذا عمد الوالد في أحيان كثيرة الى نقل عائلته الى طاجيكستان لئلا يعرّض الناس للقصف. وبعد أن ابتاع المنزل الجديد، كان الأولاد يخافون من اللعب في الحديقة فقال لهم أنّ الجاسوس الذي كان ينقل معلومات عن أماكن وجودهم قد ألقي القبض عليه، "وحدي كنت أعرف أنّها كذبة واشعر بمرارة عميقة حين ارى اولادي يلعبون في الحديقة ببراءة". على نقيض زوجها الذي ولد في كابول، ولدت السيّدة S في بوزوراك. والدها كان بائعاً في متجر للخشب في الشارع الرّئيسي. ذهبت الى المدرسة مع اترابها الى حين اجتاح السوفيات البلد. وعندما تطرح اسئلة تتناول طفولتها تبتسم السيّدة مسعود وتجيب: "هل تريدين فعلاً ان تبكي؟ إنّ حياتي كانت قاسية جدّاً منذ سنّ التاسعة". ينزل المنديل الناعم على كتفيها فلا تعيده الى شعرها. على غطاء أبيض على الأرض وضعت السيّدة مسعود ما لذّ وطاب من الفاكهة والشاي الأخضر. فجأة عمّ الظلام، المولّد الكهربائيّ لا يعمل إلا بعد مرور وقت. لذا تشرع السيّدة في الحديث عن حياتها في العتمة. عام 1979 كان والدها كوكو تاج الدّين أوّل من دعم مسعود في مقاومته ضدّ الإتّحاد السوفياتي. كانت الثالثة بين 4 أولاد. وبسرعة وجدت العائلة نفسها تتنقّل من مخبأ الى آخر في الجبال الوعرة لأنّ والدها كان يرافق مسعود كظلّه وتعتبره والدتها كإبن لها. "كنّا نمشي لساعات طويلة من دون ان نأكل شيئاً، تحت القذائف المتساقطة كالأمطار. كنت أبذل جهدي وطاقتي لحماية إخوتي وأخواتي الصّغار، وكنّا الهدف الرّئيسيّ للروس كون والدي يحارب على الجبهة، وكانوا يعلمون دائماً بمكان وجودنا بفضل الجواسيس الذين زرعوهم اينما كان". وتتابع السيّدة مسعود: "أذكر جيّداً حين وضعت والدتي طفلها في مغارة وحملته بين يديها في اليوم التالي هاربة من القصف، لا أزال أرى الجثث التي تجاوزناها أمام ناظريّ. في أحد الأيّام، وأثناء القصف الشديد جاء المخاض خالتي فبدأت بالوضع وطفلها الآخر الى جانبها، وإذا بقذيفة تقع عليها مباشرة. في اليوم التالي كنت انا من جمع أشلاءها وطفلها ولم اكن أتجاوز التاسعة من عمري!". في مرّة أخرى إختبأت مع عائلتها في أحد اوكار الوحوش، وإذا بقذيفة تسدّ المنفذ، وبعد خروج العائلة بأعجوبة وجدت أنّها مجروحة في جبينها جرحاً عميقاً لا تزال آثاره بادية. حتى اليوم يخبر اخوها أحمد شايد الذي يكبرها بعام عن مدى جرأة شقيقته التي كان يراها تمتطي الحصان، حاملة السلاح في يديها لتحمي الأطفال وتخبّئهم. في المساء كان الجميع يعودون للإختباء في المغاور، وفجأة يظهر مسعود في الوادي يرافقه زهاء ستّين من المجاهدين، وتبدأ النساء بالطّهو للرجال الذين قد يكونون من دون طعام لأيام. كان الجنرال مسعود بالنّسبة الى S رمزاً، فهو مهندس مثقف كان يحنو كثيراً على الأطفال الذين لم يتسنّ لهم دخول المدارس، ويقوم بتعليمهم الشعر أو الحساب في أوقات الرّاحة. في ذلك الوقت كان الشابّ الذي يبلغ من العمر 37 عاماً القائد والحلم الذي لا تتجرأ الفتاة على أن تتخيّله يتحقّق. لكنّ لمفاجأتها الكبرى، وعلى نقيض العادات التي تفرض على نساء العائلة التقدّم بطلب يد الفتاة جاء مسعود وحيداًِ الى والدها يطلب يدها منه، كطريقة ليردّ له الجميل كونه معاونه الأوّل. لم تكن S تتجاوز ال17 من عمرها، ولمّا فاتحها والداها بالأمر تركت الجواب لهما لكنّها كانت تطير من الفرح في أعماقها. بعض المقرّبين من مسعود انتقدوا ارتباطه بإمرأة أقلّ منه علماً، لكنّه طالما احبّها ودافع عنها. بعد 3 أشهر تمّ الزواج بحضور 4 اشخاص فقط وذلك لضرورات أمنيّة، "حتّى أخي لم يعلم بالزّفاف لكنّ الرّوس علموا! وبعد يومين فقط عدنا للهرب في الجبال، والمغاور". وعوض أن تنتظر والدها صارت تنتظر زوجها. "كان يعدني بالعودة كلّ 15 يوما، لكنّه كان يغيب 6 اشهر متواصلة أحياناً، وفي إحدى المرّات لم يستطع مغادرة الجبهة طيلة عام كامل، لذا لم يشهد ولادة أيّ من أولاده الستّة". عام 1992 إستولت المعارضة على السّلطة، لكنّ التناحر بين فرقها المختلفة بدأ مجدّدا، ولم تعرف هذه السيّدة الرّاحة التي انتظرتها طويلاً. "في الأعوام الأربعة الماضية كان زوجي يغرق في حزنه وخيبته أكثر فأكثر، بينما أدركت أن الأمل بالعيش في طمأنينة غير موجود". لا تبقى السيّدة مسعود في منزل واحد أكثر من عام، تعيش في حالة هروب مستمرّة منذ 20 عاماً. في منزلهما الأخير قرّرا أن يكون لهما حديقة كي يلعب الأولاد، ووضعا مكتبتهما الأولى والمعروف عن مسعود أنّه مولع بالشّعر، وطالما رغبت السيّدة S أن يتحوّل هذا المنزل الى جمعيّة نسائيّة. في هذا المنزل حاول الزوجان أن يبنيا عائلتهما ولو تحت تّهديد القذائف ومحاولات الإغتيال المستمرّة. هل ارتدت S التشادري الذي ترتديه السيدات الأفغان والذي تفرضه طالبان؟ هذا السؤال أثار غضبها "لا البتّة، حتى والدتي ترفض ارتداءه، هذا الوضع فرضه الطالبان وأنا لا أملك حتى ثوباً واحداً منه في خزانتي"، ثمّ تتابع هذه المرأة التي ناضلت معظم سني عمرها: "إنّ الألم الذي تعاني منه النّساء الأفغانيّات عظيم. كلّ يوم أستقبل زهاء 20 أو 30 امرأة ، منهنّ من فقدن أزواجهنّ، أو أولادهنّ، أو بيوتهنّ وتحوّلن الى لاجئات. باكستان تقتلنا بتسليحها طالبان". وتتابع: "إنّ وضع النساء الأفغانيات مأسويّ، أولادهنّ يموتون من الجوع أو أثناء الولادة، حتى رجال الدين بدأوا يشجّعونهنّ على تحديد عدد الأولاد. لكن من دون وسائل طبية. كثيرات هنّ النساء اللواتي يمتن من نزيف حاد بسبب محاولة الإجهاض. هنا النساء يجهضن بوضع أحجار كبيرة فوق بطونهنّ! من هنا ضرورة أن نبني عيادات تعلّم وتراقب تحديد النّسل بوسائل طبّية...".