بدت مدينة الخليل امس كمدينة أشباح لا يقطنها سوى جنود مدججين بالاسلحة يعتلون دباباتهم وآلياتهم الثقيلة ولا يقطع الصمت المرعب فيها سوى زخات من الرصاص تطلق هنا وهناك. وكانت شوارع المدينة وأزقتها عاشت حرباً حقيقية طوال ساعات الليل عندما اجتاحت عشرات الدبابات والمجنزرات الاسرائيلية، تساندها ثلاث مروحيات حربية، الجزء الاكبر من القسم الخاضع منها للسيطرة الفلسطينية، فاحتلت عشرات البيوت وحولتها الى ثكنات عسكرية بعدما قتلت ستة فلسطينيين، أربعة منهم بصاروخ اطلقته مروحية. فرضت القوات الاسرائيلية حظرا مشدداً على تجول نحو 170 الف فلسطيني باتوا معزولين عن محيطهم ويخضعون مباشرة للاحتلال العسكري الجديد، وشن الجيش الاسرائيلي حملة مداهمة واسعة لمنازل المواطنين بحثاً عن مقاتلين، واحتل بعضاً منها بعدما دمّر بقصفه المدفعي وبالرشاشات الثقيلة عشرة بيوت أخرى، ومنع سيارات الاسعاف من الوصول للبحث عن جرحى او ضحايا محتملين تحت انقاضها. واحتلت قوات الاحتلال الاسرائيلي قلب مدينة الخليل وتلة ابو سنينة وحارة الشيخ وواد الهريا و"دوار الصحة" ومنطقة اسكان البلدية، ليصبح 60 في المئة من مساحة المدينة الاجمالية تحت احتلالها مجدداً، في أعنف عملية عسكرية اسرائيلية استهدفت مدينة فلسطينية بعد مدينة جنين. واستخدم الجيش الاسرائيلي نحو 30 دبابة للسيطرة على المناطق التي احتلها والتي اعلن ناطق عسكري انه لن ينسحب منها في الوقت الحاضر. وأكد شهود ل"الحياة" في اطراف المدينة ان القوات الاسرائيلية نفذت هجومها وفقاً لخطة عسكرية محكمة، اذ بدأت بقصف مركز على الاحياء السكنية لاستدراج المقاتلين للتصدي لها، وباغتت مروحية "أباشي" مجموعة من الشبان وأطلقت صاروخاً باتجاههم حوّل اجسادهم الى أشلاء. والشهداء هم حازم عمرو 26 عاماً واياد قفيشة 28 عاماً وكلاهما مقاتلان من حركة "فتح" ورائد ابو سنينة 27 عاماً ونضال قفيشة 28 عاماً، اما الشهيد الخامس قاسم ابو عفيف 48 عاماً فقتل اثناء خروجه من الجامع بعد اداء صلاة الفجر. فيما قتل السادس وهو محمد الشرباصي برصاص الجنود الاسرائيليين قبل الاجتياح. وشيّع الفلسطينيون شهداءهم الى مثواهم الأخير في جنازة جماعية. ويعتبر الاجتياح ترجمة لا تقبل التأويل للتهديدات التي أطلقها رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون "للعالم الحر وزعيمته الولاياتالمتحدة" واعلانه في خطاب مساء اول من امس "ان اسرائيل ستعتمد على نفسها فقط" وحديثه عن "اطلاق يد الجيش الاسرائيلي" في مناطق السلطة الفلسطينية، مُصدراً بذلك شهادة وفاة جديدة لوقف النار المنهار اصلاً. وحقق شارون باحتلاله قلب الخليل والتلال المشرفة عليها مطلباً ألحّ المستوطنون اليهود في المدينة عليه منذ بداية الانتفاضة اذ يعيش نحو 400 مستوطن في بؤر استيطانية في الجزء الذي ابقت اسرائيل على احتلاله في المدينة بعد اتفاقات اوسلو والذي يقطنه 40 الف مواطن فلسطيني يخضعون منذ بدء الانتفاضة الى حظر تجول شبه دائم، لضمان حرية الحركة للمستوطنين اليهود الذين يشكلون مصدراً ثابتاً لمعاناة السكان بسبب اعتداءاتهم المستمرة. وفي قرية جلجيلية شمال رام الله، عاش افراد عائلة فلسطينية ليلة مرعبة عندما وجدوا انفسهم رهائن بأيدي جنديين اسرائيليين اقتحما منزلهم. حدث ذلك ليل الخميس - الجمعة عندما كان قاسم محمد 32 عاماً افراد عائلته الخمسة بمن فيهم ابنته حنين التي لم تتجاوز العام في منزلهم، الذي اقتحمه اسرائيليان احدهما يرتدي زياً مدنياً والآخر زياً عسكرياً ويحملان اسلحة رشاشة ومناظير قناصة وهدداهم بالقتل واحتجزاهم لثلاث ساعات. وبعدما أشيع الخبر عن وجود جنود اسرائيليين في القرية الخاضعة للسيطرة الفلسطينية، تجمع الاهالي حول منزل محمد لكنهم امتنعوا عن مهاجمته خوفاً على حياة الأسرة الفلسطينية. وقالت مصادر اسرائيلية ان الاسرائيليين مستوطنان "ضلا الطريق"، فيما اكدت مصادر فلسطينية امنية انهما جنديان دخلا القرية لهدف لم يعرف. وقامت قوات كبيرة من الجيش الاسرائيلي بمحاصرة القرية تحت تغطية مروحيات حربية، واخرجت الجنديين من المنزل. ووصف محمد ساعات الاحتجاز بأنها "كانت أكثر الساعات رعباً في حياته". واشار الى ان الجنديين صوبا اسلحتهما باتجاهه وافراد عائلته وهدداه: "سنقتلك ونقتل زوجتك وابنتك اذا أُطلقت النيران علينا" بعدما شعرا بأن المنزل محاصر بالمواطنين وقوات الامن الوطني الفلسطيني. واقتحمت القوات الاسرائيلية قريتي كفر الديك ودير الغصون شمال الضفة واعتقلت شابين فلسطينيين. وفي قطاع غزة، واصلت القوات الاسرائيلية المحتلة لليوم الثالث على التوالي تجريف اراضي المواطنين في بلدة بيت لاهيا شمال غزة واقتلاع الاشجار بعدما احتلت نحو كيلومتر واحد من اراضي السلطة في تلك المنطقة. وجرفت القوات ودمرت نحو 1000 دونم من الاراضي الزراعية على امتداد مستوطنة "ايلي سيناي" التي شهدت هجوماً الاسبوع الماضي قتل فيه اسرائيليان وجرح عدد آخر. عرفات - باول الى ذلك، وصف نبيل ابو ردينة مستشار الرئيس ياسر عرفات، الاحتلال الاسرائيلي لمدينة الخليل بأنه "موامرة خطيرة تشارك فيها عناصر في الحكومة الاسرائيلية والجيش الاسرائيلي لتخريب الجهود الاميركية والدولية". وطالب الولاياتالمتحدة بالتحرك الجاد لوقف العدوان الاسرائيلي على الفلسطينيين، مشيراً الى ان تصريحات رئيس الحكومة ارييل شارون الاخيرة "تشكل استخفافا بالمجتمع الدولي". وتلقى الرئيس الفلسطيني اتصالاً هاتفياً من وزير الخارجية الاميركي كولن باول الذي طلب منه اتخاذ اجراءات لوقف العنف. وعلى رغم انهيار وقف النار ميدانياً وسياسياً باعلان شارون ووزير دفاعه بنيامين بن اليعيزر الغاءه، اعلنت القيادة الفلسطينية في ختام اجتماعها امس في رام الله التزامها اتفاق وقف النار ودعت الاجهزة الامنية والمواطنين الفلسطينيين الى التزام الاتفاق "لأنه من مصلحة الفلسطينيين" ولقطع الطريق على محاولات شارون وعناصر في الجيش الاسرائيلي لتشويه صورة الفلسطينيين امام العالم. وقتل امس مستوطن اسرائيلي خلال عملية اطلاق نار من سيارة عابرة قرب قرية فرعون شمال الضفة وأصيب آخر بجروح متوسطة وفقاً لما أعلنه الجيش الاسرائيلي. واعلنت "سرايا القدس" الجناح العسكري ل"حركة الجهاد الاسلامي" مسؤوليتها عن تنفيذ العملية وأفادت مصادر طبية فلسطينية أمس ان "10 فتية واطفال على الاقل اصيبوا برصاص قوات الاحتلال الاسرائيلي خلال مواجهات اندلعت في منطقة المنطار كارني شرق غزة جروح احدهم خطرة وهو فتى في ال16 من العمر".