} يتابع ملحق "آفاق" ملف أدب الرحلات الذي بدأ في العدد السابق، بنشر هاتين الرحلتين الى اميركا لزميلين من اسرة "الحياة". الرحلة الاولى جرت في تسعينات القرن العشرين، والثانية خلال ايلول سبتمبر الفائت: عاليه في الخمسينات: كانت ادارة المدرسة تنظم رحلات دورية للتلامذة. فالرحلة الى الطبيعة ترفع الحس المعرفي المباشر للطالب. الى الرحلات كانت المدرسة تنظم دورات كشفية وأحياناً زيارات للآثار العمرانية والمسارح ودور السينما. كانت السينما رحلتنا المفضلة. فهي الأكثر اثارة للمخيلة والأكثر تأثيراً في عقول اطفال طرية تملك معرفة بدائية عن الأشياء والزمن. فالصور المتحركة أمام أولاد دون العاشرة تثير الدهشة وتقوم بترتيب وعي غير منظم. فالفوضى في الوعي تتحول مع الأيام في اللاوعي الى وعي نمطي يخلط المشهد المصور بمسرح الحياة اليومية. وهذا الخلط بين الصورة والواقع يؤلف حالات من المشاعر الغريبة تؤسس لاحقاً بذور كراهية أو حب، تقليد أو رغبة في التجاوز. فالسينما تصنع في عقل الطفل الطري مجموعة مراتب تصنف العالم الى خير وشر، وتقسمه الى بطل ومجرم، شريف وغدار، صاحب حق ومعتد. فالسينما معرفياً هي اللعب على الثنائيات واختصار الزمن الى نموذجين لا يلتقيان الا في النهاية... وعادة يكون موت "الشر" المفترض وانتصار "الخير" المتوهم. فالسينما معرفياً ثقافة مبسطة، تختصر مأساة بأقل من دقيقة، وتكثف التاريخ في مشاهد هاذية تقطع المسافات بثوان. والسينما في هذا المعنى هي الوعي المقلوب، أو الحقيقة المختزلة الى دقائق... والدقائق الى أجزاء صور... والصور يعاد تركيبها في الاستديو في سياق مشهدي درامي يقلب التاريخ على قفاه ويؤسس لوعي مفترض له صلة بالآن. فالآن هو لحظة زمنية تعزل الحاضر عن الماضي وتتحول الى مستقبل خال من الاسطورة. "أكره الهنود الحمر". هؤلاء "قتلة" يغدرون بالأبطال النبلاء، يطوقون القوافل الباحثة عن المستقبل في غرب اميركا، يعتدون على الأطفال الأبرياء، يسبون النساء، يسلخون جلدة رأس الخصم، يقطعون أذنه، يجدعون أنفه. "الهنود الحمر" قبائل دموية عنيفة حاقدة تكره "الأبيض" و"الاجنبي". قبائل "الهنود الحمر" ضد التاريخ، انها تجمعات عصبية وعصية، تعاند الزمن، ومستعصية على التطور. انها عقبة امام التقدم ترفض المساومة ولا تريد مشاركة الآخر في الثروات. مثل هؤلاء يجب ازالتهم واستبدالهم بشعوب شريفة ونبيلة تعرف طعم المعاش وتحب الحياة وتريد الخير للجميع. هكذا تكلمت السينما. ومن هنا بدأ حفر الوعي المزيف. بيروت السبعينات في السبعينات وصلت هندية حمراء اسمها بام الى بيروت بصحبة صديقي الذي كان يدرس في اميركا، بام في بيروت. قالوا انها فقدت أهلها. قالوا انها من الأباتشي. قالوا ان جون واين، ورونالد ريغان، وبيرت لانكستر، وغريغوري بيك، وكيرك دوغلاس، شتتوا قبيلتها. منذ 1492، عام اكتشاف اميركا وسقوط غرناطة... و"بام" تبحث عن أمها. قالوا ان جون واين خطفها الى مكان ما. قيل لها انها في نيكاراغوا، في بنما، فنزويلا، البرازيل، الارجنتين، كوبا، تشيلي، البيرو. بحثت بام عن امها ولم تجدها. قيل لها ربما سُبيت الى لاوس، كمبوديا، فيتنام، الفيليبين، اندونيسيا، كشمير. بحثت هناك ولم تجدها. قيل لها بيعت في سوق النخاسة في بلد افريقي. ربما افريقيا الشرقية، الوسطى، افريقيا الغربية. بحثت ولم تجدها. قيل لها ربما استوطنت فلسطين. بل تشردت مع الفلسطينيين وهُجرت الى "مخيم ما" في لبنان. وصلت بام الى بيروت برفقة صديق حصل على شهادة الدكتوراه في احدى الولايات الاميركية. جاءت معه بحثاً عن أمها، لم تجدها. وجدت "الويسترن". شاهدت ملصقات جون واين معلقة على مداخل دور السينما، ولم تجد صورة امها. بام... هذه الجميلة اختلط في بشرتها البيضاء لون قبيلتها الأحمر، ولف وجهها شعرها الطويل الداكن السواد. عيون بام الدامعة لم تجد الأباتشي في بيروت ولم تلق أمها. رأت "الكاوبوي" يعرض تاريخه على الشاشات. أحبت بام أهل بيروت... وكرهت المدينة. انها مكتظة بالأبنية الاسمنتية، لا فضاء فيها وأضواء الأرض تطغى على نور النجوم. سماء بيروت محدودة الأفق ومداها لا يتعدى النظر ويمنع المخيلة من الانطلاق. انها غير صالحة لسكن القبيلة. انها مدينة "ويسترن" استسلمت للكذبة وصدقتها. غادرت بام بيروت الى اريزونا، احدى ثلاث ولايات لا تزال بقايا قبيلتها تعيش فيها، وأريزونا هي الولاية التي تصنع هوليوود فيها أفلام "الويسترن"... وهناك في ولايتها يتم اختراع البطل وحربه ضد القتلة. اريزونا التسعينات بعد أكثر من عشرين سنة على رحيل بام، اضطرتني رحلة عمل للنزول في اريزونا. فينكس الفينيق هي عاصمة الولاية. هذا الطائر الاسطوري الذي يموت لينبعث من رماده. انه يحترق ليعيش مرة أخرى. انتقلت تلك الاسطورة الى الاباتشي أو ان قبيلة ما نقلت الاسطورة عنها الى مكان ما، ومنه انتشرت الى مختلف الحضارات القديمة. فأسطورة الانبعاث من الرماد نجدها في أكثر من مكان وزمان. هنا في فينكس لا مكان للاسطورة، انها مدينة حديثة مقطعة الى خطوط طول وعرض منتظمة تنتشر فيها الأسواق وتمتد الأبنية... وتقطعها قوافل سيارات ذهاباً وإياباً من دون توقف. أين بام؟ هل وجدت أمها؟ هل عادت الى أهلها؟ ترى كيف أصبحت الآن؟ هل غزا الشيب شعرها؟ هل حفر الزمن خطوطه في وجهها... بشرتها؟ كيف أصبحت نظراتها الدامعة الباحثة عن أسئلة من دون أجوبة؟ فينكس مدينة تقع في وسط اريزونا تحدها جنوباً صحراء رملية، وفي وسطها تمتد سهول ترابية، وفي الشمال تقع الجبال ومساقط المياه والينابيع والأنهار. وفي القمم تتساقط الثلوج وبين الوديان تسكن بقايا الأباتشي. أهل بام. أريزونا ولاية مفارقات المكان، ومن الصعب رسم أو جمع مفارقات المكان بكلمات. بحثت عن بام، قالوا انها غادرت بحثاً عن أهلها. وقبيلتها تتلاشى... متحولة الى اسم طائرة قاتلة. في أريزونا لا مكان للأباتشي. انها ولاية "الويسترن". يصنع فيها التاريخ المقطع الى دقائق وثوان وينتج فيها الوعي المقلوب. بحثت عن بام، فرأيت واين، ولانكستر، وريغان، وبيك، ودوغلاس ولم أجد الأباتشي. عدت الى الفندق. فالطائرة ستقلع بعد ساعات ولا بد من العودة. في بهو الفندق وجدت ملصقاً يقول انه بعد ظهر اليوم ستعرض مسرحية غنائية راقصة لفرقة هندية. انها "بام"، هل تلعب المصادفة دورها وألتقي تلك الصبية/ المرأة؟ أعددت نفسي للمفاجأة... للصدمة. لعل "الفينيق" يعود مجدداً الى "فينكس" وتنبثق الاسطورة من الرماد. أخذت أبحث عن بام في عيون الفرقة الهندية الدامعة، أنظر الى البشرة، الى الوجوه الحزينة، الى الشعر الأسود، الى الأزياء البهية، الى التفاصيل التي تثير المخيلة واصلة الواقع بالاسطورة. كلهم بام. رقصت الفرقة، وغنت قصتها. تحدثت عن الاسطورة... عن الفينيق... عن الزمن الحقيقي. مستعيدة دورة التاريخ من قيامه الى موته... وقيامه. هنا السينما الواقعية. فالسرد هنا لا يتقطع الى دقائق ليعاد جمعه في كذبة كبيرة وخدعة لا تتوقف عن انتاج نفسها. السرد هنا هو رواية التاريخ الذي يتجدد مع شمس الصباح، ونجمة المساء. إلا أن الفضاء الزمني يتكرر، ومع الوقت يتراكم ويتقدم... وما كان كذبة بات حقيقة. والحق تكفل الزمن بتفكيكه الى شظايا وذرات. فهل يعود طائر الفينيق الى كسر الحقائق المخترعة ويعيد تركيبها في سياق مضاد للسائد؟ وهل يتصالح الطائر مع الوقت ويلتقي معه في مكان متخيل لا تعيش فيه الا الحقيقة؟ هذه اسطورة اخرى. فالزمن يشير الى انتصار الطائرة على الطائر، والأباتشي الهليكوبتر سرقت اسم القبيلة، وفينيكس احتوى فينيق، والسينما سحقت الاسطورة. ... وداعاً بام.