أقرّت "مؤسسة الفكر العربي" نظامها الأساسي وأهدافها العامة في اجتماع عقدته في بيروت بين 15 و17 تشرين الاول اكتوبر الجاري، وكان في مقدم المجتمعين رئيسها الأمير خالد الفيصل الذي أدار نقاشاً في النظام والأهداف. في ما يأتي مقالة لأحد الأعضاء الاستشاريين في المؤسسة الفكرية الوليدة، يعين فيها فكرة المؤسسة ومراميها. إنشاء مؤسسة تهتم بشؤون الفكر والثقافة من جانب شخصيات سياسية ورجالات اعمال ومال يعتبر مبادرة طيبة تستحق الترحيب والتقدير، وتكتسب اهميتها من وجوه عدة: - الاول: ان بعض اصحابها لهم وجوههم الثقافية ونشاطاتهم الادبية، وفي مقدمهم رئىس المؤسسة الأمير الشاعر خالد الفيصل والحاكم الاداري الذي يتمتع بحس عملي وعقل اجرائي كما بدا في ادارته للجلسات او في مشاركته في صوغ العناوين والأهداف. - الثاني: هو الاهتمام بالشأن الفكري الذي هو من أهم الشؤون وأخطرها، بما يعنيه الفكر من الرغبة في المعرفة والمقدرة على الخلق والابتكار، بالفهم والتشخيص او بالتعقل والتدبير. والذي يستخدم فكره بصورة حية ومتجددة، يمارس فاعليته وحضوره ويشارك في صناعة العالم عبر المساهمة في انتاج المعرفة والثروة والقوة. فكيف وقد أصبحنا في عصر اصبح فيه انتاج المعرفة وادارة المعلومة المصدر الاول لصنع الثروة وبناء القوة. من هنا يُمسي الفكر خطِراً على صاحبه اذا لم يَنَل ما يستحقه من الرعاية والاهتمام. اذ عندها يرتد عجزاً وفقراً وتخلفاً. وهذه حال المجتمع الذي لا يمارس اهله حيويتهم الفكرية في مجالاتهم النظرية والعملية. انه يجمد ويتراجع او يهمّش ويترك الفرصة لسواه كي يفكر عنه ويسيطر عليه. - الثالث: إن مبادرة رجالات المال العرب تسهم مع مثيلاتها في انهاء القطيعة بين قوى المجتمع وفاعلياته المنتجة، كما تجسدت هذه القطيعة في الاستبعاد المتبادل بين النخب السياسية من جهة والنخب الثقافية من جهة اخرى، من جراء الصراع على المشروعية واحتكار النطق باسم الأمة. فالمثقف لكونه يمثل السلطة الرمزية مارس الوصاية على شؤون الحقيقة والعدالة والحرية، وعمل على استبعاد الحكام من فلك المشروعية بمقدار ما تعاطى مع السياسة بصورة عدائية بوصفها مصدر الشر والفساد والاستبداد. وبدوره فإن الحاكم الذي يجسد الشرعية القانونية ويمسك بالسلطة المادية سعى الى استلحاق المثقف ليكون ناطقاً باسمه، والا عمل على تهميشه واقصائه او على تصفيته في الحالات القصوى. ولم تكن العلاقة بين الثقافة والمال افضل حالاً، بل حلت القطيعة محل التعاون. وربما يحمل المثقفون المسؤولية عن ذلك بالدرجة الاولى، من جراء تهويماتهم الايديولوجية والمثالية، الأمر الذي جعلهم يتعاملون بعقلية النفي والسلب مع رجالات الاعمال الذين بادلوهم الموقف نفسه، فعملوا على استبعادهم ولم يعترفوا بدورهم. مثل هذا الاستبعاد المتبادل الذي بُني على الانفراد والاستبداد او على الاستئثار والاحتكار، بالسلطة او الفكرة او الثروة، ألحق افدح الضرر بالمجتمعات العربية، بمقدار ما اسهم في تلغيم المشاريع الحضارية المتعلقة بنهوض الأمة او بتحديث المجتمع او بفاعلية العقل والثقافة. ولا غرابة في ان يكون المآل كذلك. لأن مسيرة النمو والازدهار تتوقف على التعاون والتكامل بين جميع المشروعيات والفاعليات والسلطات. هذا ما تشهد به التجارب القديمة والحديثة. قديماً وكما نعلم كانت العلاقة بين الحكام والعلماء علاقة عضوية لها مردودها الايجابي والبناء، بمقدار ما كانت علاقة تداول وتبادل، بدليل ان مجالس العلماء لم تكن تفارق الخلفاء والسلاطين والامراء، من عالم الفقه الى عالم الطبيعة، ومن عالم النحو الى عالم الرياضة والفلك، فضلاً عن الادباء والفلاسفة ورجالات الكلام. هذا ما جرى حديثاً في المجتمعات الاوروبية، حيث الانتاج العلمي والفكري مرتبط بالدورة الاقتصادية والمسيرة التنموية، وحيث تشارك كل الفاعليات، عبر المناقشات والمداولات، بابتكار الحلول والمعالجات للأزمات والمشكلات. واليوم، وبعد نشوء قطاعات انتاجية جديدة، تزداد مساحة التداول في عصر التواصل، حيث تنخرط كل الحقول والقطاعات في صناعة الحياة وتحقيق الازدهار: القرار السياسي، المشروع الاقتصادي، الاختراع التقني، الابتكار العلمي، الحقل الاعلامي والمعلوماتي، فضلاً عن الفكر الاستراتيجي والمستقبلي. في اي حال، لا مجال ولا جدوى بعد تعثر مشاريع التنمية، في معظم البلدان العربية، ان تحتكر نخبة المشروعية او ان تدعي فئة امتلاك الحلول للمشكلات العامة في مجتمع بكامله. فمنطق الوصاية، من منطلق العقل النخبوي والفكر الاحادي او الاستبعادي، اخذ يفقد مصداقيته في فهم المجريات ومواجهة التحديات. مما يعني ان المعالجات والانجازات، سواء داخل القطاع الواحد او بين القطاعات المتعددة، انما يتم ويتحقق بالشراكة والمسؤولية المتبادلة، بالفكر التركيبي والعقل التواصلي، بعقلية الوساطة ولغة التسوية، بمنطق التداول المفتوح والتفاعل المثمر. إن ما تشهده البشرية من الانفجارات والطفرات والتحولات، على غير صعيد، بعد الدخول في عصر التبادل الرقمي والعمل الافتراضي على المستوى الكوكبي، يجعل من المتعذر فهم العالم وادارة المصائر بما هو سائد من العقليات والمفاهيم والمعايير والأدوار. فلا مهرب من تغيير المهمة الوجودية والعدة الفكرية، اذا شئنا تجاوز ما نشكو منه او نعاني، من عجز وإحباط او عنف وارهاب. وبوسعي ان أشير الى اربعة جوانب يطاولها التغيير. 1- الفاعل الاجتماعي لنعترف، نحن المثقفين، بأننا لسنا نخباً تجسد عقول البشر وضمائر الأمم. وانما نحن فاعلون اجتماعيون، شأننا بذلك كسائر العاملين في بقية القطاعات والحقول. وكل عامل منتج يؤثر في بيئته ومجتمعه، بمقدار ما يستخدم عقله بصورة فاعلة ومثمرة في حقل اختصاصه. هذا شأن السياسي ورجل الاعمال وصاحب القناة ومنتج البرامج ومصمم الازياء ولاعب الكرة، كما هو شأن الفيلسوف وعالِم الاجتماع والشاعر والروائي والرسام... كل واحد من هؤلاء له صلة بالحقيقة والعدالة والحرية، بما يختلقه من الوقائع في مجال عمله، أي بمقدار ما ينتج من الحقائق او بمقدار ما يحسن اداءه وانجازه او بمقدار ما يمارس فاعليته وحضوره. معنى ذلك ان مهمتنا الأولى، كعاملين في فروع المعرفة وميادين الثقافة، أن نزاول مهننا بنجاح، بدلاً من ممارسة الوصاية على شؤون الحقيقة وعلى القضايا العامة، حيث يكون شاغلنا ان ننتج حول واقعنا او حول العالم معارف نغني بها حقول المعرفة، او نبتكر افكاراً نمارس بها عالميتنا بمقدار ما تكون قابلة للتداول على ساحة الفكر العالمي. من هنا تتقدم المهنة المعرفية على المهمة الايديولوجية النضالية، بعد ان أتخمنا نضالات فاشلة. فنحن بمقدار ما ننجح في خلق وقائع معرفية او حقائق فكرية نؤثر أبلغ الأثر في مجتمعاتنا وفي العالم أجمع. 2- المنطق التحويلي ليست الأفكار غايات نهائية او حقائق مطلقة نعتقد بصحّتها او نقع تحت سيطرتها. وإنما هي امكانات للوجود والحياة تتسع معها القدرات او تتضاعف الموارد، حيث نخلق بها وسطاً للحوار والتفاهم او صيغة للعيش والتعاون او مجالاً للتوظيف والاستثمار او سوقاً للتداول. والأمثلة شواهد. فلطالما انتقدنا في العالم العربي مقولة فوكوياما حول "نهاية التاريخ" بوصفها متهافتة وغير علمية. قد تكون هذه الفكرة استنفدت نفسها الآن، ولكنها خلقت مجالها التداولي على ساحة الفكر بمقدار ما استدرجت العقول الى مناقشتها والتعليق عليها طوال عقد من الزمن. ولطالما تعاملنا مع الحرية بعقلية فردوسية فكانت الحصيلة حرية مثالية هشّة ولّدت مزيداً من الاستبداد. لأن الحرية الإيجابية والبنّاءة التي تثمر تخفيفاً للقيود والضغوط، انما تبنى على المسؤولية المتبادلة بمقدار ما تمارس بنهج وسطي تواصلي، وترتبط بالمقدرة على الخلق والانتاج بمقدار ما تتوقف على ممارسة الفاعلية والحضور. مما يعني ان الفكرة ليست خَتْماً نهائياً او غاية بذاتها نقدسها لكي نقع ضحيتها، وإنما هي ما نصنعه بها، إيجاباً او سلباً، من خلال تداولها واختبارها او الاشتغال بتسويغها وعقلنتها او العمل على تعديلها وتكييفها، حيث نتغير بها ونغيّرها، او نعيد صياغتها بمقدار ما نغيّر مشهد الواقع او صورة العالم. من هنا فإن الفكرة الحية والخصبة، أياً كان مصدرها، تكون مثمرة وفاعلة بمقدار ما تصبح قابلة للصرف والتحويل، إذ يشكل كل من يتداولها نسخته الخاصة منها، وكأنها تصبح فكرته هو بالذات. وأما الأفكار التي تُفرض او تُقحم على الناس والمجتمعات بوصفها نماذج للتطبيق او للقولبة والتطويع، فهي تولّد مردوداً عكسياً، كما اثبتت التجارب في التعامل مع الشعارات، سواء تعلق الأمر بالديموقراطية والوحدة او بالعقلانية والحداثة او بالليبرالية والعولمة او بالعروبة والإسلام. مثل هذه العناوين تصبح مصدر ثراء وقوة، بمقدار ما تُعامل بوصفها عملات رمزية قابلة للتداول او طاقات حية تصرف اعمالاً ومنجزات في مجال من المجالات. مما يعني تجاوز منطق الماهية الثابتة والهوية المغلقة للتعامل مع الهوية والفكرة بمنطق التحويل والتوليد، وذلك حيث لغة الخلق والفتح هي السبيل للتجدد والتقدم او لممارسة الوجود على سبيل الاستحقاق والازدهار. 3- المجتمع التداولي ان مفهوم الفاعل الاجتماعي الذي يحلّ محل مفهوم النخبة يعني ان التغيّر يطاول شكل المجتمع ونمط الروابط بين الناس. فالمجتمع يتغير ويتطور او ينمو ويزدهر بجهود جميع العاملين فيه، كل في قطاعه وبحسب اختصاصه، ذلك ان كل فاعل منتج للوقائع في حقل عمله يؤثر على بنية الحقل وخريطة القطاع، وكل قطاع يؤثر على بقية القطاعات، مما يجعل من حركة المجتمع وتطوره سيرورة دائمة ومتنامية من التواصل الذي يتم على مستويين: تواصل في المكان، عبر نقل المعلومات وتبادل الخبرات، يشكل مساحة للتفاعل والتغيّر، داخل المجتمع الواحد او بين المجتمعات. وتواصل في الزمان بين الأجيال، عبر نقل التراثات والمكتسبات، وبصورة تتيح للناس ان يقيموا مع الأصول والثوابت علاقات متغيرة، تزداد معها أصالة بمقدار ما تزداد حداثة، عبر تجديد المفاهيم والمعايير والأساليب. بهذا لا يعود المجتمع مجتمع نخب وجماهير، بل مجتمع قطاعات وحقول تُنسج بينها علاقات تبادل وتفاعل. فلا يقوم قطاع بذاته او يكتفي بذاته، خصوصاً اليوم بعد انفجار تقنيات الاتصال. ولذا فإن انتاج المعرفة والمعلومة لا ينفك عن انتاج الثروة كما لا ينفك عن انتاج السلطة والخدمة. نحن إزاء نشاطات وأعمال تشكّل شبكات يرتبط بعضها ببعض ويؤثر بعضها على بعض. والذين اعتقدوا ان الفكرة لا علاقة لها بالثروة او السلطة قد أسهموا في فشل الأفكار وعقمها. وفي المقابل إن الذين تصرفوا وكأن الثروة لا علاقة لها بالفكرة قد أحدثوا ثراء من غير تنمية، اي تضخماً. ذلك ان التنمية في اي مجال هي ثمرة لحيوية الفكر وازدهار الثقافة، تماماً كما ان الفكرة لا تصبح فاعلة من دون المرتكزات المادية والمؤسسات الاقتصادية. معنى ذلك ان التغيير الاجتماعي هو حصيلة ما يصنعه الناس وما يقدرون على انجازه في كل الحقول والقطاعات. 4- الأنا التواصلي ثمة من العرب من يخشى على هويته من الغير او تجاه المتغيرات. ولذا يهتم بالمحافظة والمدافعة عن الخصوصية. ولكن المشكلة ليست في الغير بل في هويتنا بالذات، على ما نتعاطى معها. لقد صنع العرب المعجزات في عصور ازدهارهم الحضاري. ولكن هويتهم كما تمارس اليوم تولّد التعثر والتراجع او العجز والاخفاق. لنعترف بذلك حتى لا نتستّر على العلل والآفات بالتمترس وراء الخصوصية او بالهروب الى الأمام لممارسة الأستذة على الغرب، والادعاء بأننا نملك مفاتيح لإنقاذ البشرية مما تتردى فيه، فيما نحن عاجزون عن تنظيم علاقاتنا بصورة سوية وعقلانية. بالطبع نحن لسنا اقل من العالم ولكننا لسنا افضل الأمم. وإنما نحن جزء من العالم، نتأثر به ونؤثر فيه، نقتبس منه ونسهم في إثرائه بالاختراعات والابداعات. وقد نجح العرب والمسلمون في اقامة حضارة عالمية تصدروا خلالها واجهة الانتاج الفلسفي والعلمي والتقني لقرون طوال. وهذه الحضارة تشكل رافداً خصباً من روافد الحضارة القائمة، التي ليست هي حضارة الغربيين والأميركيين الذين يتصدرون هذا العصر بمقدار ما هي حصيلة مكتسبات البشرية في مختلف العصور. وإذا كنا اليوم في وضع لا نُحسد عليه، حضارياً، فليس لأن هناك من يريد سلخنا عن خصوصيتنا. فتراثنا هو من مقومات وجودنا. ولكنه ينتظر من يصرفه عملة قابلة للتداول على الساحة العالمية. وخصوصيتنا تنتظر من يمارسها على سبيل الاستحقاق والازدهار بالمشاركة في العمل المنتج اضافة في المعرفة او الثروة او القوة. هذا هو التحدي لمن يغضب لكلام برلوسكوني على التفوق الحضاري. الأمر الذي يحملنا على نقد الذات لتفكيك آليات العجز، وذلك بكشف العوائق والموانع التي تحول دون انتقالنا من طور التلقي والاستهلاك والسعي الى الهجرة نحو الغرب، الى طور الانتاج والبث لكي نكون مركز استقطاب للعقول والأموال. فلن يعترف بنا العالم ما لم نشارك في صناعته بانتاج ما يحتاج اليه الغير: فكرة او معلومة، صيغة او قيمة، أداة او سلعة. كفانا مشاريع ومزاعم تصنع الكوارث. الممكن ان نغيّر افكارنا او طريقتنا في التفكير فيما العالم يتغير بمشهده ونظامه، بأفكاره وقواه. وقد بات العالم اليوم واحداً كما يشهد على ذلك التشابك بين المصالح والمصائر على مستوى الأرض كلها وفي مختلف الصعد، وأولها صعيد الأمن والسلام. وإذا كان ثمة انقسام او صراع، فهو ليس بين الاسلام والغرب، بل بين نمطين في ممارسة الهوية: الأول هو التعاطي مع الخصوصية الثقافية بمنطق عنصري مغلق يحولها الى قوقعة او الى معسكر بل الى فخ ننصبه لأنفسنا. والثاني التعامل مع الخصوصية كهوية مركّبة وملتبسة تتيح الانفتاح على الآخر، على سبيل الإغناء المتبادل، بحيث يسهم كل واحد في تحويل الآخر عن مركزيته، بفتح أفق جديد للعمل الانساني، نتجاوز به بلغة الأنا التواصلي الثنائيات التي نتعامل بموجبها كأضداد نتنافى لكي نرهب بعضنا او نكره بعضنا البعض. والأنا التواصلي يعني التفكير والعمل معاً لاجتراح سياسات جديدة لإدارة الأفكار وإخراج الهويات. فإذا لم يكن بمقدور نخبة ان تحتكر تمثيل أمة او تنفرد بقيادة مجتمع، فليس بمقدور دولة او أمة ان تحتكر تمثيل البشرية او ان تنفرد بقيادة العالم. الأولى والأجدى ان تكون المعمورة مساحة للمفاوضة والمداولة، او للتبادل والتكامل في ادارة المصير البشري. فكيف وأن ما يحدث من الانفجارات والكوارث يكاد يحشر الجميع في الزاوية الخانقة ويضع البشرية على حافة الهاوية؟ والرهان للخروج من المأزق، تجاوز عقلية الصدام بين الأنا والآخر، بالعمل على اجراء فحص نقدي عقلاني لإنسانيتنا ذاتها، وبصورة تتيح تشكيل خطوط ومساحات وقيم جديدة للتقدم الحضاري او للتنمية البشرية. * كاتب لبناني.