بعد خمسين يوماً على حادثة التفجيرات المريعة في الولاياتالمتحدة، يبدأ الإعلام الدولي تقويم ما قام به من انجازات خلال هذه الفترة، ومراجعة الصدى الذي لاقته أخباره على الصعيد العالمي. وعلى صعيد الدول التي كانت لها طموحات عالمية في مجال الإعلام، تبدو فرنسا الخاسر الإعلامي الأكبر. فخلافاً لحرب الخليج، حيث كانت شبكة "سي. إن. إن" المسيطر الوحيد على الساحة العالمية، والموجود الوحيد على أرض المعركة، أظهرت الحرب الحالية أن هناك مجالات واسعة لوسائل الإعلام ذات الافق العالمي، فإلى جانب "سي. إن. إن"، كرست "بي. بي. سي وورلد سيرفس" مكانتها الدولية، وظهرت قناة "الجزيرة" كوسيلة إعلام غير ممكن تجاهلها، بغض النظر عن مجمل العقبات التي قد تعيق انتشارها، كعقبة اللغة، على سبيل المثال، وهي العقبة التي غدت الحجة الاولى لدى الدول غير الناطقة بالانكليزية في تفسير وتعليل أسباب تحجيم وسائل إعلامها ومراكزها على شبكة انترنت، وذلك باسم سيطرة لغة شكسبير على لغة الحوار الدولي. ومن الصعب التحديد الفعلي لعدد البيوت التي تتابع أخبار "الجزيرة"، وهي بلا أدنى شك أكثر من 80 في المئة من البيوت في العالم العربي وبين عرب المهجر ممن اقتنوا صحوناً لاقطة وهنا لا بد من الاشارة إلى سوق الصحون اللاقطة التي كانت تشهد حال ركود في دول المغرب العربي وفي الشرق الأوسط على حد سواء، والتي كانت خفضت أسعارها بشكل مغرٍ لجذب مستهلكين جدد، لكنها تشهد حالياً فترة انتعاش وإقبال كما خلال حرب الخليج. لكن الاحصاءات تشير الى أن "سي. إن. إن" يتابعها يومياً حوالى 240 مليون عائلة في العالم، تليها "بي. بي. سي" التي زاد عدد متتبعيها بنسبة ثلاثة أضعاف منذ 11 أيلول سبتمبر ليوازوا ما مجموعه 81 مليون عائلة. أما فرنسا التي ادخلت في إعلامها الدولي، عبر محطة "تي. في. إس"، العائلة الفرنكوفونية الواسعة في بلجيكا وكندا وسويسرا، وخصصت سنوياً موازنة مئتي مليون دولار لدعم هذا الإعلام، فإن الاحصاءات الأخيرة تشير إلى ان المحطة الفرنكوفونية تستقطب أقل من ثمانية مليون عائلة. كذلك فإن نسبة تتبع الشعب الفرنسي لهذه القناة لا يتجاوز 5.0 في المئة من مجموع المشاهدين. فرنسا ليست وحدها من يتساءل عن إمكانات إعلامها في عصر العولمة. دول أخرى، ولو أنها لا تدخل في سياق المزاحمة الدولية، وجدت في الأحداث الأخيرة الفرصة لتقويم إعلامها. البوسنة، التي عاشت حرب اقتتال بين الأعراق والأديان، تريد أن تظهر من خلال "صراع الحضارات" الحالية، وكأنها طوت نهائياً صفحة الماضي. محطة التلفزيون الأولى في سراييفو، "الحياة"، هي الأولى التي بادرت الى تغيير لهجتها المنحازة السابقة. فالمحطة التي كانت خلال الفترة الأولى بعد نهاية الحرب الأهلية، الناطق باسم حزب الرئيس السابق عزت بيغوفيتش، هي اليوم محطة ذات تمويل أميركي وتريد التركيز على التعددية والموضوعية عبر نشرات اخبارية جادة وبرامج ثقافية وترفيهية منفتحة على العالم. وكدليل على الانفتاح، قامت هذه المحطة ذات الطاقم الصحافي المشكّل من غالبية مسلمة، بتعيين مدير صربي لإعلامها. الا ان الحرب الدائرة في أفغانستان بدأت تهز دعائم الإعلام البوسني الذي لم يجد بعد الوقت الكافي لتقوية أسسه. كيف يمكن تجنب أخطار هذه الحرب على إعلام سراييفو الناهض من حرب أهلية؟ كيف يمكن التوفيق بين التعددية الموجودة حالياً والمهنية التي لم يتم اكتسابها بعد؟ أسئلة لا جواب عنها طالما لم نرَ بعد نهاية النفق في الحرب الدائرة حالياً. بلد آخر غريب عن ساحة الصراع الحالي، إعلامه يمارس بدوره التساؤل انطلاقاً من معارك أفغانستان. فاليابان تراجع اليوم كيف أنها، خلال أقل من عقد، انتقلت من تزعم قارة تنمو وتتطور وتنظر نحو المحيط الهادئ وحضارته، إلى العيش على مقربة من حلبة صراع أصولي. مراسلو الصحف اليابانية تائهون في آسيا تجاهلوها حتى الآن. لماذا يتظاهر الناس في أندونيسيا أو ماليزيا؟ منذ متى هناك حركات إسلامية في كوريا الجنوبية؟ كيف يمكن تفسير الاصولية الباكستانية؟ أضف إلى ذلك أزمة أفغانستان حيث ان الخبير الياباني الوحيد في صحيفة "ازاهي شمبون" كان قد زارها في نهاية السبعينات، زمن الاحتلال السوفياتي، ولم يعد اليها مذّاك. بيد أنه في زمننا الحالي لم يعد الإعلام ووسائله أداة الاتصال الوحيدة. الشائعات اليوم، أكانت عبر أحاديث الناس أو عبر الانترنت والتطور التقني، غدت أحد مصادر الاتصال. وآخر تعابير ذلك نجده في القصة التي عمّت المانيا وبريطانيا وفرنسا وتحكي عن شخص عربي المظهر فقد محفظته في محطة المترو وإذا بفرنسي أو الماني أو بريطاني يجدها ويعيدها اليه. هذه البادرة الحسنة هزّت العربي المظهر، الذي رجع فجأة باتجاه من أحسن إليه لينصحه بعدم أخذ المترو في اليوم التالي بسبب انفجارات وعمليات قتل متوقعة... مفاد هذه القصة، بغض النظر عن عنصريتها المحتملة، انه حتى الإرهابي يتمتع بإنسانية ما، وأن حس الحياة يمكنه التغلب على حس الموت... مارك صايغ