رواية الكاتب السوري خالد خليفة الثانية "دفاتر القرباط"، شغلت منذ صدورها قبل شهور قليلة نقاشات المثقفين والنقاد، وهي لا تزال تفعل ذلك، بسبب بنائيتها الفنية أولاً، ثم قدرتها على الاحاطة بجمالية عالية بهم واقعي، ناوشته الرواية السورية منذ عقود طويلة وظل مفتوحاً أمام مزيد من التجريب الابداعي، وفي الحالين سبب الشكل وسبب المضمون، انفردت "دفاتر القرباط" بما يشبه بداية، جدية وحقيقية، للاستفادة من منجز الرواية العالمية، خصوصاً في نموذجها الأميركي - اللاتيني، ولكن - وهذا شديد الأهمية - بالنجاح في تأصيل هذه الاستفادة، وفي جعلها في خدمة رواية همٍّ شديد المحلية، ومن ثم في زج الرواية المحلية في لعبة ارتياد أشكال فنية، وبنائيات أدبية جديدة... بنائيات تلتحم أكثر فأكثر مع خصوبة المخيلة وآفاق لامحدودة للخيال، وصولاً الى غاية الإبداع: تحقيق أكبر قدر ممكن من التزاوج بين المعمار الفني المتماسك والجميل، وبين المضامين الاجتماعية والانسانية، في ساحة أدبية يعلو فيها الى حدود الفوضى، هيجان الشعارات وطغيانها الذميم على كل شيء. خالد خليفة في "دفاتر القرباط" ورد للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق 2000 يقيم واقعاً خيالياً، أو واقعاً مفترضاً، ويمنحه فرصة أن يكون معادلاً فنياً وفكرياً لواقع الحياة الحقيقية، إذ تفترض ساحة أحداثه قرية العنّابية الوهمية لنفسها علاقة ما حقيقية ووطيدة بعوالم واقعية فعلاً، وبأماكن موجودة على الخريطة حقاً، وفي هذه وتلك ثمة ما هو أهم وأكثر جدارة بالاهتمام والنظر العميق: اطلاق المخيلة في حدودها القصوى كي تستحضر - على طريقتها المتخيلة - صورة لعلها الأكثر صدقاً، والأشد حقيقية و"واقعية"، لواقع لم يعد كافياً - بل ولا مفيداً - التقيد بالنظر اليه بعدسة واقعية. الدخول الى حقيقة الواقع بهذه الرؤى المتخيلة، هو في حالة كهذه انتباه الى ما في الواقع ذاته من وهميات يفترض ان تقشّر عنها الكتابة غلالة رقيقة تفصل عالمها عن عالم الخيال، ما أن تنفصل حتى نكتشف كم في هذا الواقع من صور الهول العصية على التصديق، والحقيقية في آن. هاجس "دفاتر القرباط" الأهم هو الحرية... الحرية بمعناها الواسع والشامل، ولا تخفى هنا دلالة "القرباط"، الغجر الجوّالين، كرمز لحرية تأتي وتذهب، رمز تنتقل عدواه الى أهل "العنابية" وخصوصاً "أبو الهايم"، العاشق المتيم بالغجرية "نشمة"، والراحل معها في تجوال لا يتوقف، حرصاً على حريته وانحيازاً الى رغبات الجسد والروح معاً. انه عشق يضع جانباً كل المفاهيم الموروثة للشرف ويبحث لنفسه عن مفاهيم أخرى، تخلقها الحياة ذاتها، وتؤكدها حالة الوجد والهيام. شخصيات "دفاتر القرباط" كلها شخصيات قلقة حالمة، لا تكاد تسكن في مكانها، ولا تخلد الى استقرار، فأبطال الرواية يعيشون في مكانهم بشعور ثقيل من الاغتراب يدفعهم باستمرار الى حلم الخروج للعالم الواسع. الاغتراب هنا يخلقه الواقع البائس من جهة والرغبة في التغيير من جهة أخرى، وفي الحالين يبدو هؤلاء الأبطال في حركتهم اليومية مسكونين بشقاء أبطال الأساطير في بحثهم عن فعل خالد، يتنقل في الرواية عبر محطات كثيرة ترمز الى الانعتاق، سواء من خلال حلم الوصول عبر خرائط وهمية الى كنز ما، أو حتى الدخول في مغامرة الترحال عبر عالم غامض بعيد يراه أبطال الرواية مرفأ التطلعات والآمال الكبرى. قارئ رواية خالد خليفة "دفاتر القرباط" سيلحظ منذ السطر الأول، وحتى نهاية الرواية غياب الحوار غياباً تاماً، أما ما يرد منه على لسان هذه الشخصية أو تلك، فهو حوار يذكره الكاتب - الراوية في صيغة سردية تنداح من الذاكرة ليس إلا، أي أنه مجرد مخاطبات لا تفترض حضور المتخاطبين في المشهد مباشرة، بل مجرد عبورهما الخاطف في التداعي السردي، الذي يرتبط دوماً بالراوية. الراوية. هل يكفي أن نقول انه بطل الرواية؟ أعتقد ان بنائية رواية خالد خليفة هذه تقوم هي ذاتها بدور البطل، من حيث هي بنائية مركّبة، تجمع شخصيات تنتمي الى القاع الاجتماعي - عموماً - ولكنها تحمل في الوقت ذاته - وبدرجات متفاوتة - مديات وعي فكري واجتماعي هو أقرب الى الحلم، أو إذا شئنا الدقة، أقرب الى المثال المنشود الذي يسعى نحوه الجميع متسلحين بآلامهم وعذاباتهم، خصوصاً وأن الكاتب تعمّد زج هذه الشخصيات في علاقة جدلية مع طبائعها الفطرية، كما يمكن ان نرى بوضوح بالغ في الشخصيات النسائية نشمة وعائشة مثلاً، وكما يمكن ان نرى كذلك في شخصية "أبو الهايم"، الخال المغرم بنشمة، والمسكون بطبائع بوهيمية، لا تقيم وزناً ذا بال لحياة الاستقرار، بل تجد حريتها في التنقل المطلق وراء الحبيبة، حتى ان ذكره في الرواية يجيء دوماً بوصفه شخصية غائبة، وان تكن بالغة الحضور في مصائر الآخرين وفي تفاصيل أيامهم وحياتهم. وإذات كانت "نشمة" الحبيبة، "القرباطية"، المنفلتة من قيود التقاليد ومن سطوة قوانين حياة الاستقرار، ترمز في صورة صارخة الى الحرية بمعانيها الواقعية والمثالية على حد سواء، فإن الشخصيات الأخرى تحمل كل واحدة منها اشاراتها الدالة، سواء من خلال الفن، أو حتى عودة الأب المهزوم الى السلاحف والبغال في لحظات إحساس متضخم بالعجز عن استعادة صورة حياة ماضية. وبين المستوى الرمزي، وما يحمل من دلالات مثالية في كثير من الأحيان، والمستوى الواقعي الراهن نعيش أحداث الرواية: البنية "الواقعية السحرية"، إذا جاز القول، تتوحد مع رؤية واقع راهن تتصدى له الرواية، بل تتوغل في شعابه: "تكلم رجل بدين قالوا انه مسؤول من العاصمة فصفقنا وهتفنا، ثم ألقى قصيدة قالوا عنها عصماء فصفقنا وهتفنا، ثم هتفنا وهتفنا، واستغربنا الا يخرج المعلم الى المنصة كي يختم الحفل بكلمة طويلة، وعرفنا انه فقط حزبي واستغربنا لماذ يهددنا ويستعرض عضلاته أمامنا ونحن محشورون في المقاعد كالأرانب خائفين مذعورين". وبين المستويين المتخيل بما فيه من رمزية أحياناً والواقعي بحضوره الثقيل دوماً، تتحرك شخصيات تحمل كثيراً من ملامح البؤس، وان تكن في الوقت ذاته شخصيات متحفزة، قلقة، تتطلع الى التغيير: كل فرد في "دفاتر القرباط" ينظر الى العالم والحياة من نقطة رفض حياته والرغبة في تغييرها الى الأحسن، بالحلم في الهجرة والهروب مرّة، أو بالحب والجنس مرات أخرى، ولعل الجنس بالذات، يحمل في هذه الرواية بعداً خاصاً يمزج بين كونه رغبة غريزية حقيقية عند الناس، وبين تعبيره عن معنى حضور الطبيعة، واشارته الى الحرية المطلقة، المتخيلة، والتي لا يقبلها الواقع ولا تسمح بها قوانينه، التي يشكل الخروج عليها ارتطاماً حاداً يقلب الحياة كلها رأساً على عقب ويورث أصحابه المتاعب، كما هي حال "عائشة"، الفتاة المفتونة بجسدها، والمتمردة في صورة صارخة على الأعراف والتقاليد، والمتوحدة برغباتها الى حد أقصى، سوف يتسبب في خروجها من "العنّابية" مع طفلها غير الشرعي، الجميل، ولكن الأعمى في الوقت ذاته. أما الزمن في الرواية فلا يمكن الاستدلال عليه، إلا من خلال الوقائع التي ترد عن حملة الانتخابات وترشيح ابن العم نفسه فيها، وهي ملامسة طفيفة لحدود الزمن، تذكّرنا الى حدٍ بعيد بإشارة غابرييل غارسيا ماركيز للزمن في روايته الأجمل "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، حين يأتي ذكر الزمن مرة واحدة فقط، ومن خلال عنوان احدى الصحف الذي يتحدث عن حرب السويس، وكأن الزمن في هذه الرواية المحمولة أساساً على روافع الحلم، غير ذي أهمية، إلا بالقدر الذي تحتاجه تفاصيل الخيال الواقعي في بحثها عن سند لها، سند يتكفل بإعادة القارئ دوماً الى الواقع، وتذكيره بتوحد الخطاب الروائي معه هو بالذات، أي لتذكير القارئ ان عمل الخيال ليس إلا حيلة فنية، مقبولة ومشوّقة من أجل الاحاطة بالواقع بالذات، ومن أجل رؤية هذا الواقع في صورة حقيقية أكثر. هذه المعادلة تبدو في الرواية وقد تحققت في صورة جميلة، خصوصاً في جاذبية الشخصيات الأساسية، التي يعيش معها القارئ تفاصيل أيامها، ويجد نفسه في تفاعل مع بنيتها "السحرية"، التي تناوش أحلامه كقارئ - فرد، يعيش هو الآخر حالة القمع والحرمان، ويتطلع بكليته الى الانعتاق من واقعه والوصول الى آفاق أجمل وأكثر جدارة بالعيش. وفي هذه النقطة بالذات، تجدر الاشارة الى شخصيات بطل الرواية أولاً، ثم "أبو الهايم" و"نشمة" و"عائشة"، بوصفها شخصيات تحمل اغترابها الجميل الذي يغري القارئ بالائتلاف مع الرؤى والأحلام المستقبلية. ويدفعه أكثر للتعاطف مع رغباتها في التمرد، وهي رغبات ينجح الكاتب في تقشيرها من أية شعاراتية أو خطابية، من خلال زجها في التفاصيل والجزئيات الصغيرة واليومية، كي نجد أنفسنا أمام حياة متكاملة وليس مجرد خطوط ايديولوجية تستبدل الحياة بصورة مصنوعة أو مفتعلة. أهم ما في "دفاتر القرباط"، هو من دون شك توغلها في المساحات الممنوعة، بل المحرّمة، وهو توغل لا يجيء مفتعلاً، يعكس رغبة مسبقة في تفصيل عالم فني على رؤية فكرية، بل يتم من داخل النسيج الروائي وفي صلبه، فالأحداث الروائية التي تتطور، وتتابع قدماً في تفاصيلها، هي من يفرض ردود أفعال الأبطال الروائيين، في تفاعل مع وعيهم الذي تم اكتسابه على مدر سنوات عيشهم، وهو وعي نلاحظ طيلة الرواية انه لا ينفصل عن فطرية هي ابنة شرعية لحياة البسطاء، أحلامهم وكيفيات تصرفهم، ومن ثم رؤاهم المستقبلية في رواية تتكرس أحداثها كلها لتمجيد الحياة، على رغم قسوتها وآلامها. نحن في "دفاتر القرباط" أمام عمل ابداعي يقدس الحرية، بل هو يدعو في سطوره كلها الى حرية بلا حدود، حرية غايتها الإنسان، وهو في سبيل ذلك يعيد ترتيب الثوابت الفكرية والقيم الأخلاقية من جديد، مستلهماً في ذلك قانوناً وحيداً، هو ما ينفع الناس وما يحقق سعادتهم على الأرض. "دفاتر القرباط" لخالد خليفة عمل ينبض بالحياة، جاء في بنائية فنية جديدة على الرواية السورية، وان تكن بنائية ذات وشائج متينة مع الواقع ذاته... الواقع الذي تنطلق منه الأحداث، والواقع الذي يطلع من شقوقه أبطال الرواية، مأزومين بحياتهم، ولكن أيضاً طافحين برغبات لا تحدّ في عيش مفتوح على المستقبل.