تغيب عن "العقل السياسي" الاسلامي مسألة الارادات الواعية والقادرة، ودورها في هندسة الصراعات الدولية ورسم سيناريوات حروب المستقبل. فالغياب المذكور أسهم في ظهور تيارات متوترة ايديولوجياً لا تقرأ التحولات الدولية ولا تعطي اهتماماً لموازين القوى ودور "القوة" في صناعة السياسة. ومن هنا يمكن تفسير النزعة المغامرة لبعض الفئات الاسلامية في تصور المعادلات الدولية، وتوازن المصالح، وحرق المراحل، والمراهنة على الفرد، واسقاط الجماعة وعزلها عن بيئاتها الطبيعية المناخ والاجتماعية الثروات والثقافية أدوات الفكر والاقليمية الجوار واهمال الوعي التعايش والتعارف والاعداد التنظيم وتحديد مكامن القوة. كيف انكشف الأمر حين انتقلت الولاياتالمتحدة بقواها العسكرية والمالية والاعلامية من الشمال الاطلسي الى آسيا الوسطى؟ هنا قراءة تستعيد بعض القديم - الجديد في ضوء تداعيات الوضع الدولي على اثر ضرب مركز التجارة العالمي في نيويورك والبنتاغون في واشنطن. يميل "العقل السياسي" الاسلامي عموماً الى "نفي" كل الأفكار والتحليلات الآتية من الغرب. وأحياناً تُرفض افكار وتحليلات قال بها الاسلاميون سابقاً. ففي السبعينات مثلاً تحدث الاسلاميون، وخصوصاً تلك الفئة المنشقة عن الماركسية واليسار، كثيراً عن صراع الاسلام والغرب وعن المواجهة المحتملة بين أوروبا والحضارة الاسلامية. وحين جاءت التسعينات بدأت شريحة من المثقفين الأوروبيين وبعض الاكاديميين الاميركيين بالاشارة الى احتمال حصول تلك المواجهة بين الاسلام والغرب. فقام الاسلاميون برد تلك المقولات ونقضها انطلاقاً من مخاوف أمنية وهواجس ثقافية. واذا عقدنا مقارنة بين ما قاله بعض الاسلاميين في السبعينات وما ردده، هذا البعض، في التسعينات نجد مقولات مقلوبة ترد على بعضها من الفئة نفسها. خلاصة اطروحات مجموعة الاسلاميين في السبعينات، تحديداً الفئة المنشقة عن الماركسية واليسار متأثرة آنذاك بأكبر حدثين الثورة الاسلامية في ايران، والغزو السوفياتي لأفغانستان، يمكن اجمالها بالآتي: أولاً، الماركسية نظرية اصلاحية لا تستطيع مواجهة الغرب، نظراً الى أن تكوينها الثقافي ينتمي الى تاريخ الرأسمالية واقتصادها. فالماركسية من نتاج الغرب وهي غير قادرة، بسبب ذلك التكوين التاريخي، على مواجهته. فالغرب أقوى منها وسينجح لاحقاً في تفكيك قلعتها الاتحاد السوفياتي بدءاً من تلك الثغرة أفغانستان. ثانياً، الاسلام دين ينتمي ثقافياً الى تاريخ مخالف للغرب. وهو يمتلك كل الأدوات التكوينية والبشرية لمواجهة هيمنة الغرب وسيطرته. وعلى هذا فالاسلام أكثر جذرية في قراءة تاريخ الغرب وكبح تحولاته وتعطيل مستقبله، فهو يمتاز بهوية مستقلة عن ثقافة الغرب وحضارته. وهذه الهوية تمنحه ميزة التصدي على مستوى كوني لأن الاسلام في قيمه العامة يتجاوز الحدود القومية والاقليمية. فهو لم يتوجه الى فئة معينة بل خاطب الناس كل الناس، والانسان من دون تحديد لجنسه أو لونه أو قومه أو لغته. فعالمية الاسلام هي القوة الكفيلة في مخاطبة عالمية الرأسمالية في شقيها الأوروبي والاميركي. الغريب ان هذه الفئة الاسلامية المنشقة عن الماركسية واليسار كانت الأكثر تطرفاً في رفض افكار بعض المثقفين والأكاديميين الغربيين الذي "استعار" مصطلحات بعض الاسلاميين وأعاد انتاجها من موقع "المنتصر" بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية. جاء رفض الاسلاميين من موقع "الضد" والمعاندة "السلبية" فاختلطت في "عقلهم السياسي" المفاهيم واضطربت خوفاً من الهيمنة الثقافية لمقولات الغرب. وأدى السجال المسكون بهاجس القلق الى نقل الفكر الاسلامي من طور التحدي الكوني الى طور أدنى من النقاش تمحور على الذات الضيقة التي لا ترى في مقولات فوكوياما وهنتنغتون وغيرهما سوى مؤامرة جديدة يعدها الغرب لضرب الاسلام في أطرافه تمهيداً لنقل المعركة الى مركزه. وأدى انقلاب "العقل السياسي" الاسلامي على نفسه الى تفويت فرصة للسجال، لو استغلت، لأمكن نقل النقاش الى طور أرقى يقرأ الصراع الدولي في ضوء موازين القوى ودورات الزمن الحضارية وموقع الاسلام وقيمه الكونية في صوغ مستقبل الانسانية. وزادت المشكلة حين غلّبت تلك الفئة الاسلامية، المنشقة عن الماركسية واليسار، المخاوف السياسية على الوعي التاريخي الذي يبحث في مسار الحضارات عن دورات صعود وهبوط... وان "انتصار" الغرب ليس نهاية التاريخ بل محطة في تاريخ جديد للبشرية. اكتفت تلك الفئة بالتراجع عن مقولاتها السابقة ولم تبذل جهدها في تفكيك النصوص واستيعابها وتكييفها مع الحاجات واعادة انتاجها بهدف تجاوزها الى مفاهيم أعلى. فالدفاع والممانعة أغلقا "العقل السياسي" ووضعاه في اطار سلبية رفضية لا ترى في النص سوى قوة ضاغطة سياسياً بينما كان في الامكان تفكيكه ثقافياً وضمن منظور تاريخي مخالف. وبدلاً من النقاش الدقيق لتحديد المفاهيم قام بعض اقلام تلك الفئة الاسلامية برد المقولات جملة وتفصيلاً، فرفض مثلاً "العولمة" باسم هوية ضيقة خالطاً بين "الهيمنة الاميركية" والسياق التاريخي لتطور البشرية وعدم تعارض الهوية الخاصة مع الدعوة الاسلامية العالمية ومفهوم الاسلام للتعارف. فالخلط بين العولمة الكونية ووظائفها السياسية الآنية انتج مقولات سلبية خائفة على "الهوية" بينما الهوية الاسلامية في أساسها هي تركيب حضاري لثقافات مختلفة. قرأت تلك الفئة الاسلامية المنشقة عن الماركسية واليسار مقولات فوكوياما وهنتنغتون من موقع الضد ورأت فيها اطروحات عدوانية تستند الى وقائع مختلفة لا أساس لها من الصحة. بينما يشير الواقع الى أن تلك المقولات ليست خاطئة كلها خصوصاً حين تتجه نحو ربط الحضارة بالدين ودور الأخير في صوغ هوية الناس وترسيم الحدود الثقافية. فالجانب الظاهر في مقولات هنتنغتون مثلاً، هي عقد الصلة بين الحضارات والديانات ودور الأديان في تكوين شخصيات تاريخية تتميز بهوية ثقافية خاصة. وهذه المقولات ليست جديدة إذ سبقه اليها من دوائر الغرب برنارد لويس، وروجيه غارودي، وأرنولد توينبي. والجديد فيها ان هنتنغتون صاغها في سياق تحولات دولية نجمت عن سقوط الاتحاد السوفياتي ومعسكره ونشوء فراغات سياسية في أوروبا الشرقية وجنوب الاتحاد السوفياتي جمهوريات آسيا الوسطى. لم تلتقط تلك الفئة الاسلامية جوهر المسألة فخاضت سجالات ضد ظاهر الفكرة حرب الحضارات وصراع الاسلام والغرب ولم تدخل الى عمقها وهي تحول الاستراتيجية الدولية وانتقالها من الدفاع عن حدود الغرب في الخط الفاصل في المانيا حائط برلين الى الهجوم لتعبئة الفراغ في أوروبا الشرقية والبلقان وفي آسيا الوسطى وأفغانستان. فالمقولات التي أطلقها هنتنغتون تقوم على استراتيجية دولية ترتكز الى مفهوم الحضارات الديانات كأساس للمواجهات المقبلة بعد انهيار حصن الايديولوجية الماركسية. وكلام هنتنغتون عن سبع حضارات عالمية جاء في سياق التركيز على ثلاث منها تشكل حدودها مع الغرب نقاط احتكاك وربما اشتعال، وهي: الحضارة السلافية - الارثوذكسية الروسية - الصربية من البلطيق الى البحر المتوسط. الحضارة الصينية الكونفوشية البوذية المعزولة في دائرة قومية وممتدة حدودها الى محيط الباسيفيك في الجنوب الشرقي الى الهند وآسيا الوسطى في الغرب. وأخيراً وهي الأهم الحضارة الاسلامية الممتدة بشرياً من حدود الصين شرقاً الى البلقان غرباً. ومن البحر المتوسط شمالاً الى عمق افريقيا والعالم العربي جنوباً. والحضارة الاسلامية في هذا المعنى هي وسط بحر الثقافات وهي الوسيط الفاصل والرابط البرزخ بين الشرق والغرب. وبهذا المعنى تشكل وسطية الاسلام قوة مركزية في توازن القوى والمصالح، ونقطة اصطدام جغرافية مرسومة بشخصية حضارية متميزة. لم تكن مقاصد هنتنغتون من مقولاته ترسيم الحدود الدينية للحضارات، كما فهمت تلك الفئة الاسلامية، بل رسم الحدود الاستراتيجية لمراكز الثقل السياسية في القرن الجاري. وفي حال أعدنا قراءة تلك المقولات في ضوء التطورات السابقة والجارية نصل الى جوهر المسائل التي أطلقتها على أكثر من جبهة وجهة. فعلى جبهة البلقان السلافية الأرثوذكسية فكك الاتحاد اليوغوسلافي الصربي - السلافي ومنعت روسيا السلافية من التمدد الى البحر المتوسط وعزلت في دائرة سياسية على حدود اوروبا الشرقية. فالحلف الأطلسي الناتو تمدد من الغرب الأوروبي الى الشرق وضم اليه بعض دول "المعسكر الاشتراكي" وأقام قواعد عسكرية ثابتة في دويلات الاتحاد اليوغوسلافي. وعلى جبهة أفغانسان انتقل الحلف الاطلسي من مراقبة الأحداث في التسعينات الى صوغ حدود سياسية جديدة لمناطق النفوذ التقليدية للحضارتين السلافية الروسية والصينية البوذية الكونفوشية. فالحلف استفاد من ضربة 11 ايلول سبتمبر الماضي لتنفيذ سيناريو لا يقل أهمية في أبعاده الاستراتيجية عن ذاك السيناريو في البلقان. فللمرة الأولى انتقلت قوات الحلف الناتو من أوروبا إلى آسيا الوسطى وقامت بتثبيت قواعد عسكرية في باكستان واوزبكستان وطاجكستان لمحاصرة افغانستان تمهيداً لإعادة دمجها في تلك السلسلة من الدول. وفي حال نجحت قوات الحلف الأطلسي في حملتها العسكرية الطويلة خمس أو عشر سنوات تكون استكملت تطويقها للروس السلاف جنوباً والصين الكونفوشيوس غرباً بعازل بشري - سياسي يبدأ بتلك السلسلة من الدول الاسلامية في آسيا الوسطى نزولاً الى المحيط الهندي وبحر العرب أفغانستانوباكستان. ما يحصل الآن في أفغانستان وآسيا الوسطى هو تثبيت ذاك الفالق السياسي - البشري الممتد الى بحر قزوين واذربيجان وتركيا لفصل الحضارات الثلاث عن بعضها ومنع تواصلها في المستقبل. وهذا هو بالضبط جوهر مقولات هنتنغتون الاستراتيجية المغلفة بصراع الحضارات. كانت مخاوف تلك الفئة الاسلامية المنشقة عن الماركسية واليسار في غير مكانها، فهي لم تلحظ البعد الاستراتيجي للصراع الدولي وانتقال ثقل التوتر وخطوطه ومحاوره من أوروبا الى آسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك نفوذه في أفغانستان وآسيا الوسطى وبروز موقع الجمهوريات الاسلامية الجيو - سياسي ودورها كفاصل بشري - ثقافي حضاري بين الصين شرقاً والهند جنوباً وروسيا شمالاً. وبهذا المعنى استغلت ضربة 11 ايلول الى حدها الأقصى لتطويق العالم الاسلامي جغرافياً وعزله عن الدائرتين الصينية والروسية ومنعهما من الوصول الى مصادر الطاقة وربطه سياسياً بالغرب وتحويله الى ساحة صراع لمراكز القوى النامية في المستقبل. فمقولة "صراع الغرب والاسلام" ليست جديدة وغير مخيفة. وما قاله رئيس الحكومة الايطالي بيرلوسكوني وما اطلقته مارغريت ثاتشر من تصريحات وجائزة نوبل التي نالها نايبول عن قلة أدبه تكشف نصف الحقيقة. بينما النصف الآخر له صلة بالارادات ومحاصرة مصادر القوة الطاقة، النفط، والغاز والسيطرة السياسية على خطوط الامداد والتخزين. فالحرب اقتصاد وليست اخلاقاً حتى لو تغطت بالقضايا العادلة وحق الدفاع عن النفس. والحرب ليست بالضرورة مواجهات عسكرية دائمة بل هي واسطة تستخدم فيها القوة لتطويع ارادات كامنة، أو تنفيذ استراتيجيات العزل، أو فك ارتباط حضارات متجاورة. * كاتب من أسرة "الحياة".