} ارتأت مجلة "ديوان" الصادرة في برلين بالألمانية والعربية ان تخصّ صفحة "آداب وفنون" في "الحياة" بحوار أجرته مع الشاعر انسي الحاج وتنشره بالألمانية في عددها الجديد. والحوار مع الحاج اجراه الشاعر عقل العويط وترجمه الى الألمانية سليمان توفيق. ولعل الحوار في أصله العربي الكامل والذي ننشره على حلقتين هو أشبه بالوثيقة التي ترصد مسار انسي الحاج شاعراً وناثراً وتلقي اضواء ساطعة على تجربته التي يخوضها منذ قرابة اربعين عاماً، عندما أصدر ديوانه الأول "لن" في 1960. أما مجلة "ديوان" فهي فصلية وتعنى بالشعر الألماني والعربي وتصدر باللغتين وترأس تحريرها الشاعرة امل الجبوري، وفي الهيئة الاستشارية: أدونيس، يواخيم سارتوريوس، ماكس نويمان، جونتر اورت وعلي الشلاه. ولعل هذا الحوار مع انسي الحاج يقدّم نفسه بنفسه. "لو لم أكتب الشعر لكنتُ بقيت كما كنت في مطلع العمر مجموعة اشعار غامضة لا أسمح بالاقتراب منها إلا لمن يعطيني كل شيء...". هذا ما تقوله في "الوليمة". لكنك كتبت الشعر، وقد كتبته من المكان المضاد للكتابة المعهودة. وكتبته بلغة مضادة. إذ بدأت بالتدمير والهدم والرفض وفاجأت الجميع الذين ظنوا ان لغة الخمسينات السابقة قليلاً هي التي ستكون للمستقبل، فأعلنتَ انقلابك على اللغة، وسفحت المستتب، وقدّمت كتابك الأول "لن" عام 1960 بعنوان صافع، صاعق، عدواني، وقح، وفتحتَ القصائد على عوالم معتمة وغير معهودة... حدثنا عن هذه الكتابة، عنك شاعراً لا تزال، بعد اكثر من اربعين سنة شعراً، جديداً وغامضاً كأول الفجر وأول الليل. - لا أقدر على جلاء هذه المرحلة، كلما حاولت جاءتني اجزاء وفاتتني اجزاء. الذاكرة هنا اشبه بذاكرة الوليد أو بذاكرة البركان. إذا عدنا الى تلك الأشعار الغامضة غير المكتوبة، إليك في مطلع العمر، قبل ان تكتب الشعر، فماذا كنت ستقول؟ حدثنا عن تلك الحال التي تمتلئ بكل شيء ولكنها في المنطقة النائمة التي تسبق اليقظة. حدثنا عنك قبل مجيئك الى الشعر والكتابة. عن الشاعر فيك قبل ان يكتب. عن المأوى الذي تلجأ إليه كل تلك الأوصاف والصفات التي التصقت بك ولا تزال. - من العزلة الانطوائية الى الهرج بين قلة من رفاق الصيف في القرية فإلى العزلة الانطوائية. اليتم في السابعة. وبعده حدث لي نسيان إرادي أذكر معه بروقاً، بعضها ألوح خلاله ولداً منخطفاً الى هواجسه وأصواته الداخلية، مصاباً بقرف شديد من ظواهر هي عند آخرين مألوف عادي. ولد محبوب ومع هذا دائم الخوف. وقعتُ بالأمس على صورة لي طفلاً شاهدت فيها القلق والفزع في عينيّ وكأنهما عينا راشد أفْلَتَ للتوّ من الموت ولا يزال تحت الصدمة. لم يترك وصف شعري وإنساني إلا التصق بك. فقد أعطيتَ ان تكون المارق والملعون والعدمي والصوفي والهدّام والعاشق والمعشوق والفاتح والحالم والرائي والكشّاف والمتمرّد والحرّ والعاصي واللين والحنون والجامح والحرون والصامت... وهلمّ مما تعرفه، وهو كثير. فهل هذا ما تريده لنفسك وشعرك؟ هل أنت مكتفٍ؟ هل تحقق الشروط التي وضعتها لكي لا تبقى "مجموعة اشعار غامضة"؟ - كان يمكن - لو شاء سوء تفاهمي ان يأخذ اتجاهاً آخر - وربّما اشتهيت بعض الأحيان ان أكون ممثلاً مسرحياً وسينمائياً لأعيش هذه الحالات المتناقضة عيشة مكثّفة. التمثيل يمنحها مسافات حية نابضة، أكثر تلبية، في اللحظة الجسدية من الكتابة، ويجمعها في وحدات زمنية سريعة ومتقاربة، ويخلّصها من "التمثيل". تغدو في المسرح "شرعية" خالية من الكذب. الكتابة عن هذه الحالات تُغرقك في وحلها وتعكّر نظرك. التمثيل يضعك، كما تقول الممثلة ايزابيل هوبير في جو فراغ ينطلق منه الممثل الى ما ينوي تجسيده. هذا الفراغ يتيح حيّزاً من النظر الحاد، الصادق، ربما اكثر من الانغماس في الكتابة. إن عندي حالات كثيرة ذات أبعاد وطبائع مسرحية، وجّهتُها الى الكتابة الشعرية. لقد لقيت الحالات ملجأ، ولكني انا كشخص بقيتُ محروماً تجسُّدي الفوريّ في اللحظة. بعد كل هذا الذي يتحصل لك في الشعر والحياة، هل كنت تفضل إلاّ تكتب الشعر؟ هل كنت تفضل ان تبقى "مجموعة اشعار غامضة"؟ أعني هل أنت نادم؟ وعلامَ نادم؟ على الكتابة؟ على الحياة؟ على سوء الفهم والالتباسات التي لا حد لها؟ على ما تحقق وما لم يتحقق؟ - انا نادم على الإقلاع في حياتي خطأ. والمواصلة خطأ. ومراكمة الخطأ على الخطأ. هناك قَدَران: قدر تفرضه بإرادتك وقدر ينفرض عليك. كنت أود الأول لأنه يشبه أحلامي، ولكن تحقيقه يتطلب المزيد من القوّة، المزيد من التضحية بمشاعر الآخر. لقد تراجعت عنه واكتفيت منه بما تسرّب في كتاباتي، وبالقليل القليل مما عشتُ خلسةً. ما الذي لم يتحقق وتريده، كما لو انك لم ترد شيئاً مثله على الإطلاق؟ - ان أُعطي ما يمحو الشقاء، وكلما اعطيت، ان تزداد قدرتي على العطاء. تقول ان كتابك "لن" جاء من قوة اليأس ومن حاجتك الى التعبير في "لغتك". أي يأس، وخروجاً على أي لغة، وطلباً لأي لغة؟ - وهل هناك يأسان؟ وهل إلاّ لغتك تستطيع ان تقول بها؟ لم أخرج على لغة هَوَساً بالعصيان ولا طلبت لغة عمداً وقصداً. إن هذا لا يتم على نحو كهذا. ممكن ان تحصل خطط من هذا النوع ولكن نتائجها ستكون مضحكة. من جهة اخرى لا يكفي ان يقول الكاتب "هذه لغتي، تدبّروا أمركم"، حتى يكون قد أوجد لغة، بل لا بدّ من تجربة تشحن الكلام فيتآومان وكأن واحدهما يخلق الآخر بل كأنهما يتخالقان وكلٌّ يتفجّر من الآخر ولا نعود نعرف ايهما النبع وأيها الجدول. ولكن حتى هذا لا يكفي، بالطبع. ان أعظم تجربة يمكن ان تجهض نفسها في لغة مناوئة لها أو قاتلة، ويمكن اعظم لغة وأجمل تعبير ان ينطويا على تكرار أو خواء. وأنا الآن، على كل حال، أشرح امراً بعد حصوله بنحو نصف قرن. وهذا هراء. لا وعي سحيق بوعي مروَّس، ذلك ما أستطيع قوله عن تلك التجربة، عن تلك اللغة. اكثر من ذلك سيكون كلاماً تقريبياً. إذا أعدت الكرة، أي إذا بدأت من جديد، فهل تبدأ بما بدأتَ به، أم تبدأ من حيث انت الآن، مزيجاً خلاّقاً من النعمة والعصيان، وهما حالتان تقول ان الحياة لا تُحتمل من دونهما؟ - هذا المزيج كان منذ البداية. كل ما هناك ان طمعي بالحياة كان أقوى. لو يؤتى لك ان تكتب "لن" الآن، بمقدمة وقصائد هي غير المقدمة والقصائد التي كتبتها وشكلت عام 1960 اعلى تعبير شعري عربي حديث عن القطيعة الروحية واللغوية مع كل الثوابت التي كانت في لغتنا وأفكارنا وقيمنا الشعرية وحياتنا، فكيف كنت ستكتبها؟ فلنتخيّل اننا نملك القدرة على استعادة الزمن، زمن اللغة وزمن البدايات و"الأشعار الغامضة"... - لقد غادرتني تلك القوة العمياء ولم أعد أستطيع ان أكتب بها. ثورة شعر فلنعد الى زمن الثورة الشعرية وزمن مجلة "شعر". أنت صاحب تعبير "قصيدة النثر" في العربية، وقد كنت السبّاق إليها في مقدمة "لن" والأكثر ذهاباً الى الحد الأقصى في الخروج على المسلّمات الشعرية، تجربة مكتوبة ونظريات، وفي فتح الطريق امام المجهول الشعري بين كل شعراء تلك الحقبة الثورية في العالم العربي. لكن المشهد الشعري اليوم، والذي تأبى ان تنخرط في ألاعيب شهرته ونجوميته وأمجاده، مصاب بكثير من عدم الموضوعية والمصادرة والذاتية والنسبية والتزوير وعدم العرفان. لا أطلب منك ان تصحح كلامي هذا بل ان تقدم شهادة... - دعني أولاً اوضح ان عبارة "قصيدة نثر" وردت عند أدباء عرب قبلي. انا اول من اطلقها على مجموعة شعرية له بالعربية، مع مقدمة تعتنق هذا النوع وتنظّر له. أي أن "لن" كان أول كتاب "رسمي" مؤلف من قصائد نثر. كان هو التدشين الواعي، المؤسس، المسؤول والهجومي. بالنسبة إلى الشق الأخير من السؤال: كنت أقول عادة ان المسؤول عن هذه الحال هو النقد. غيابه او تقصيره. ولكن عندنا نقاداً مهمّين ويجب الا نظلمهم بإطلاق الأحكام الشاملة. أعتقد ان المسؤولية مشتركة بين حقول مختلفة، وأن الأمر يتعلق بالطابع الاستهلاكي لمجتمعاتنا المتخلّفة والتي هبطت عليها المدنية المشهدية من السماء فجأة ونقلتها بلا تمهيد من حضارة الكتاب الى زمن الصورة المتحركة والخبر والإعلان. لقد اهتز الجميع بهذا الإعصار. في الأساس، ثمة خطر يتهدد الكاتب على الدوام هو خطر الانجذاب الى السلطة. الى الجاه والنفوذ الاجتماعيين. لقد كان ذلك في الماضي وهو مستمر في المستقبل. الأدباء الذين تهافتوا على "الظهور" هم انفسهم كانوا سيتهافتون على أي نوع من انواع السلطة لو لم يكن هناك نجومية وأمجاد ودعاية وعلاقات عامة. عندما تكون العلة في النفس فلا يعود اسلوب ظهورها مهمّاً. الكاتب الذي يظن ان ثمة شيئاً خارج ما يكتبه بل ما يكونه يستحق الجهد هو كاتب لا يمكن ان يُغْني قارئاً. فكيف يُغنيه فقير كهذا؟ لا بد من ان يصبح لدينا تراكم نقدي وتراث في الدراسة الأدبية النزيهة الخلاقة. ان لدينا نقاداً مبدعين ورسوليين وسوف يتزايدون. وربما بعد ان يطوي الموت جيلنا وأجيالاً بعدنا تصبح مهمة الباحثين اكثر تجرّداً، إذ لا تعود تضغط عليها العلاقات ولا تؤثر فيها "التكييفات" الإعلامية. سؤال تقليدي ولكنه طبيعي اذا كنا نريد ان نخاطب قارئاً اجنبياً: أنت شاعر الهجس. هل تحمل أيضاً هواجس زمنك ولغتك وأرضك، ام ان هجسك هو هجس محض شخصي: الهجس بالحب والموت والخوف والحلم والوحدة والكفر والإيمان والجنس والأمل واليأس...؟ - التداخل بين العالمين الخارجي والداخلي وصل عندي الى حدّ المزج بينهما مزجاً تاماً. لا املك هاجساً محض شخصي اهرب به من كوابيس الخارج بل غالباً ما سلبتني كوابيس الخارج حق الضياع في هواجسي الشخصية. مراحل ومحطات سؤال تقليدي آخر لمخاطبة قارئ اجنبي لا يعرفك: هل يمكن ان نتحدث عن مراحل في تجربتك الشعرية والنثرية؟ عن محطات ومفترقات؟ ما هي سماتها وخصوصاً انك، على ما يحب البعض ان يصفك، انتقلت من الشعر المغلق الى شعر اكثر انفتاحاً، وأنك صرت نفسك اكثر من البدايات، وأنك قد انتقلت من اكثر المناطق عنفاً وتفجيراً لجسد اللغة وبواطنها الى اكثر مناطقها صفاء؟ - من قبضة الأنا المغلقة الى الإشفاق. من لحظة الاعتراف بما يدمّر الآخر الى لحظة الرغبة في إمتاعه. من ظلمة بلا رحمة الى ليل يقترب فيه منك صوت مقْمر ساحر. من يُتْم مخنوق الى تيتّم مفتوح. من كلام أقذفه وأضرب به الى كلام أُهديه. من قايين الى هابيل... الى أن صرت اتساءل، أحقاً كان هذا وصار ذاك ام كان على الدوام ذاك متوهماً انه هذا؟ ام العكس؟ ومهما تقلّبت، هناك ثوابت عندي لم تتغير. كراهيات، مثلاً، لم تستطع حتى الشفقة ان تروّضها: كراهية الحقارة، كراهية الاستغلال، كراهية الدجل والزيف والتقليد، كراهية المظاهر وعشّاقها، كراهية التعصّب... "من رأسي الى رأسي أرتمي ولا تعرفني بعد اليوم عيناي"، تقول في أول قصائد "الوليمة". أهذه هي فحسب الهاوية التي ارتميتَ فيها ام انك ارتميت أيضاً في هاويات اخرى، ملموسة، موجودة على الأرض، هنا، هناك، هنالك، في لا مكان؟ - وهاويات اخرى. وأي فرق؟ واليوم، ألا يزال رأسك يتسع للحرية لكي ترتمي فيه؟ ألا تزال هذه الهاوية تتسع لارتمائك؟ بم توسّعها لتتسع لجميع لغتك، لجميع يأسك وحبك؟ - هناك مكان وليس هنالك متسع من الوقت. لقد اخترتَ ان تكون حرّاً، بالجنون، بالصرخة السلبية الإيجاب، بالعتمة، بالضوء، بالفردوس، بالجحيم، بالوجع الفكري، بلن، بالحب، بالحلم، بالخيبة، باليأس، بمنفى الروح والسلوك والنظر. لقد اخترتَ ان تكون حراً الى درجة انك لا تجد حرية تتسع لك.الى درجة ان لا مكان يتسع لحريّتك، لا جسد ولا روح، وإلى درجة يخيّل إلينا ان الشعر سيكون فقط حرّيتك الوحيدة. إلى هذا الحد انت تضيق بحياتك؟ - حريتي في الشعر؟ لا، بل وراء كل هذا، وحيث لا يعود فيك تمثيل مسرحي ولا يعود عليك حساب. هل تضجر من الشعر وتضيق به احياناً؟ - تماماً. وأكرهه. اجد في لحظات عادية، بلا هوية، ما قد لا أجده في كتاب. أجد في كتابات عادية، بلا اي ادعاء، بل بقصد التسلية، ما قد لا أجده في اي أدب جدّي. قضيتي ليست الشعر المكتوب ولا سواه، بل لحظة صدق تجمّد الزمن وتُرعش الوجود من اعماقه. لحظة صدق، لحظة جمال خاطف مذهل، لحظة سحر خارق، لحظة اعجوبة. أينما انوجدت كانت هذه ضالتي. انت "مصاب" و"ملعون" ومنعم عليك معاً، وأنت تنقل هذه العدوى الى شعرك وكتابتك الموصومين بهذه الصفات. ثنائية اللعنة والنعمة، هل تعتقد ان الشعر والأدب لا يمكنهما ان يعيشا إلاّ تحت سقفهما المشترك، وانهما إذا اكتفيا بواحدة أو إذا انحازا الى واحدة دون ثانية، اهتز كيانهما وبات يتيماً؟ - الفصل بهذه الحدة تبسيط لقضية اكثر تعقيداً من ان تصنّف بهذه السهولة. عندما ينفصلان على نحو ظاهر وهجومي، كما عند الماركي دو ساد مثلاً، أو في درجة أقلّ عند نيتشه، لا تلبث ان تلمح خلف الحسْم والانحياز اطيافاً مختلفة، وتحت الكفر والرفض عذابات، وبين ثنايا اللهب جروحاً تجنّن صاحبيها. أقول ذلك بتحفّظ، بتردد، ولكني اقوله لأني أشعر به وأنا أقرأ هؤلاء الملاعين. وأشعر به اكثر عند "ملاكين ساقطين" كبودلير ورامبو. عندما ينفصل الواحد كلياً الى انحيازه ويغدو موقفه ناصعاً باتاً، فمعناه انه لم يعد لديه مشكلة، وإذا لم يكن لديه مشكلة، فماذا سيقول لي؟ للوهلة الأولى يبدو الجواب هكذا: قد يستطيع الأدب ان يعيش بمحض اللعنة ولكن من الصعب ان يصمد متوهجاً بمحض النعمة. وعند التمهل يظهر هذا التمييز سهلاً في شكل مشبوه. ولو استطعت ان اراهما منفصلين تماماً لما انشطرتْ حياتي بينهما.