كم يبدو لافتاً حقاً - وربما مفاجئاً - ان تفتح مجلة "الآداب" صفحاتها امام مجلة "شعر" وأمام بعض اعضائها ليعبّروا عن آرائهم بحرية غير مشترطة بعد اكثر من اربعين عاماً من "العداء" بل من "الحرب" والاتهامات. ولعل الملف الذي ضمه العدد الجديد من "الآداب" تحت عنوان "مجلة شعر: اسئلة الحداثة القديمة الجديدة" يدل بوضوح على شروع المجلة الأدبية العريقة في اعادة النظر في بعض القضايا او المسلمات والمواقف التي كانت تبنتها جاعلة منها اشبه بالثوابت التي قام عليها مشروعها. قد تكون "الآداب" ادركت الآن تمام الإدراك انّ الكثير من تلك الثوابت اصبح وقفاً على حكم التاريخ وجزءاً من الماضي الذي يستحيل احياؤه. وهذا التوجه كان ادركه شعراء مجلة "شعر" بدورهم بعدما احتجبت المجلة احتجابها الأول في العام 1964 ثم احتجابها الثاني والأخير في العام 1970. وعندما حاول شعراء هذه المجلة الرائدة شعر ان يعيدوا احياءها مرة ثالثة في الثمانينات وجدوا انفسهم امام جدار الاستحالة. فالمجلة اضحت كما يعبّر ادونيس "مفصلاً حاسماً" يؤرّخ به للشعر العربي في القرن العشرين: ما قبل "شعر" وما بعدها. اما انسي الحاج فيعتبر ان مجلة "شعر" لم تكن "نهاية مطاف بل بداية". فدخولها التاريخ إنما هو ولوج في المستقبل الذي سيصنعه الشعراء المتعاقبون والجدد. ويشير الحاج الى أن ليس من الضروري على هؤلاء الشعراء أن يكونوا اوفياء لمجلة "شعر" بل "الضروري هو الانشقاق عنها أو الخروج عليها". بعد أكثر من اربعين عاماً من "العداء" تحاور مجلة "الآداب" الشاعرين ادونيس وأنسي الحاج والناقد نديم نعيمة احد نقاد مجلة "شعر" متيحة لهم الفرصة كي يبدوا رأيهم في ذلك الصراع التاريخي بين المجلتين وكي يحمّلوا "الآداب" تبعته السياسية. إلا ان "الآداب" أشارت مسبقاً في تقديم "الملف" إلى انها "لا تسعى الى ثأر متأخر" و"لا تحاول في الوقت نفسه ان تستهين بكل اسباب الصراع الذي حكم علاقة المجلتين احداهما بالأخرى". لكنها لن تمارس "الرقابة" على الحوارات الثلاثة مفسحة امام ادونيس ليقول جهاراً: كان هجوم "الآداب" على "شعر" ظالماً، لأنه لم يقتصر على المسألة الشعرية أو الأدبية، بل تجاوزها الى التجريح الشخصي وإلى الاتهام بالعمالة والتخريب... وبقيت مجلة "شعر" في دفاعها حريصة على احترام الإنسان، ولم تجرّح أحداً ولم تتكلم بلغة الاتهام". لعلّ هذا الرد المتأخر الذي سمحت به "الآداب" وعلى صفحاتها تحديداً وعبر ادونيس نفسه قد يدلّ على ما يشبه "عقدة" الذنب التي ما زالت تعتمل في قرارة اسرة "الآداب" عموماً أي في نفوس شعرائها وأدبائها وليس اسرة تحريرها فحسب. فمن الواضح ان "الآداب" هي التي ادت دور "المتّهِم" كسر الهاء و"القاضي" الذي يصدر "الأحكام" سلفاً بينما كانت "شعر" في موقع "المتّهَم" فتح الهاء والمدافع عن نفسه ضد التهم القاسية التي تكال له. ولعل ما نشرته "شعر" في هذا القبيل يدل على أن المجلة كانت في حال من الرد على الاتهامات حتى وإن حملت بعض الردود مقداراً من التهم المضادة او النقد أو السخرية. أما حملة "الآداب" فكانت قاسية جداً لا في المعنى النقدي بل في الاتهام السياسي والتخوين والحكم القاطع. وقد تعود صلابة "الآداب" في حربها هذه الى موقعها المتجذّر في "المتن" وفي تربة القضية الرئيسة التي جمعت مثقفي العالم العربي من أقصاه الى أقصاه وأقصد قضية "القومية العربية". حينذاك كانت "الآداب" في طليعة تلك الحركة السياسية التي بلغت أوجها في مطلع الستينات متزامنة مع صعود التيار الناصري، ومتحوّلة الى ما يشبه "السلطة" الثقافية. وكان على "الآداب" ان تدعو الى الأدب القومي العروبي والى الالتزام والواقعية المحدثة ساعية الى تكوين مفاهيم جديدة تهدف الى ترسيخ الوحدة العربية والحرية والتقدّم... اما مجلة "شعر" فبدت سليلة "الهامش" العربي الحافل بالأسئلة والمجبول بالقلق والشك والباحث عن الحقيقة بعيداً من الأوهام والشعارات. وهال مجلة "شعر" ان ينتقل الصراع العقائدي والسياسي الى حقل الشعر، إذ انه يسيء تمام الإساءة في نظر شعرائها الى الشعر الذي نذرت هذه المجلة نفسها له. ولطالما ردد يوسف الخال مؤسس المجلة ان الشعر يجب ان يكون فوق السياسة وفوق الحزبية وفوق العقائد. ولطالما أشارت بعض "المقدمات" في المجلة الى أن قضية الشعر يمكنها ان تكون قضية مشتركة "ترتفع فوق الآراء السياسية والاتجاهات الفكرية". وراح يوسف الخال وأدونيس يتصدّيان للتهمة الرئيسة التي أسبغت على المجلة في كونها "قومية سورية". فشاعر "البئر المهجورة" كان فُصِل أصلاً عن الحزب السوري القومي قبل ان يصدر مجلته وبعدما اقترب من النزعة المتوسطية والنزعة اللبنانية كما تمثلت في فكر شارل مالك. أما ادونيس فكان بُعيد صدور "شعر" في حال من الصراع الفكري مع "رجالات" الحزب وكان يسعى الى الدمج بين الانتماء القومي والانفتاح العروبي. وبدت تلك التهمة التي كالها القوميون العرب على مجلة "شعر" خاطئة جداً. فأن يميل بعض شعرائها الى القومية السورية لا يعني البتة ان المجلة قومية سورية. ولعل اعداد السنة الأولى من مجلة "شعر" تثبت هويتها العربية لا العروبية عبر ما ضمّت من قصائد لشعراء عرب اقحاح: نازك الملائكة، فدوى طوقان، سعدي يوسف، بشر فارس، خليل حاوي، بدر شاكر السياب، نزار قباني، جبرا ابراهيم جبرا، بلند الحيدري، سلمى الخضراء الجيوسي وسواهم. وهذه النزعة العربية ستظل تسم المجلة طوال سنواتها وستتجلى في تبنيها قضية الثورة الجزائرية والقضية الفلسطينية ولكن "من دون صراخ" وبعيداً من "الشعارات الشائعة" وخارج "الخطابات العقائدية" كما يشير أنسي الحاج. ويجب عدم إغفال ان مجلة "شعر" كانت من المنابر السباقة الى فتح صفحاتها امام شعراء المقاومة الفلسطينية في مقتبل تجربتهم الشعرية والنضالية. إلا ان "الآداب" وسواها من المجلات اللبنانية والعربية ذات النزعة العروبية واليسارية لن تقصر "حربها" على هذه التهمة بل ستكيل التهم جزافاً على جماعة "شعر" من مثل: النزعة الأنكلوساكسونية، القضاء على التراث العربي واللغة العربية، العمالة، المؤامرة، الانفتاح على الشعر العالمي، الهوية الغربية، هدم القصيدة العربية... وأعلنت "الآداب" موقفاً عدائياً جاهزاً ونهائياً من مبدأ "قصيدة النثر" رافضة اعتبار اي قصيدة خلو من الوزن قصيدة. فالشعر في نظرها إنما عماده الوزن تقليدياً كان أم حراً والقافية. وحفلت اعداد "الآداب" في منتصف الستينات بما لا يحصى من المقالات "الهجومية" ضد مجلة "شعر" وضد "قصيدة النثر". وانبرى كتّاب تلك المقالات يصدرون الأحكام المبرمة الشبيهة بالأحكام الستالينية الذائعة. وكانت في طليعة هؤلاء الشاعرة نازك الملائكة التي سمّت قصيدة النثر ب"البدعة" و"الدعوة الركيكة الفارغة من المعنى".وأخذت على مجلة "شعر" كانت نشرت فيها اكثر من قصيدة تسميتها تلك المقطوعات النثرية ب"القصيدة". فهذه القصيدة قصيدة النثر إنما هي "تشويه للحقائق" و"بلبلة للقارئ" و"تحقير للذهن الإنساني". ومن يرجع اليوم الى مقالات نازك الملائكة ي كتشف "رجعيتها" وحكمها المخطئ وخصوصاً بعدما ترسّخت "قصيدة النثر" نظرياً وأكاديمياً وعلمياً وباتت نوعاً من الأنواع الشعرية بل نوعاً قائماً على محاورة الأنواع الأخرى وليس على إلغائها. المقالة - النموذج أما المقالة التي تمثل النموذج الأمثل عن المقالات العدائية والقاسية التي كانت تتنباها "الآداب" ضد مجلة "شعر" فهي المقالة التي كتبها الناقد المصري صبري حافظ تحت عنوان: "حول قصيدة النثر... لا شعر ولا نثر". نشرت "الآداب" هذه المقالة في عدد خصّت به - على ما يبدو - الشعر العربي الحديث آذار - مارس 1966، وحشدت فيه ابرز الأسماء في الشعر والنقد الشعري من مثل: أدونيس كان انسحب من مجلة "شعر" في العام 1963، عبدالوهاب البياتي، احمد ع. حجازي، صلاح عبدالصبور، محمد الفيتوري، فدوى طوقان، سعدي يوسف، بلند الحيدري وسواهم... تبدو مقالة صبري حافظ الآن أشبه ب"وصمة" لن اقول وصمة عار في مسار هذا الناقد والأكاديمي لا لما تحمل من موقف نقدي بل لما تحوي من احكام قاطعة و"عسكرية" تدل على "اليقين المطلق" الذي كان يساور عدداً كبيراً من الشعراء والكتّاب والمفكرين الذين تبنوا "القومية العربية" جاعلين منها عقيدة نهائية غير قابلة للشك أو للقراءة النقدية، بل معتمدين اياها كمقياس لتخوين "الآخر" وإدانته وإلغائه. يصف صبري حافظ قصيدة النثر ب"هذا الشكل الفنّي الغريب" الذي "ينفث السموم" متسللاً الى "قرائنا" كم يبدو حريصاً على هؤلاء القراء. ويدعو جهاراً الى تقديم "حكم حاد وفاصل" في قصيدة النثر. هذه اللهجة "العسكرية" لن تكتفي بإصدار "الحكم"، بل ستتهم جماعة "قصيدة النثر" أي جماعة "شعر" بشروعها في تدبير مؤامرة تحوكها "اصابع خفية". وهنا لا بد للناقد "العروبي" المناضل من ان يذكّر ب"قضية" الشاعر توفيق صايغ الذي وقع ضحية مثاليته وطيبة سريرته. ولن يتوانى حافظ عن اطلاق التهم والعبارات الرنانة والخاوية ضد شعراء "قصيدة النثر"، وخصوصاً بعد ان "يكشف" عن "قصور هذا الشكل التعبيري الغريب عن الارتقاء بالشعر أو النثر على السواء" مؤكداً ان هذا "الشكل" ينمّ عن "اتجاهات المؤسسات التي تروّج له ويهمّها انتشاره". وبعد ان يهاجم شعراء قصيدة النثر انسي الحاج، محمد الماغوط، شوقي ابي شقرا، توفيق صايغ، جبرا ابراهيم جبرا... ومن غير ان يوفر الشاعر المصري ابراهيم شكر الله نافياً عنه مصريته معتبراً اياه باريسياً - هكذا بكل صلافة يؤكد ان هذا "الشعر الغريب" و"المشبوه" يحاول "بث فلسفته التشاؤمية الكئيبة" و"التأكيد على قبح العالم" و"التدلّه في هوى الموت وقوى الانهيار، وغرس السلبية في وجدانات القارئ". ثم يخلص الى ان "الاستعمار" هو وراء استشراء هذه الحركة الشعرية التي "تنفّذ مخططاً مرسوماً لها". أما الطامة او الكارثة الكبرى فتتمثل في دعوته الصارخة الى "خنق" هذا الاتجاه في مهده! اجل يدعو صبري حافظ الى "خنق" قصيدة النثر وخنق شعرائها "الخونة"! قد يكون من النافل مناقشة صبري حافظ في مثل هذه المواقف "الحديدية" والأحكام "العرفية" التي مضت عليها سنوات طويلة شهدت الكثير من التحولات والخيبات والهزائم والأحلام... وربما ينكر صبري حافظ بنفسه الآن مثل هذه القراءة المجتزأة والظالمة والخبيثة بعدما خاض غمار الحداثة كناقد يقيم بين القاهرة ولندن احد أرصفة اوروبا التي كان يجب ان تنكفئ حضارياً كما اشار في مقالته. على أن خير رد على مزاعم "الآداب" والتهم الجزاف التي كالتها لمجلة "شعر" وشعرائها يتبدى في ما كتبه ادونيس نفسه في "شعر" ربيع 1961 - مستبقاً مقالة حافظ - وكان يقيم حينذاك في باريس. وقد يكون هذا الرد شهادة صارخة على طبيعة المعركة التي نشبت طوال سنوات بين "الآداب" و"شعر" والتي كانت الأخيرة خلالها في موقع من يدافع عن نفسه وعن مشروعه. يصف ادونيس جماعة "الآداب" قائلاً: "انهم يصورون التراث العربي تركة موميائية، تحرسها الأشباح والتعازيم. ان التراث العربي لبراء من هذا الفهم، ان العرب لبراء منه ايضاً". ويمضي ادونيس في وصف جماعة الآداب": "هؤلاء وأمثالهم يمثلون الجانب المريض في حياتنا الثقافية والروحية، لكن هذا المرض يجب ان يزيدنا معرفة بصحتنا، ويدفعنا الى المزيد من العمق والبعد والتجاوز والرفض". قد تكون العودة الى "الحرب" التي دارت بين "الآداب" و"شعر" ضرباً من العودة الى الماضي في ابهى تناقضاته وإلى مرحلة اضحت أقرب الى الصفحة المطوية من تاريخ غير سليم تماماً بل أصبحت جزءاً من ذاكرة يشوبها الكثير من الثغرات والهنات... لكن "المصالحة" التي بادرت بها مجلة "الآداب" في عددها الأخير عبر الملف الذي خصت به مجلة "شعر" لا بد لها من ان تلقي الضوء على ذلك السجال الذي طواه الزمن، وخصوصاً بعدما استحالت مجلة "شعر" اشبه بالتراث الحي للحداثة الشعرية وبعدما اصبحت "الآداب" الأولى معلماً من المعالم الأساسية في الإرث الأدبي والشعري. وأقول "الآداب" الأولى بغية الفصل بين المرحلة القديمة والمرحلة الجديدة التي باشرت بها "الآداب" نفسها مع سماح ادريس. وقد أدرك هذا الناقد والأكاديمي الشاب ان معطيات الماضي اصبحت وقفاً على الماضي وأن الحاضر والمستقبل يفترضان معطيات حديثة وما بعد حديثة. هكذا لم يعد من المستغرب ان تتبنى "الآداب" تعريفاً ب"قصيدة النثر" هو من التعريفات المهمة ساقه الناقد محمد ديب في مستهل مقالته في ملف "شعر" ناقلاً اياه عن "موسوعة برنستون للشعر والشعرية". وهكذا ايضاً لم يبق انسي شاعراً عدواً و"لعيناً" الى بقية الأوصاف السلبية التي اطلقها بعض كتّاب "الآداب" عليه بل اصبح باعتراف المجلة واحداً "من كبار شعراء قصيدة النثر العرب". ويجب الانتباه الى أن المجلة فتحت باب مناقشة قضية "شعر" على مصراعيه مرحبة بما توافر لها من آراء ومواقف. وكان من المفترض ان يلبي الدعوة بعض شعراء الحداثة ونقادها الذين يؤيدون "شعر" وينتمون إليها روحياً وثقافياً. ولكن هؤلاء لم يفوا بوعدهم لا لغاية في نفوسهم وإنما لضيق الوقت أو لسهوهم عن هذا الوقت.