كان والد هرفيه جونكور هيّأَ ابنه لمستقبل مشرقٍ في الجيش. غير أن الابن انتهى يكسب عيشه في مهنة غريبة بعض الشيء وتحمل طابعاً "أنثوياً": يبيع ويشتري بيوض دود القزّ. انه العام 1861. غوستاف فلوبير على وشك الفراغ من كتابة سالامبو، والتيار الكهربائي لا يزال مجرد تخمين، وفي ما وراء المحيط يخوض ابراهام لنكولن حرباً غير واثق من نهايتها. هرفيه جونكور يبلغ الثانية والثلاثين من العمر. زوجته هيلين ذات صوت جميل. ليتجنب الوباء الذي انتشر بين دود القزّ الأوروبي اضطر هرفيه الى الذهاب بعيداً لجلب البيوض من مصر وسورية. ينطلق في أوائل السنة، يقطع ألف وستمئة ميل في البحر وثمانمئة ميل في البر، يختار البيوض ويساوم على أثمانها ثم يعود الى بلدته في الأحد الأول من شهر نيسان ابريل. ولكن الوباء انتقل الى البيض القادم عبر المتوسط أيضاً. ووقف هرفيه جونكور، وأهالي بلدته لافيل ديو، الواقعة في جنوبفرنسا، وجهاً لوجه أمام الخسارة والهلاك. ولكن بالدابيو سوف ينقذ الجميع من الموقف الصعب. وبالدابيو هو من كان جلب المهنة الى البلدة لأول مرة. جاء ودخل غرفة رئيس البلدة ووضع قطعة من الحرير على طاولته وسأله: - ما هذا؟ لم يتردد الرئيس كثيراً وأجاب: - انه قماش نسائي. - خطأ، قال بالدابيو، إنها صناعة رجالية، إنها نقود. طرده رئيس البلدة من غرفته. أقام بالدابيو مطحنة هوائية قرب النهر وهناك أنشأ بيتاً لتربية دود القز. جلب آلة لغزل القماش. ولم ينبس ببنت شفة لسبع سنين. بعد ذلك عاد الى غرفة رئيس البلدة ووضع قدراً كبيراً من المال على طاولته وسأله: - ما هذا؟ أجاب الرئيس: - نقود. - خطأ، قال بالدابيو، انه برهان على أنك غبي. أصبح بالدابيو رجلاً ثرياً وصار يملك سبع مطاحن هوائية وغدت لافيل ديو مركزاً مرموقاً لتربية دود القز وغزل الحرير في أوروبا. كان بالدابيو غيَّر حياة البلدة، ولكنه غيّر خصوصاً حياة هرفيه جونكور. حين أبصره يسير في ساحة البلدة رأى فيه الرجل المناسب للمهنة. اقترب منه وقال له: - تهانيَّ يا ولدي. لقد عثرتَ أخيراً على العمل الذي يليق بك. هكذا انتقل هرفيه من الخدمة في الجيش، تلك المهنة الرجالية العنيفة، الى تجارة الحرير، المهنة "النسائية". وها هو بالدابيو ينقذ هرفيه من كساد التجارة. عهد اليه مهمة الذهاب الى "آخر الدنيا" لجلب بيوض دود القزّ. وآخر الدنيا آنذاك كان اليابان. شرح بالدابيو الأمر بالقول أن هناك جزيرة مليئة بدود القز، حريرها ناعم وفاخر. حين تلمسه تشعر كما لو أنك تحمل بين يديك... لا شيء. لم يطأ الجزيرة قدم رجل صيني أو انكليزي ولهذا فإن الوباء لم ينتشر هناك. - وأين يقع هذا المكان، اليابان؟ يسأل هرفيه بهدوء. - واظب على السير حتى نهاية العالم. وانطلق هرفيه في رحلته الى آخر الدنيا. احتضن زوجته مودعاً وذهب في مشوار غامض الى أفق مجهول. وصل قرية يابانية نائية يتاجر سيدها ببيع بيوض دود القزّ. حين التقى هرفيه سيد القرية رآه جالساً على الأرض القرفصاء مرتدياً ثوباً طويلاً قاتماً وعقداً من الجواهر، وأبصر الى جانبه فتاة شابة أخذ رأسها في حضنه وراح يلعب بخصلات شعرها. بدا السيد وكأنه يداعب "حيواناً أليفاً وثميناً". حين طلب من هرفيه أن يخبره عن نفسه، تحدث هذا الأخير بصوت ناعم ولكن واثق وبلغة فرنسية يجهلها الياباني. بدا وكأن هرفيه يتحدث لنفسه، وأن السيد يستمع الى موسيقى الكلام وليس الى مضمونه. وكان كل شيء "هادئاً وصامتاً". فجأةً، ودون الإتيان بأي حركة، فتحت الفتاة عينيها وأمعنت النظر في هرفيه. وإذ التقت نظراتهما بدا كما لو أنهما تبادلا كلمات كثيرة من دون كلام. هكذا، عند هذه النقطة، تدخل حياة هرفيه منعطفاً جديداً. يتبدل كل شيء فيه منذ اللحظة التي تلتقي عيناه بعيني خليلة التاجر الياباني. تتبدل الرواية أيضاً ويبدو السياق السردي وكأنه يستبدل سكّةً بسكّةٍ أخرى. تنحسر أحوال البيع والشراء والتجارة والمال وتتراجع الى الخلف لتحل محلها هموم الانشغال العاطفي لهرفيه والتحام قلبه مع قلب الفتاة اليابانية. هذا نوعٌ من غرام تقليدي، حيث تنبت على ضفاف أحداث الرواية قصة حب مؤثرة. ولكن الغرام هنا يحمل طابعاً خاصاً. انه شغف صامت وعميق. يحضر الحب مجراه دون صوت. لا كلام، لا أحاديث، لا تبادل للشجون. فقط تواصل صامت. يتم كل شيء في سكون تام. يستمر العاشقان يلوذان بالصمت. والصمت وحده ينقل ما يدور في قلبيهما ويكشف المشاعر الدفينة التي تضطرب في أعماقهما. هي رواية عن تجارة الحرير والتحولات التي طرأت على حركتها وانتقالها عبر القارات. ولكنها رواية عن حبّ شفاف وآسر أيضاً. قصة حبّ في قالب كلاسيكي. أسلوب رقيق. آلية سرد بسيطة وصريحة. حبكة في متناول اليد. لا تنبع جمالية القصّ من متن الحكاية بل من خلفية الحدث. ليس من الوسط بل من الطرف. ولا تكمن قوة النص في احتدام عناصره وانغماسه في الدراما، بل، بالعكس، في الابتعاد عن ضوضاء الصراع وارتطام الأشياء. فما يبقى عالقاً في الذهن هو هذا الهدوء اللذيذ. الصمت الشيق الذي يجعل من عشق هرفيه وولعه بعشيقته إيقاعاً جميلاً يتردد صداه في الذاكرة. كأن حكاية الهوى شيء شبيه بقماش من الحرير الياباني الذي يظهر لمن يلمسه كأنه "لا شيء". يقوم هرفيه بأربع رحلات الى اليابان. يبدأ كل رحلة في بداية العام ويعود منها في أوائل شهر نيسان. يقطع مسافات طويلة عبر أوروبا وروسيا جيئة وذهاباً. يأخذ نقوداً ويعود بصناديق مليئة ببيوض دود القزّ. تتوزع مسارات الرواية على أطراف محددة لا تتجاوز كثيراً نطاق المكان الذي ينطلق منه هرفيه، أي قريته، والمكان الذي يسافر اليه، أي قرية التاجر الياباني. ورغم الارتحال عبر البلدان فإن الجوّ الريفي الهادىء هو الذي يهيمن على مسار الأشياء. في القريتين يسود السكون والوداعة. ليس هناك من حشد كبير للأشخاص ولا تقوم أحداث كثيرة. تكاد الرواية أن تكون ملاحقةً دائبة للحدث الأساسي، تجارة هرفيه، ومن ثمّ لوقوعه في غرام الفتاة اليابانية. كأن الحدث الأول كان مقدمةً، أو ذريعة، للثاني. وفي الاثنين هناك ولع كبير: ولع بالحرير، مادة التجارة، وولع بالفتاة، عنصر العشق. ولا تتغير الأشياء من الخارج كثيراً. ما يتغيّر يحدث في الداخل، في الأعماق، من دون صوت أو حركة. هناك اقتصاد كبير في الأصوات والحركات والأفعال. ومقابل ذلك هناك خصوبة وفيرة في الشجن والحنان والحزن والعشق. وتعبّر هذه الأشياء عن ذاتها عبر لغة الصمت. كأن هناك سعي للقول أن الأشياء الجميلة والمدهشة تكتفي بحالها وتنأى عن عرض نفسها. لا يتطلب الجمال لغة أو حواراً. لا تقوم مادته في الأفكار بل في النظر والملمس. طوال الرواية لا ينشأ أي حديث بين هرفيه والفتاة. لا يتبادلان كلمة واحدة. مع هذا ينمو حبّهما باضطراد ويتغذى من النظرات الصامتة والارتعاشات الموحية للعيون والشفاه. كأن الرواية تريد القول أن اللّذة تنهض في استمرار ما يشبه المستحيل في قلب الواقع. وان أي محاولة لتقريب المستحيل من الممكن إنما هو قضاء على اللذة وإنهاء لوجودها. إن مصير هرفيه، المعيشي والعاطفي، يقع تحت رحمة التاجر الياباني. ولقد تداخلت أشياء الواقع والعاطفة مثلما تتداخل خيوط الحرير وأصبحت حياة هرفيه مثل قطعة قماش حريري، خفيفة، نحسُّ ونحن نلمسها كأنها "لا شيء". وتتشابك الأشياء تشابكاً محكماً فإذا ما انفرط خيطٌ هناك انفرطت الخيوط الأخرى من تلقاء نفسها. هكذا، حين تندلع حرب أهلية في اليابان تتوقف تجارة الحرير. تنتهي تجارة هرفيه أيضاً... وتلوح نهاية حبّه أيضاً. لقد حلّ الخراب بقرية التاجر الياباني ورحلت عشيقته مع سيّدها تاركةً لهرفيه الرسالة التي خبأها بين أصابعه. هكذا ينتهي كل شيء، مثلما بدأ، في سكينة وهدوء. كأن الأمر كان حلماً ممتعاً وحزيناً. يرحل بالدابيو عن القرية. تموت هيلين، زوجة هرفيه. ويقضي هرفيه بقية حياته في صمت، يطوي في قلبه ذكرى عزيزة عن عشق غريب مسَّ حياته مساً ناعماً ولكن عميقاً. لقد نجح الروائي في توليف مادته القصصية توليفاً ذكياً وتمكن من طرز نسيج النص بزخرفة حكائية أضفت سحراً لذيذاً على البنية التقليدية للسرد فصارت الرواية مثل تحفة أثرية قديمة ملفوفة بورق عصري. لقد جعل الروائي من الصمت والرقّة والسكون والوداعة أشياء تنطق بالدهشة والمتعة. بهذه الرواية رسّخ الإيطالي أليساندرو باريكر اسمه أعمق في ذاكرة القراء الذين سبق أن قرأوا له Castelli de rabbia قلاع الغضب، التي كانت فازت بجائزته ميديسيس للرواية، وكذلك Oceano mare بحر المحيط، التي فازت بجائزته فياريجو للرواية وروايته هذه Seta حرير ترجمت الى ستة عشر لغة، بما فيها اللغة اليابانية. * اعتمدتُ في هذه القراءة على الترجمة الانكليزية بعنوان Silk، التي صدرت من دار هارفيل برس في لندن عام 1998.