المشكلة مع صدام حسين ان "جسمه لبّيس" كما يقول اللبنانيون، وإلصاق التهم به سهل لأنه قادر على ارتكاب الجريمة أو الحماقة، وهو باحتلال الكويت جمع الاثنتين. الولاياتالمتحدة بدأت حرباً على طالبان وأسامة بن لادن وقاعدته، ثم وجدت نفسها تواجه ارهاباً من نوع آخر فأسلحته هذه المرة ليست طائرات ركاب مخطوفة، وإنما جرثومة "انثراكس"، أو الجمرة الخبيثة التي لا يكاد يمضي يوم من دون أن نسمع عن رسائل تحملها، وضحايا ابرياء آخرين لا علاقة لهم البتة بالشرق الأوسط وقضاياه. وتوجهت أصابع الاتهام فوراً الى صدام حسين، فهو يملك اسلحة دمار شامل، ولا بد انه أخفى كثيراً منها بعد حرب الخليج على رغم جهد المراقبين الدوليين، وهو قادر على استعمال مثل هذه الأسلحة، وقد فعل مرتين ضد ايران وضد شعبه. غير ان صدام حسين بريء هذه المرة، فهو قد يكون متهوراً لا يفهم قراءة السياسة الدولية، إلا أنه ليس مجنوناً، وفي حرب الخليج نفسها، وحتى عندما أدرك انه خسر لم يستعمل اسلحة كيماوية او جرثومية لأنه كان يدرك ان استعمالها سيعني تدمير العراق، وحتماً الاطاحة بنظامه. وهو امتنع عن استعمال اسلحة الدمار الشامل في حرب الخليج حتى عندما استعمل الاميركيون أسلحة من ضمنها اليورانيوم المستهلك. وما جعله يمتنع في حينه، كما لم يمتنع أمام الايرانيين والأكراد، هو ما يجعله يمتنع الآن، فالرد سيكون تدمير نظامه. وربما زدت هنا ان نظام صدام حسين يفتقر الى انتحاريين من نوع أعضاء القاعدة والمنظمات الأصولية الأخرى، وهو لو أرسل عميلاً له في عملية انتحارية الى الخارج، فالأرجح ان يتصل هذا العميل بوكالة الاستخبارات المركزية سي آي إي ويسلم نفسه ليعطى مكافأة وهوية جديدة واسماً، مع حق اللجوء السياسي في الولاياتالمتحدة. صدام حسين بريء من الارهاب بجرثومة "انثراكس" ومع ذلك فهناك أصابع اتهام توجه اليه في الولاياتالمتحدة، وبعضها يتجاوز عملاء اسرائيل المعروفين الذين دعوا الى تدمير العراق قبل الحرب على طالبان. هل يذكر القراء ريتشارد بتلر؟ هذا "استرالي" بالمعنى المصري للكلمة، فهو كان رئيس فريق التفتيش الدولي عن أسلحة الدمار الشامل في العراق بين 1997 و1999، وكتب هذا الأسبوع يقول إن أشد معارضة لقيها فريقه كانت عندما حاول المفتشون اكتشاف الأسلحة البيولوجية. وخلص بتلر من هذا الى الاستنتاج ان هذه الأسلحة مهمة جداً لصدام حسين. هي كذلك ولكننا نعرف هذا من دون أن يذهب بتلر الى العراق ويعود، وهناك دول كثيرة تملك اسلحة دمار شامل، بما فيها اسرائيل، إلا أن امتلاك الأسلحة هذا لا يعني بالضرورة استعمالها، وقد وجد صدام حسين أن هذه الأسلحة خط أحمر في حرب الخليج لم يجرؤ على تجاوزه، ولا يزال الخط الأحمر هذا قائماً اليوم. "عصابة وولفوفيتز"، وأنا أستعمل هذا العبارة براحة نقلاً عن "نيويورك تايمز"، يقودها بول وولفوفيتز، نائب وزير الدفاع، وتضم مسؤولين معروفين من انصار اسرائيل مثل ريتشارد بيرل، رئيس مجلس سياسة الدفاع، وهو هيئة استشارية مستقلة تنصح الوزارة، ونيوت غينغريتش رئيس مجلس النواب السابق. هذه العصابة كانت تريد سبباً لضرب العراق قبل فتح أول رسالة بداخلها جرثومة "انثراكس"، وهي الآن تعمل لربط العراق بالارهاب الجرثومي، أملاً بتحقيق حلمها القديم بتدمير العراق وتقسيمه خدمة لاسرائيل. وتقضي خطة العصابة باحتلال جنوبالعراق وتنصيب المعارضين من نزلاء فنادق لندن على رأس حكومة، ثم احتلال آبار النفط حول البصرة لدعم المعارضة في الجنوب والأكراد في الشمال. والاميركيون الذين تهمهم مصلحة بلدهم، أكثر من مصلحة اسرائيل يخافون من هذا التوجه لأن من شأنه ان يفرض عزلة سياسية دولية على الولاياتالمتحدة، كما حذرت جريدة "اتلانتا جورنال اند كونستتيوشن". وهي هاجمت الجناح اليميني في الادارة وأصرت على وجوب تقديم أدلة قاطعة لا يمكن دحضها قبل خوض حرب ضد أي بلد بحجة ممارسته الارهاب البيولوجي. هذا الارهاب حقيقي، والاميركيون لا يعرفون ان كانت الرسائل الأولى مجرد اختبار لردود الفعل يأتي بعده الهجوم الحقيقي، أو ان هناك مئات الرسائل المعدة لاغراق مراكز الحكم ودوائر الاقتصاد بها وشل حركة البلاد، أو ان هذه الرسائل مجرد عملية تمويه هدفها تحويل الأنظار عن حملة ارهاب بيولوجي كبرى معدة للتنفيذ. في مثل هذا الجو المشحون بالخوف والقلق ينشط انصار اسرائيل لتحميل العراق المسؤولية بعد أن فشلوا في محاولة ضربه لمجرد ان الفرصة سنحت. ومشكلة صدام حسين أن "جسمه لبّيس" كما قلت في البداية، غير أنه بريء من هذه التهمة، فهو منذ تحرير الكويت يعمل لقضية واحدة هي البقاء في الحكم، وهذا يعني أن يقتصر نشاطه على شعبه المسكين، من دون أي شعب آخر.