لا تزال المغنية جوليا بطرس تعرف السبيل الى اقامة العلاقة الجدية مع الجمهور، تلك العلاقة التي لم تنزل في يوم من الأيام الى نحو ما شاع من علاقات بعض الفنانين العرب بالجمهور، إذ اعتقد هؤلاء ان الناس غير قادرين على التملّص من أغنيات عوّدهم عليها الإعلام التلفزيوني والإعلان الإذاعي، فإذا بهم يفاجأون بانقلاب الآذان عنهم الى أفضلٍ يبحثون عنه باستمرار، فبقوا في من مستوى التكرار الرتيب، وتطلع الجمهور نحو آخرين يعطونه ما يشكل غذاءً لروحه. جوليا من الفنانين القلائل الذين لم ينقلب عليهم الجمهور، لأنها أدركت ان مسألة التجدّد أساسية في الابقاء على الشهرة نضرة وحيوية وقابلة للحياة والاتساع. ففي كل شريط جديد لها، أغنيات توازن بين اللون المعروف الذي تميزت به والألوان الأخرى من دون أن يعني الكلام جعلها نَفْسَها تخدمُ هذه اللهجة أو تلك مما في البلاد العربية طمعاً في استجلاب تشجيع هشّ بقدر ما يعني حرصها على نوعية رصينة متكاملة المواصفات من الأغنيات ذات الأبعاد الرومانسية أو الشعبية الايقاعية أو غير ذلك، وبلهجة لبنانية تشعر في الاستماع اليها انها ترفض أن تكون إلا على بساطة وعمق وشاعرية موسيقية فاتنة. الشريط الجديد اسمه "بصراحة" تمارس فيه جوليا صراحة كلية في التعبير عن الوجد الغنائي بصوت يكتسب باستمرار نضجاً قد لا ينتج من تمارين قاسية كما جرت العادة لدى بعض الأصوات بقدر ما ينتج من دخول أكثر فأكثر في الذات، واختمار المعرفة الفنية، والتعامل مع الصوت على انه ثروة حقيقية أكبر من أي ثراء آخر، مع الحرص على أن يكون في الشعر وفي الموسيقى ما يطلق ذلك الثراء في اتجاهات عالية، بثراء موازٍ، على اعتبار ان الصوت مهما تكن امكاناته وطاقاته التعبيرية قوية يظلّ في حاجة الى الكلمة التي تشبعه حنيناً والى الموسيقى التي تفجر مكنوناته ومكنونات الكلمة معاً. تواصل جوليا في "بصراحة" الاعتماد على الاسمين الأساسيين اللذين اعتمدت عليهما في حياتها الفنية كلها، على رغم تنقلها بين وقت وآخر، وإن نادراً، بين اسماء أخرى كانت بهدف التنويع كما يبدو أكثر مما كانت بهدف بناء تجربة جديدة كاملة مقارنة مع تجربتها بالاسمين المقصودين: شقيقها الملحن زياد بطرس، والشاعر نبيل أبو عبدو... ليس جديداً القول ان زياد بطرس، بعد خبرة مركزة، بات يدرك بالضبط أين يبدأ صوت جوليا وأين ينتهي. هو في بداية عمله مع صوت شقيقته كان يحاول، وينجح دائماً في اختيار الأفضل لها من غزارة موسيقية هادرة في أعماقه وان يكن لا يخرجها بكثافة، لأنّ تلك هي ظروف الانتاج الجيد. واليوم يتابع الطريق باحثاً في الصوت عن شخصية الصوت وعن شخصيته هو كملحن. ولعلّ ألحانه للكثير من المطربين والمطربات، على قلتهم، تكشف انه بات شخصية موسيقية ذات هوية خاصة، تسعى الى نقاء مغاير. والنقاء في فترة ركود الانتاج الغنائي القياسية اليوم في العالم العربي، يكاد يصير أمراً غريباً. وذلك مشكلة ليست في أذهان الفنانين من شاكلة زياد بطرس، بل في أذهان أهل الانتاج والتسويق والفن أيضاً. يعالج زياد بطرس الكلمة الشعرية التي يكتبها خصيصاً له صديقه الشاعر العذب نبيل أبو عبدو، بكثير من الرقة والعذوبة أيضاً. وأكاد أقول ان في شعر أبو عبدو وموسيقى زياد بطرس حالات متشابهة في المشاعر وأسلوب التعبير. لا يكفي ان يفهم الموسيقي حدود الكلمة ثم يخترع أسلوباً موسيقياً قد يكون نقيضاً للكلمة، بل ان فهم الكلمة يستدعي فهم الأسلوب الذي تتحول فيه تلك الكلمة الى موسيقى ومن ثم الى صوت، من غير ان يبيع الموسيقي شخصيته لمصلحة الكلمة، أو أن يوظف الشاعر كلمته لمصلحة الموسيقي، أو أن ينحني الصوت لرغبات الكلمة والموسيقى. هي وحدة حال مطلوبة في أغنية جوليا، يعرفها الثلاثة: جوليا وأبو عبدو وزياد ويجتهدون في تصويرها من داخل. من الصعب ان يفكك الناقد صوت جوليا عن موسيقى زياد عن شعر نبيل، لا سيما بعد التجربة الطويلة نسبياً، والجميلة عموماً، والذاهبة في جمال أبعد يتوافر أحياناً كثيرة. في "بصراحة" اطلاق لقدرات صوتية وموسيقية وشعرية، واطلاق مكثف لنمط من الغناء تعتقد جوليا انه يصمد أمام العاتيات بفعل انتباه شديد لا ينقطع الى مشاعر الإنسان الحميمة، العفوية، البسيطة التي منها تصعد الأفكار الغنائية الجديدة أو المبتكرة بعيداً من عواطف وأفكار أخرى تكاد تصير في الأغنيات وتصير الأغنيات بها أثراً بعد عين!