كان من بين التداعيات الجانبية للعمليات التي استهدفت البنتاغون وبرجي مركز التجارة العالمية، ثلاث ظواهر تتعلق بالاسلام. الأولى: عودة، أو اشتداد، الحملات الشعواء ضد العرب والمسلمين، بل ضد الاسلام نفسه. فكل من تابع عشرات المقالات والتعليقات في الصحف والتلفزات في اميركا، والغرب عموماً، وفي روسيا نفسها، لمس حملة مركزة على الاسلام من حيث اعتباره المسؤول عن "ثقافة الارهاب" أو "ثقافة العنف" وتوليد التطرف والارهابيين. فالاسلام تارة لا يُحكّم العقلانية في العلاقات بين البشر والأديان والتعددية. والإسلام طوراً يدعو الى استخدام العنف في نشر دعوته وبناء حجته. اما الحضارة الاسلامية فهي حضارة القرون الوسطى: متخلفة، أدنى من الحضارة الغربية. واتسمت الظاهرة الثانية بالدفاع عن الاسلام ومديحه باعتباره "دين السلام والتسامح"، وهذا ما أكده جورج بوش الإبن في نفيه ان تكون الحرب التي يشنها موجهة ضد العرب والمسلمين أو ضد الاسلام. وراح توني بلير، بحماسة، يعصر الحجج التي تدعم هذا النفي من الوقائع عصراً أنظر مقالته في "الحياة" في 11/10/2001. اما الظاهرة الثالثة فتمثلت في اقبال اعداد لا بأس بها من الاميركيين والأوروبيين على قراءة الكتب الاسلامية، والسؤال عن الاسلام ما هو؟ مما راح يوجب البحث عن اسلم الوسائل التي يُقدَّم بها الاسلام في الرد على تلك الاسئلة، وهذا هو الأهم، كما في الرد على الحملات المعادية أو على حشره في زاوية واحدة بوصفه دين التسامح والسلام فقط. أما من جهة اخرى فإن عدة مواقف عربية واسلامية في اميركا والغرب راحت تدافع عن الاسلام، فتقدمه باعتباره دين "التسامح والمودة والسلام" ظناً منها بأن التركيز على هذا الجانب في الاسلام هو أفضل طريقة في ايصاله الى افهام الرأي العام في الغرب، ودفع تهمة الارهاب عنه، أو في دحض الفهم المتطرف للاسلام. وهي بحاجة ايضاً الى مناقشة لئلا يفهم انها تقدم الاسلام تقديماً أحادي الرؤية، أي رؤية جزئية غير دقيقة وغير متكاملة مع الكل الاسلامي، تماماً كما يفعل المغالون حين يقدمون الاسلام تقديماً احادي الرؤية، ولكن في الاتجاه المضاد. والحال هنا شبيه بقول ماو تسي تونغ "عندما نريد ان نقوّم غصناً مائلاً يميناً فنميل به الى أقصى اليسار ليعتدل، أو العكس". ولكن هذا النهج لا يصح مع الاسلام، لأن تقويم الانحراف لا يتم الا من خلال ضبطه معتدلاً، وليس الميلان به الى أقصى الاتجاه المضاد ليعتدل. هذا ضروري من الناحية المنهجية. ولكنه ضروري أكثر في مواجهة حملات التحامل والعدائية. أو اتجاهات حشر الاسلام في زاوية واحدة سواء كانت "حمائمية" أم "صقورية"، أو في اتباع الطريقة الأفضل في مخاطبة الرأي العام الذي يسأل عن الاسلام في الغرب. وربما كان المنهج الأنسب في لفت انتباه مراكز القرار في اميركا وأوروبا وعدم تركهم يفسرون الاسلام على هواهم، مما يتركهم سادرين في الإساءة الى الاسلام والعرب والمسلمين حين لا يفهمون ان الاسلام ليس تسامحاً ومودة وسلاماً فقط. كيف؟ ان من يريد ان يدفع عن الاسلام، أو يعرّف الاسلام للآخرين يفترض به ان يقدمه بكل جوانبه متكاملاً وليس مجتزءاً أحادي الجانب. وما ينبغي له ان يفعل العكس حتى لو ظن انه يقربه الى أذهانهم من خلال تلك التجزئة. لأن تقديمه متعدد الجوانب متكاملاً يغلق الباب تماماً في وجه الحملات التي تتعمد حشره في خانة العنف والارهاب، أو تنمّط العربي والمسلم حين ترسم له صورة الارهابي أو العنيف أو اللاعقلاني، والبعيد عن المسلسل "الحضاري" بالمقاييس المزدوجة الغربية. فالاسلام، على سبيل المثال، لا يمكن ان يختصر بدين "التسامح" على رغم ان التسامح، أو بتعبير اسلامي أدق "العفو والسماحة" هما جزء من المكوّن الاسلامي، ولكنهما ليسا كل ذلك المكوّن. لأن الاسلام فيه القصاص، والجهاد، والرد على الاعتداء بمثله، وفيه ما بين هذا وذاك، وفقاً للحالة والظرف والمعطيات. فالاسلام يأمر المسلم بألا يعتدي، ويأمره إذا اعتُدي عليه بالعفو، أو رد الاعتداء بمثله، ولا يزيد. والاسلام يأمر المسلمين بالعدل والقسط، ولكن يأمرهم ألا يقبلوا بالضيم والإهانة والمذلة ومصادرة حقوقهم أو احتلال بلادهم. فصيدلية الاسلام لا تتشكل من دواء واحد في مداواة كل الحالات، ولا مشفاه يستخدم اسلوباً واحداً في العلاج. ومن هنا توجب ان يُعرّف بكل أبعاده وجوانبه، وذلك هو مكمن قوته ومتانة حجته. فسرّ الاسلام في اعتداله وتوازنه وتكامل أجزائه. يمكن ان يلاحظ عند هذا الحد ان التأكيد على جانب السماحة والعفو فقط في الاسلام لا يقنع الذين يستخدمون، بدورهم، مكوناً واحداً ليس الا من مكوناته الأخرى لينحرفوا به الى تسويغ الارهاب أو منهجية العنف. بل ربما ستروا ضعف حجتهم وهم يدحضون أحادية النظرة المقابلة. فقد كان هذا هو السبب الذي اضعف حجة الذين ردوا على الغلاة بغلو في الاتجاه الآخر، بينما تقديم الاسلام بمنهجية متكاملة متوازنة هي وحدها التي تسقط حجة الغلو، وذلك من خلال ان يُبيّن بدقة عالية وعمق، وبفهم متماسك، متى يُقدّم الاسلام العفو والسماح على رد الاعتداء باعتداء مثله، ومتى يُقدم رد الاعتداء بمثله على العفو والسماحة. ومتى العكس. صحيح ان الاسلام دين يدعو بقوة الى العفو والسماح، وهو سمح ومتسامح، ولا يدعو الى اكراه عن طريق عنف مادي أو معنوي. وصحيح ان الاسلام يدعو الى السلام والتعارف والتعايش بين الشعوب والى الجدال بالتي هي أحسن مع مخالفيه. ولكن الصحيح ايضاً، وبالقدر نفسه، ان الاسلام يحض على مقاومة الظلم، ويقر سنة التدافع بين الناس، ولا يقبل بالاعتداء على الأمة واستتباعها أو يرضى لها ان تركن الى مهانة وذل. وصحيح انه يدعو الى السلم، ولكن ليس كيف كان وبأي ثمن. فهو يخوض الحرب والجهاد اذا شنت عليه الحرب وتعرضت داره لعدوان واحتلال. وهو يأمر ان يفعل كل ذلك وغيره، بقدره، ولكل فقهه، وهو ما يخرج ثقافة الارهاب ووسائله من تعاليمه وثقافته وقيمه، وإلا كيف كان للاسلام ان يبقى حياً متجدداً طوال تاريخه حتى يومنا هذا لو حُشر في أية نظرة أحادية الجانب مهما كان لونها ومن أنى أتت. وبهذا يُقدم الاسلام لمن يريد ان يعرف عنه تقديماً متكاملاً قدر الامكان. ويرد على الغلو، ويتنبّه ساسة الغرب، واميركا على الخصوص، عند التعاطي مع الاسلام أو مع العرب والمسلمين دولاً وشعوباً، الى الاعتدال وعدم التمادي. وبالموازاة مع هذا التجزيء المتعمد للاسلام يصار الى تجزيء لا يقل مكراً لقضية فلسطين ولأهداف انتفاضة الأقصى. وذلك من خلال إلقاء ادارة بوش لطعم "الدولة". ومقابل ذلك يطلب من الفلسطينيين والعرب والمسلمين الانخراط في "التحالف"، أي وضع بلادهم وسياساتها غبّ الطلب الاميركي. ليس من قبيل الصدفة ان نسمع الآن، كما في السابق، أصواتاً كثيرة تصدر من اميركا وأوروبا وحتى من داخل الدولة العبرية تلوّح باعطاء الفلسطينيين "دولة" حلاً للمشكلة الفلسطينية، بينما لا تقول تلك الاصوات شيئاً عن الاحتلال والانسحاب من كل الأراضي المحتلة، على الأقل، تلك التي احتلت في الخامس من حزيران يونيو 1967. ولا تقول شيئاً عن تفكيك المستوطنات، ناهيك عن حق العودة وسائر الحقوق الأخرى. ومن ثم يكتشف ان الكلام على الدولة بكل ذلك الغموض والتجزيء من خلال تجنب مسألتي الاحتلال والمستوطنات، وكذلك القدس والمسجد الأقصى واللاجئين يرمي الى المساومة على كل ذلك مقابل هذا "العرض السخي" - الدولة! وبهذا تتحول الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بما في ذلك القدس والمسجد الأقصى والواجب انسحاب الاحتلال منها، وتفكيك المستوطنات بلا قيد أو شرط، اي: عدم مكافأة الاحتلال، الى أراض متنازع عليها، وتقع تحت المساومة مقابل "الدولة". هذا من دون الإشارة الى سائر جوانب القضية الفلسطينية التي يراد الانتهاء منها مقابل اعطاء دولة كذلك. فهذا الطعم ليس مغشوشاً وسامّاً على مستوى التعبئة لخدمة اغراض الحرب الاميركية فحسب، وانما ايضاً، على مستوى القضية الفلسطينية برمتها. ان تقديم مو ضوع الدولة الفلسطينية على الانسحاب وتفكيك المستوطنات يعني وضع العربة أمام الحصان. الأمر الذي يفرض تصحيح وضع الحصان والعربة. اي تقديم مسألة الأرض، القدس والمسجد الأقصى وتفكيك المستوطنات العودة الى خطوط ما قبل الرابع من حزيران وبلا شروط قبل موضوع الدولة. لأن الدولة تصبح عندئذ تحصيل حاصل وكاملة السيادة بدلاً من تآكل الأرض والقدس والمسجد الأقصى وحق العودة، بل كامل الحقوق. وما أبأسها من صفقة خاسرة حين تعطى الأولوية للدولة، بصورة مخالفة لميزان القوى الفعلي فلسطينياً وعربياً واسلامياً وعالمياً كما عبر عنه الوضع الاقليمي والدولي قبل الحادي عشر من ايلول الفائت، ومن دون علاقة بالانتفاضة وتضحياتها، أو ازالة سبب من بين أسباب توليد الارهاب. فالمزيد من الغبن وهدر الحقوق في فلسطين ليس هو الطريق. كما ان انتصار اميركا في الحرب العالمية التي تشنها ضد افغانستان، ومن سيأتي دوره بعد افغانستان، سيعيد تجربة سنوات ما بعد مدريد حتى انتفاضة الأقصى، الى سيرتها الى الأولى أو اسوأ. فأميركا المنتصرة، والمتفردة في العالم، أشد انحيازاً للدولة العبرية من اميركا المأزومة والمحتاجة الى العرب والمسلمين. أما من جهة أخرى، فإن تحول التهديد باستخدام الاسلحة الجرثومية الى احتمال زاحف، كما يبدو من بعض المؤشرات، سيقلب المعادلة الدولية، مرة اخرى، الى الاسوأ بما لا يقاس معه ذلك الانقلاب الذي احدثه الحادي عشر من ايلول. فلو افترضنا، لا سمح لله، ان وراء حالات الإصابة ب"الجمرة الخبيثة" عملاً ارهابياً يشكل استمراراً لعمليات نيويورك وواشنطن فسنجد أنفسنا امام ارهاب تخطى كل حدود بما في ذلك الكارثة الانسانية التي لم تجف دماؤها بعد، ولم تتوقف تداعياتها السلبية في كل اتجاه، خصوصاً على الفلسطينيين والعرب والمسلمين. لأنه يكون قد تعدى الارهاب العسكري، بما في ذلك ارهاب الدول مهما عظم. فاستخدام الاسلحة الجرثومية محرم دولياً، ومحرم اسلامياً بإطلاق. ويدخل في اطار الجريمة الاستثنائية التي لا يمكن ان تسوغها حرب، والتي لا مجال من قريب أو بعيد، ومع أقصى محاولات التأويل المخل للنص الاسلامي، أو التسويغ النابع من جرائم يرتكبها العدو، ان يجد ما يبرر فعلته، أو ان يجد من يُعجب به، أو يصفق له. فهذا ليس رد اعتداء بمثله، ولا هو موجه ضد رموز يعتبرها ركيزة للنظام المعادي. انه اعتداء متعمد على أبرياء، وبأبشع وسيلة حين تبعث الجراثيم القاتلة الى الجسم لتفتك به بعد تعذيبه وترويعه والتنكيل فيه. ومن ثم لا يمكن ان يصدر عن جماعة تحمل قضية، أو لها علاقة بالاسلام، أو حتى بالفطرة الانسانية. وهو ما سيميز هذا المستوى تمييزاً نوعياً حتى عن العمليات التي ضربت البنتاغون وبرجي مركز التجارة العالمية. فهذه تظل، ومهما قيل في إدانتها وشجبها، ضمن نطاق الاعمال العسكرية الموجهة الى رموز ذات مغزى الى جانب الفتك بمدنيين ابرياء. بينما القتل من خلال الأسلحة الجرثومية يخرج على المعقول، بإطلاق. والأخطر انه قد يقود الى ردود فعل من جنسه. فهو، كسابقة، أشد خطورة مما قد يصل اليه فعلياً من نتائج عندما يوجه الى مجتمعات ممركزة منظمة ذات امكانات هائلة للمعالجة والتخفيف من الاضرار. ولكن ما العمل، ويا للهول، حين يرد عليه بالنووي، مثلاً، أو من خلال ما يماثله. اذا صحّت، لا قدّر الله، الاتهامات الموجهة الى من هم وراء ارسال البريد الحامل لمسحوق "الجمرة الخبيثة" لتفتك بأناس عاديين من خلال انتقاء عشوائي لعناوينهم، ربما من سجل الهاتف، يجب التدقيق الاقصى في الاتهامات لخطورتها، واذا اتسع نطاق الاصابات فان النتائج على الوضع العالمي عموماً، وعلى العرب والمسلمين خصوصاً، ستكون اشد سلبية من كل تصور، وعلى المعنيين من ورائها، اشد تدميراً معنوياً وجسدياً. ولن يجدوا ابداً من يتعاطف واياهم، او يجد لهم عذراً من اي نوع. بل ان كان هناك من امل في مواجهة العدوان الاميركي على افغانستان داخلياً وعالمياً، او اذا كان ثمة من توقع إمكان تجاوز تلك الآثار السالبة التي تركتها عمليات 11 ايلول 2001، في وقت قريب، فان ذلك سيتبدد بفضل "عبقرية" من فكّر في استخدام سلاح "الجمرة الخبيثة" إن ثبت انها نتاج فعلٍ متعمّد.