يواجه العالمان العربي والاسلامي الآن تحدياً حضارياً لم يسبق ان واجها مثيلاً له منذ سقوط الامبراطورية العثمانية. فالثمن الاكبر الذي سيتعيّن دفعه، في السنوات المقبلة، عن الاعمال الرهيبة التي شنّت على نيويورك وواشنطن في 11 ايلول سبتمبر قد لا يتحمله ضحايا الارهابيين وحدهم، بل كل الافراد العرب والمسلمين اينما كانوا يعيشون. وهذا الثمن لا يتضمن القصف في افغانستان، او الجهود لملاحقة ارهابيين مسلمين وعرب من ضواحي بوسطن الى نُزل الطلبة في هامبورغ، فأزقّة القاهرة، او الاجراءات المهينة اليومية التي يمكن ان تفرضها عمليات ملاحقة كهذه. فالأذى الأكبر البعيد المدى هو في ما لو رد المسلمون والعرب على احداث 11 ايلول سبتمبر بمزيد من الامعان بشعورهم أنهم الضحية. ان نزعة "مناهضة اميركا" في ايدي شخص مثل اسامة بن لادن ليست سوى الشكل الاحدث والاكثر خبثاً لفكرة احتضنها في الاصل ما يسمى بمثقفين عرب قوميين وتقدميين تحت مجموعة متنوعة من التصنيفات: مناهضة الامبريالية، مناهضة الصهيونية، الاشتراكية العربية، القومية العربية. وانطلقوا في مواقفهم من مظالم صادقة، بعضها اكثر مشروعية من غيرها. وبين المظالم المشروعة يجب ان تُعطى اولوية للظلم الناجم عن تشريد ملايين الفلسطينيين الذي رافق ولادة اسرائيل في 1948. لكن هذا الاحساس بالظلم لم يوجّه، على أيدي القوميين واليساريين "المعادين للامبريالية" من ابناء جيلي الذين كنت انا واحداً منهم، الى بناء مجتمعات مدنية تستند على اي توسيع للحيّزات المدنية يتم انتزاعه عبر كفاح صعب ضد الانظمة الاستبدادية كما جرى في اميركا اللاتينية في الثمانينات. فقد ترك فشلنا حتى في السعي الى تحقيق اهداف كهذه فراغاً سرعان ما ملأه منظور تآمري للتاريخ، عززته تلك الانظمة الاستبدادية، وكان ينسب كل شرور العالم اما الى الشيطان الاكبر، اميركا، او الشيطان الأصغر، اسرائيل. وكانت النتيجة الطبيعية الخطرة وغير المعلنة لهذا المنظور تلك الفكرة القائلة إننا "نحن العرب" لا نملك، او نكاد لا نملك، أي قدرة على تغيير الظلم الذي يسير عليه العالم. وبدأ العرب بشكل خاص، والمسلمون بشكل أعم، ينظرون الى انفسهم باعتبارهم الضحايا "الابديين" للقرن العشرين، وكُتب عليهم ان يخوضوا "كفاحاً" على طريقة سيزيف ضد ظلم شيطاني. وفقدنا الاحساس بأنفسنا كسياسيين فاعلين جديرين بالثقة يهدفون الى تحقيق مكاسب سياسية ملموسة وتدريجية. ومن المهم ان نلاحظ ان العرب ليسوا وحدهم الذين يلفون انفسهم في عباءة الضحية. فقد بُنيت الهوية الاسرائيلية على المحرقة على نحو يماثل الطريقة التي صيغت بها الهوية الوطنية الفلسطينية على اساس معاملة اسرائيل للفلسطينيين. وعززت مثل هذه التماثلات هناك الكثير منها عقدة الضحية التي تنطبق، بدرجة او اخرى، على كل شعوب الشرق الاوسط الفلسطينيين والاسرائيليين والاكراد والارمن والتركمان والشيعة والسنة. في العالم العربي، خصوصاً بعد انتصار اسرائيل في حرب الايام الستة في 1967، تحولت هذه العقدة الى القوة المحرّكة للحياة السياسية والثقافة، فأصبحت الاساس الذي قامت عليه انظمة دموية مثل نظام صدام حسين في العراق ونظام حافط الاسد في سورية. وانتقلت نزعة العداء لاميركا من ايدي القوميين العرب العلمانيين الى المتعصبين الدينيين الذين كانوا مهمشين في السابق. وفي 1979، اندمجت هذه النزعة مع المشاعر المناهضة للشاه لتصبح احدى القوى المحركة للثورة الايرانية. وفي اعقاب ذلك الحدث الاستثنائي، سيطرت على اجزاء كبيرة من الحركة الاسلامية من الجزائر الى باكستان. ويضم العالمان العربي والاسلامي في الوقت الحاضر تشكيلة يرثى لها من الاقتصادات المنهارة والبطالة المتفشية في ظل انظمة تزداد قمعاً. لكن الفشل الاكبر اطلاقاً يتمثل في الجانب الفكري، وعلى وجه التحديد فشل المثقفين - كتاباً واساتذة وفنانين وصحافيين، وهلم جراً - عدا استثناءات قليلة، في تحدي اكثر نزوات الحكم توحشاً. بل انهم دعموا هذه النزوات برفضهم الخروج من إسار مفاهيمهم القومية على سبيل المثال، بامتناعهم عن مد يد التضامن الى نظرائهم في اسرائيل. تصرف هؤلاء المثقفين بدلاً من ذلك كناقدين "رافضين" يشجبون بقوة حكامهم لأنهم لا يظهرون ما يكفي من العداء للصهيونية والامبريالية. ويضيع في غمرة هذا كله العمل المثابر الذي يتعلق باقامة نظام سياسي حديث مستند على الحقوق يمكن ان يشكل الاساس لرخاء عام. وفي غياب مركز اهتمام بديل كهذا، وفي خضم لغو لا ينتهي من رثاء الذات، هل يُستغرب ان ينجذب افراد محبطون من الفئات الوسطى الى انشطة متطرفة وارهابية تهدف الى توجيه ضربات قوية الى "الآخر" الذي يُعطى صورة الشيطان، وأن تستحث اعمالهم الشنيعة / الانتحارية ردوداً فورية وعنيفة متزايدة تعزز بدورها احساس الضحية المهيمن، ليفضي ذلك الى شهداء مضللين آخرين؟ هذه هي الهاوية التي تواجه المجتمعات العربية والاسلامية في العالم في الوقت الحاضر. وللابتعاد عن شفا الكارثة يتعين على المسلمين والعرب، وليس الاميركيين، ان يكونوا على الخطوط الامامية لحرب من نوع جديد، حرب يجدر خوضها من اجل خلاصنا نحن بالذات. هذا هو، كما سيقول لكم الباحثون المسلمون الذين تمت تنحيتهم جانباً، هو المعنى الفعلي ل"الجهاد" الذي خطفه الارهابيون ومنفذو التفجيرات من الانتحاريين، وكل اولئك الذين يشيدون بهم او يبررونهم. فالتخلص مما فعلوه باسمنا هو التحدي الحضاري الذي يواجهه العرب والمسلمون، داخل العالمين العربي والاسلامي وخارجهما وقد محا اسامة بن لادن اهمية تمايزات كهذه في مطلع القرن الحادي والعشرين.