لسنا، نحن أهل الرواية وما شابهها من الفنون المشهدية، في صراع نفوذ مع الحروب. هي الحروب التي دخلت في معارك معنا حين راحت تنافسنا على أدوات تعبيرنا... اليوم، ما عادت الحروب تجاهر بأسمائها كما كانت تفعل اخواتها من قبل. اليوم، تدور الحروب بين أفكار وقيم مقبلة من عصر بائد وبين تقنيات وأسلحة هي آخر ما ابتكرته الحداثة العلمية، شاهرة عناوين تجعلها تتماهى مع الحكاية وتنافسها مكانتها في ذاكرة الناس: "مقاتلو الحرية"، "عاصفة الصحراء"، "حرية بلا حدود"، الخ. ولأنها تدّعي شكل الحكاية والرواية، ينبغي للحياة، ما ان ينتهي العرض في الشاشة الصغيرة، أن تعود الى طبيعتها ولنا نحن أن نعود الى الحياة. لكن، لا هي الحياة تعود الى طبيعتها ولا نحن نعود الى ما كنا عليه. حروب تجرى في المنطقة الفاصلة بين الواقع والوهم، فلا هي من ضروب الخيال طالما أنها واقعة فعلياً، ولا هي حقيقية إذ لا يظهر منها سوى ما تسمح برؤيته عين الكاميرات. حروب مروية كأنها تُرى من السماء، من عل، عن بعد، كأنها خاضعة لقوانين عرض مسرحي لا يختلط فيه الممثلون بالمشاهدين، أو على شاشة تقف حاجزاً بين أرض الصالة وفضاء الوهم. موتى وجرحى يفخترون بأرقام، مدن تدمّر كأنها ألعاب فيديو، أطراف صراع يتحولون الى ممثلين يتحركون في مساحة هائلة من الالتباس، فلا هم أشخاص حقيقيون ولا هم شخصيات روائية... هذه حروب من طبيعتها القتل المزدوج: قتل الواقع وقتل الخيال معاً. مشهديتها لا تجيء من قلبها. مشهديتها متأتية من شكلها ومن تقنيات تصويرها، لا من جوهر قضاياها أو صانعيها. من تراث المحارب القديم لم يبق سوى صورة مسطحة لا عمق لها ولا بعد. من حقول الموت والضحايا والجرحى، لم يبق سوى آثار دمار محفوظة في صندوق فرجة زجاجي. صور لا تثير المخيلة، لا تقلقها ولا تحفزها ولا تغنيها، بقدر ما تتسبب بإفقارها وتصحيرها. مشهدية ربما لصدمة قد لا تخلو من تشويق، لكنه التشويق المروّع خالٍ من أي معنى. تراجيديا حاضر يرتع فيه القرف والخواء. نسخة باهتة عن كوميديا إلهية تتساوى فيها منازل الجنة والنار!