مؤلف رواية "أركيولوجيا الصِفْر" L,Archeologi du Zero آلان نادو كان، إلى عهد قريب، مسؤولاً عن النشر الفرنسي في تونس. وله، فضلاً عن "أركيولوجيا الصفر"، رواية في عنوان "الصحراء الفيزيقية" Desert physique وفيها علماء آثار يبحثون عن مكتبات سومرية مفقودة منذ حقب طويلة، في أجواء مضطربة بتأثير الحرب. وصدر له في 1995 رواية "كتاب اللعنات Le Livre des maledictions"، وكما في "أركيولوجيا الصفر" تتخذ رواية "كتاب اللعنات" قناع التوثيق، على شكل مقتطفات توراتية أو نبذ من يوميات خاصة أو قصاصات من مقالات الصحف. وكما في روايتيه السابقتين هناك دائماً رحلة بحث، فإذا كانت "أركيولوجيا الصفر" بحثاً عن آثار المدرسة الفيتاغورية في الاسكندرية، و"الصحراء الفيزيقية" بحثاً عن مكتبات سومرية ضائعة في جوف الزمن، فإن "كتاب اللعنات"، بحث عن جواهر خارقة هي البقايا من لوح الوصايا. من الواضح أن المسائل الميتافيزيقية هي "لب عمل" آلان نادو وهي محط اهتمامه العميق، في "كتاب اللعنات" نبدو الرحلة عبر سانت كاترين ومعبد سيرابيت الخادم ثم القدس ومواقع النبطيين في الحجاز شأن رحلات "نادو" الروائية جميعاً، ليست رحلة في المكان فحسب، بل هي أساساًَ عدا أنها رحلة في التاريخ، رحلة نشدان وافتقاد ميتافيزيقي سعياً وراء حلول مستحيلة لأسئلة الأصول والمصائر. أما الترجمة العربية ل"أركيولوجيا الصفر" لأسمهان البطراوي وسيمون البستاني، وفيها جهد ملحوظ ومتميز بالإحكام وقوة أسْر العبارة. ما من جدوى أن أحكي "أحداث" رواية ما، أيا كانت، خصوصاً رواية مثل "عبدة الصفر" وفيها الأحداث ديكور خلفي، غني وحاشد بلا شك، ولكنه عندي مجرد ديكور للمسألة المحورية في الرواية، وهي أساساًَ ليست تاريخية فحسب، بل تعرض فلسفي لمشكلة ميتافيزيقية، هي على وجه التحديد والتبسيط معاً، مشكلة العدم والوجود أي الانطولوجيا. ليس في سرد "الأحداث" إذن قيمة نقدية، لأن مجرد تلخيص وتقرير وعرض "الحدوثة" يحرمها من روحها ومن أهم مقومات حياتها الفنية، ويحولها الى تمرين عقيم. على المعني بالرواية إذن أن يقرأها، يعني أن يعايشها بنفسه، ما من شيء يمكن أن يحل محل هذه الخبرة الحميمة والخلاقة لقارئ يشارك في أن يعطي النص جسماً وروحاً،س وأن يجعل دماء الحياة تسري فيه، أي أن "يخلق" النص حقاً من جديد، ولعل هذا الخلق يكون جديداً في كل مرة يقرأه فيها، بل لعله يكون جديداً بمعنى آخر، هو جدته بالنسبة لكاتبه أيضاً. إن هذا التواطؤ بين القارئ والكاتب هو وحده الذي يكسب النص قيمة ويستخرج منه مكامن كامنة، على نحو ما. ولكن فلنقل مع ذلك إن هذه الرواية هي سيرة "الفيثاغورية"، نظرية وممارسة، بدءاً من ابتعاث سيرة حياة أو بيوجرافيا مؤسسها فيثاغوروس، إذ تعتمد الرواية على المعطيات التاريخية النادرة الموثوق بها إلى حد معقول عن هذه الشخصية التي داخلتها الأساطير والخيالات، بما في ذلك خيالات آلان نادو التي يغطي بها فجوات تاريخية لا غطاء لها إلا بتوهمها توهماً يتسق مع المقدمات المسلم بها تاريخياً. تتتبع الرواية إذن هذه السيرة، على مدى حوالى ألف عام، تستخدم التاريخ والخيال معاًَ لتطرح علينا ما أظن أنه وحده يعني المؤلف أو يؤرقه، أعني المسألة الفلسفية الميتافيزيقية التي لا حل لها، بل التي أتصور أنه لا يمكن أن يكون لها حل: مسألة العدم. وهي مسألة لا تفتأ تظهر بل تحتمل الصدارة في هذا العمل الروائي. وبداية فإن العدم المطلق - وهو أحد الطروحات بل أبرزها في الرواية - لا يمكن تصوره بالضرورة. واضحٌ أن العدم - وفي الرواية هو "الصفر" أو الفراغ - الذي تترجمه الرواية بالخلاء، بالمصطلح الفلسفي الذي يقابل أو يضاد "الملأ". هذا العدم إذن هو الفراغ، أي أنه، تجسيد آخر لما لا يمكن تجسده، هو الشر المطلق أيضاً، ذلك أن انعدام الوجود غير قابل للتصور أو للفهم، بل المتصور هو غياب الوجود، أي أن المتصور هو وجه آخر من وجوه الوجود، ولكنه يقع خارج تعددية مظاهر الوجود، ليس هو مجرد الواحد - لأن الواحد يمكن أن ينكسر إلى تعددية من الأجزاء، ولكنه خارج سياق مظاهر الوجود كلها، فكأنه الوجه الآخر - ولعله الضروري - لمطلق الوجود. مطلق غياب الوجود إذن بلا أي وصف، ولا أي تحديد، أي أن هذا المطلق - في وجهيه اللذين يبدوان لا انفصام لهما - هو التصور السائد لميتافيزيقا الألوهة. هذه المسألة تمر بها الرواية مرة بعد مرة، من دون حل، في عرض متصل لأفكار المدرسة الفيثاغورية، وما انشق عنها وظل مع ذلك وثيق الصلة بها، وهم الذين تخيلهم المؤلف وسماهم "عبدة الصفر" وسار مع تصوراتهم حتى شفا الإلحاد والعدمية وسقوط الخلقية، ولا مفر بطبيعة الحال من ارتباط مسألة الوجود بمسألة القيم أي ارتباط الأنطولوجيا بالاكسيمولوجيا، وإن كانت المسألة هنا مطروحة تحت قناع شفيف هو قناع نظرية الأعداد الفيثاغورية. تعريف "الصفر - العدم" من الشواغل الرئيسية في هذه الرواية. ولكي أعطي شيئاً من مذاق المزاج الفلسفي الأساسي للرواية أورد نصين أو ثلاثة فقط في نطاق تعريف أو تصور الصفر: ففي تمثل لهبوط الوحي على فيثاغوروس بما يكاد يقارب اكتشاف الصفر ولكن لا يقارفه بالفعل نجد هذا النص الذي يلخص نظرية الأعداد الفيثاغورية: "... أشرق عليه نور الوحي فأيقن أن كثرة الأعداد ليست دليلاً على تعدد الآلهة، بل إن في إحكام نظامها ذاته ما يوحي بوجود مبدأ واحد هو صورة واحدة، لا شريك لها، فالأعداد لا تنتشر في الخلاء انتشاراً فوضوياً لا ضابط له بل هي تتوق جميعاً الى الالتقاء في محل مركزي ربما كان هو ذاته عصياً على الإدراك. ففي المنطق الداخلي للأعداد التسعة الأولى التي تحتوي "بالقوة" سائر الأعداد، ما يدعو الى الاعتقاد بوجود قوة فاعلة تشدها جميعاً إلى "الواحد الأوحد" وتسعى الى ردها الى عدد مطلق يتضمنها كافة، أو ليست الأعداد بمنطقها الداخلي هذا، دليلاً على كمال النظام الإلهي وتمامه وفيها تتجلى آياته وتكمن رمزيته المطلقة" ص 51 من الترجمة. لكن هذا الطرح يؤدي بالضرورة الى السؤال: هل القوة التي تشد الأعداد جميعاً التسعة واللانهائية الى "موقع مركزي" هو الواحد أم الصفر؟ هذا الكمال المفترض في نظام متسق بديع الوجود ألا يعني أيضاً غياب كل كمال وكل نظام؟ وهو ما يفطن إليه النص الروائي الفلسفي - بل ما يضمره طوال الوقت في الواقع ويفسر عنه في هذا التصور الذي يأتينا في صفحة 67 من النص المترجم: "... إن المضي بهذا النسق الى غاياته يؤدي الى خرق الحجاب الخفي للماهيات، والسقوط فجأة في الجانب الآخر والنفاذ إلى سطح مظلم، إلى "لا مكان" ليس فيه للأعداد سلطان... عدد لا مقدر له ولا حقيقة... عدد لا يحتاج إدراكه الى عملية العد لأنه هو بعينه النفي الضمني والنهائي لجميع الأعداد الأخرى، هو إلغاؤها البديهي الذي لا يمكن إنكاره، هو على أية حال كائن ملعون رأى المعلم ضرورة ملحة في اتقاء شره". أو ما نجده قبل ذلك في صفحة 58، وهنا نجد أكمل مقاربة لمفهوم الصفر: "... لا شيء هنا قادر على التعبير عن اللا شيء، وكل التصورات والتجريدات الإنسانية تظل عاجزة عن وصف فقدان الواقع ونفي الوجود، فما من كلمة ولا من رمز رياضي يوحي ولو بأدنى إيماءة ويعطي أقل فكرة عما هو، تعريفاً، مستعصياً على التعريف غير قابل للإدراك، عن هذا الالتهام الدائب للمكان والزمان. هذا الفراغ في ذاته الباقي إلى الأبد بعيداً عن الأفهام والقياسات والمقادير وإن كان يضم في جوفه كالقضاء المبرم كل عوامل الإبادة والفناء...". ومن ثم فإننا نجد تبريراً فلسفياً أو انطولوجياً لمفهوم أخلاقي أساساً هو مفهوم الزهد الفيثاغوري والنظام الأخلاقي كله للفيثاغورية من بساطة في الحياة والسلوك بما في ذلك "ارتداء زي موحد هو البياض، والسير حفاة دون نعال والدعوة الى العفة وتطهير النفس"، هذا التبرير هو مقاومة الشر "والشر هو العماء والخلاء أي هو الصفر". ومقاومة الموت الذي هو أيضاً من صور الصفر، إذ أن "الوعي باللاشيء يدفع الى الارتياب في جميع النظم".. ولذلك كان على فيثاغوروس أن "يقاوم بأي ثمن هذه العملية المدمرة وأن يواجها بمزاولة الزهد الدمار الإنساني الذي تولده اللذة وأن يعزز عند تلاميذه قوة الفضيلة حتى يسعهم أن يكافحوا القوى الطاردة، قوى الموت والتشتيت" ص 65. فالأخلاق إذن عند فيثاغوروس ليست على المستوى الروحي إلا صورة مطابقة للقوى الخارجية التي تسيرها الأعداد تسييراً قويماً. بتحقيق التوازن والتوفيق بين الأضداد، وذلك لرد ودحض ذلك العماء الأصلي الذي هو الشر ذاته والصورة الأولى للعالم" ص 66. ومن ثم كان من الطبيعي أن عبدة الصفر في نهاية المطاف راحوا يصبون جام غضبهم، و"كانوا في جنح الظلام يتجمعون في عصابات تذرع طرقات المدينةالاسكندرية سلباً ونهباً" يشعلون النار ويراقون الدماء ويقامون في وسطها احتفالات مذهلة يذبحون فيها الاطفال ويدنسون الآلهة. واصطنعوا في أغوار المدافن احتفالات وطقوساً لا تعرف حدوداً للفسق والجريمة" ص 142. ولا غرابة إذن فإن انهيار النظام الانطولوجي القائم على وجود الإله لا بد أن يؤدي الى انهيار النظام الأخلاقي أو القيمي الاكسيومولوجي. بل إن بعض الفرق الفيثاغورية - بعد اكتشاف الصفر والوعي بمواجهة العدم - رحلت إلى سورة من الجنون الانتحاري، والى مشاهد من الانتحار الجماعي أدت بقوم الى وأد أنفسهم أحياء بين أقبية المدافن وجدران المقابر. أما غيرهم فقد آثروا الإنغماس في جميع أشكال الفسق وتخاليط المجون" ص 139. يثار سؤال في كثير من الاحيان، خصوصاً عند النقاد أو الدارسين الذين قد نسميهم محافظين أو تقليديين أو اكاديميين بالمعنى المغلق لهذه الكلمة: ما صلة هذا التفلسف كله بفن الرواية؟ وهل هذه رواية، أصلاً؟ كأنما "الرواية" لها أيضاً مطلق مثالي متصور قائم في عالم هو بعالم المثل الأفلاطونية أشبه، أو كأن "للرواية" مواصفات جاهزة مسبقة مقننة في لوح محفوظ. هذا سؤال قاصر أو جاهل أو غبي، لأن الرواية جنس مطواع مرن قابل للتشكل والتجدد إلى ما لا نهاية تقريباً. هناك الرواية التوثيقية، ورواية مقاربة السيرة الذاتية أو السيرة - كما في رواية بارنز "ببغاء فلوبير" مثلاً وغيرها، ورواية استلهام الاسطورة أو الحكاية الشعبية، وهناك رواية شعرية خالصة، وهناك رواية فلسفية. ذلك أيضاً ينطبق على كل الأنواع الأدبية الأخرى من قصة قصيرة أو شعر أو مسرح كما ينطبق على الفنون غير القولية، في هذا العصر الذي أصبحت الكتابة فيه - بل الفنون جميعاً - عبر نوعية. وفي مجال الرواية وحدها يكفي ان أشير، مجرد إشارة، الى أمثلة واضحة وقوية الدلالة في هذا المجال من أعمال بورخيس وإيكو. ولا مجال إذن لمساءلة المشروعية الفنية لهذه الرواية بالذات، أو لغيرها، على أساس من تحديد وانغلاق نوعي، فلا مشروعية هنا إلا وفقاً للقيمة الفنية وحدها لا وفقاً للانصياع الى مواصفات قبلية مسبقة وجامدة. والقيمة الفنية لهذه الرواية في تقديري، عالية. أؤسس هذا التقدير على عناصر أو مقاومات عدة: أولاً: هناك تلك المقدرة على تطويع اللغة وتذليلها أو إسلاسها بحيث تتحدى أو تمتزج بمادة عصية ومتصور سلفاً أنها صعبة، أعني بطبيعة الحال مادة السؤال الفلسفي او الميتافيزيقي الذي يتخذ صيغة رياضية لا تتردد في أن تتبدى تجليات هندسية ومعادلات رياضية، ومع ذلك كله فهي معبرة وناصعة. ثانياً: وفي الأساس - نجد تقنيات التشويق والوصف وابتعاث المشاهد بكل حيويتها وعرامتها، وحسيتها، بتفاصيلها الدقيقة الصغيرة الموحية، بما في ذلك تفاصيل الروائح والطعوم والمذاقات. وديناميكية الحركة، خصوصاً في أول الرواية وفي آخرها، ففي البداية نجد وصفاً أو سرداً أو رواية مشوقة لرحلة فيثاغوروس من ساموس الى مصر، يضارع في قوته وإثارته أي مقابل له في روايات المغامرات والأسرار والرحلات، وكأنه فخ يُنصب بمكر حاذق للقارئ لاستدراجه الى لب العمل الفلسفي، وتتحرك الرواية في موجات صاعدة وهابطة من السرد والتشويق الحكائي الى التأمل والتفلسف، وترجح كفة الفلسفة شيئاً فشيئاً، حتى تعود الرواية مرة أخرى الى مشاهد حسية وحيّة - من قبيل الصعود أو النفاذ الى قلب الهرم الأكبر، والصعود او الهبوط الى العالم السفلي هاديس، على غرار الرحلة الأورفية المعروفة التي استلهمت الفيثاغورية منها عناصر معينة، ثم إحراق مكتبة الاسكندرية وبطش الجنود، والغوغاء في مقتل هيباثيا، ونعود بعد ذلك الى النظر الفلسفي "المجرد" حتى نصل في الموجة الأخيرة من الرواية الى مشهد النهاية بكل ما فيه من صراع وفرار ومحاولة لصد هجوم الغوغاء المسيحيين على آخر معاقل الوثنية وربما آخر معاقل العدمية وإنكار الألوهية كلياً، بما في تفاصيل هذا المشهد من مأسوية، وما يحمل من إثارة وخطف للأنفاس. ثالثاً: تتخذ الرواية تقنية "الوثائق" المتخيلة - على غرار توثيقات بورخيس الشهيرة - ولا تكاد صيغة هذه التقنية تختلف، فهي تبدأ بطرح تقديم كأنه توثيق أكاديمي وعلمي بحت، للوثيقة، ثم ينساب النص على نحو يكاد يكون تلقائياً وهو على أي حال غير ناتئ، وغير مفاجئ، إلى سرد روائي بحت تجتمع فيه "الحدوتة" والوصف وابتعاث المشاهد والمسامع وتنتهي "الوثيقة" المتخيلة أو المبنية على صلب تاريخ أو على نواة نظرية، في الغالب، بتأمل أو طرح للسؤال، أو خاتمة للمشهد أو تجل بلاغي. رابعاً: في العمل صياغة شفرية بين ظاهر الأحداث والأوصاف وكامن الدلالات، فنحن عندما نبدأ - مثلاً - بوصف ذلك القبو أو المقبرة الفسيحة التي سوف تنتهي فيها الرواية نجد ابتعاثاً للحطام والشظايا والبقايا، فلعلنا هنا نجد مقابلاً موضوعياً لدلالة التشظي والتشتت الذي ينتهي إليه البحث عن الاتساق والكمال في نظرية الأعداد. ليس ابتعاث الركام والفتات والتداعي والاضطراب مجرد وصف خارجي جاء عشوائياً لمجرد الوصف، بل هو يحمل في تصوري دلالة أعمق في عمل روائي يستهدف السعي الى "الاتساق المطلق" أو "الاندماج المطلق" لكي ينتهي بالعماء المطلق والفوضى المطلقة في عدمية الصفر، ومن الممكن تتبع هذه الصياغة بوجهيها الظاهري والكامن في مواضع كثيرة من الرواية. خامساً: أعود الى تقنية ابتعاث الديكور التاريخي، بتفاصيله الدقيقة من اسماء وأحداث والتزام بلغة تاريخية معينة، والخروج عن حرفية هذه اللغة في التعليقات الذكية التي تأتي في موضعها من دون أن يكون فيها نتوء أو اقتحام. إن بعض هذه المشاهد التاريخية تذكرني أحياناً باللوحات التشكيلية الضخمة للمدرسة الفلمنكية بكل ما فيها من دقائق الحياة اليومية، وما يتخايل فيها ايضاً من ايحاءات "ما وراء واقعية" أو "ميتاواقعية" أو أسطورية مثل مشهد الهبوط الى العالم السفلي او مشهد الدخول الى الهرم. هنا إذن تجاور بل تناسق بين مقومات روائية عدة منها الواقعي بمعنى الظاهري المجسم ومنها الميتاواقعي، منها التاريخي ومنها الفلسفي، منها الرياضي ومنها المتخيل. وأخيراً فإن الأساس التاريخي والفلسفي للرواية صحيح ودقيق بشكل عام، ولكن "الوثائق" الخمس والعشرين التي تتألف منها الرواية ليست إلا من عمل الروائي نفسه - وإن كان اعترف لنا في ندوة عامة أن وثيقة واحدة فقط لها اصل تاريخي موثق. وذلك يؤكد براعة المؤلف في تخليق لغة ومادة متنوعة تعتمد على معطيات تاريخية وتوهم بدقتها مع ذلك، وان كانت متخيلة اساساً. *** وهناكملاحظة أو اثنتان: استغربُ قليلاً أن يلجأ المؤلف الى الديانة اليهودية لكي يجعل منها مصدراً أو إلهاماً لفيثاغوروس لمبدأ التوحيد، فيما أتصور أنه كان في اثناء اقامته الطويلة في مصر على تماس مع التوحيد الاخناتوني الذي هو عند كثير من المؤلفين اصل من أصول التوحيد التوراتي. والثانية أن النهاية الدرامية المؤثرة للفيثاغورية في الاسكندرية المسيحية لم تكن في الواقع التاريخية نهاية للفيثاغورية، إذ نجد ان إخوان الصفا وفرقاً صوفية أخرى استلهمت الفيثاغورية بل اتبعت بعض مناهج سلوكها وادائها. تقوم الرواية على أساس سعي الى إدراك مفهوم الصفر أو العدم، وهو كما اسلفتُ سعي محكوم عليه باستحالة الوصول الى غاية، وليس ما تتناوله الرواية من مقتل عالم الرياضيات العربي عبدالعال العشّار - وهو شخصية روائية وليست تاريخية - إلا مصداقاً للفزع الذي استبد بالفيثاغوريين المتأخرين إزاء الوعي بأهوال العدمية الكامنة في مقاربة مفهوم الصفر. لم يُقتل العشار في هذا السياق الروائي لأنه نذير أو رمز للفتح العربي الإسلامي القادم بل لأنه حمل الى الفيثاغوريين مفهوم الصفر، ولم يكن في مقدورهم احتمال صدمة هذا الكشف الذي أدى في النهاية الى تحلل وانهيار "الجماعات" الفيثاغورية المتأخرة وإن لم يقض تماماً على آثار النظرية والممارسات الفيثاغورية القديمة. ولذلك استغرب أيضاً ان المؤلف اغفل - ولو في حدود إشارة موجزة - التشابه إلى حد التطابق بين أوصاف أو تعريفات الأعداد في النظرية الفيثاغورية من ناحية، وأوصاف أو تعريفات الحروف عند الصوفيين العرب من أمثال ابن عربي وغيره، فلو راجعنا، تعريفات أعداد الواحد والاثنين والثلاثة إلى آخره وتعريفات حروف الألف والباء والجيم وهكذا عند ابن عربي، لوجدنا ما يكاد يكون تطابقاً في إرجاع هذين النظامين: الأعداد والحروف الى المرجع الإلهي والكوني مما يوحي - وهو ما يحتاج الى توثيق وتأصيل - بأن "روح الفيثاغورية لم تمت أو لم تخبُ بانتهاء تجليها الهيلستي في الاسكندرية، بل ظلت شعلتها متقدة عند العرب، وبعض اشعاعاتها مازالت متوهجة في كتابات وأشعار معاصرة وحداثية. * كاتب وروائي مصري.