ما بين ناطحات السحاب في مانهاتن ومدن الصقيع في كابول وكهوف قندهار ومغاورها، صراع رمزي بين الفضاء والتراب وبين من يحتمي بالأرض وآخر "يملك" عنان السماء. وهنا في تونس، لا شيء تغير تقريباً، سوى ذلك الحشد غير المسبوق من كبار المسؤولين الأوروبيين الذين زاروها في أقل من شهر، من اسبان الى ايطاليين بل حتى الأخوة الأعداء الفرنسيين الذين جاءوا محملين بأجمل مشاريع الشراكة ووعود بالقروض والهبات وتخوف حقيقي غير معلن من بن لادن الضفة الجنوبية للمتوسط. عاد التوانسة الى كتب التراث، وستجد أكثر الناس ابتهاجاً باعة الدشات و"البربولات". وربما أنقذ السيد بن لادن الدينار التونسي من خفض حتمي في قيمته عبر هبوط سعر الدولار. الخطوط الجوية التونسية في صحة جيدة بل اشترت هذه الأيام طائرة جديدة ايرباص أ - 30 - 600، أضافت على كل تذكرة اضافة قدرها 2.500 دينار، ربما يرمز الى المساهمة الشعبية في مكافحة الارهاب وتعزيز السلامة والأمن. وحدها أمطار الخريف غابت عن المشهد العام أو جاءت بمقادير شحيحة. وقالت مصادر في وزارة السياحة إن الموسم السياحي التونسي حقق نتائج جيدة بتجاوز عتبة ال5 ملايين سائح و2 بليون دولار من الايرادات. وإذ ألغت مجموعات تقدر ب5 آلاف سائح من سياح المؤتمرات حجوزاتها فإن ذلك لن يؤثر في التوازن المالي ولا في سمعة تونس كوجهة سياحية عريقة. مع ذلك فإن أهالي الجنوب لن ينسوا للسيد بن لادن توقيت هجماته على الأهداف الأميركية والذي تزامن مع بداية موسمهم السياحي الصحراوي. تنقسم تونس جغرافياً وتنموياً الى مناطق واقاليم ثلاثة: مدن الساحل الشمالية حيث السلطة والمال والأعمال وسياحة البحر والشمس الدافئة، والحزام الصحراوي الممتد من قابس شمالاً الى رجيم معتوق غرباً الى برج الخضراء في أقصى الجنوب. والشطر المنسي في الشمال الغربي حيث اجتمعت عواملا الجغرافيا والتاريخ وأمزجة الساسة على تهميشه. ربما بدا تقديم مدينة مطماطة "البربرية" طويلاً نوعاً ما، لكن رمال الصحراء التونسية الممتدة والمتحركة تدفعك الى الحذر والحيطة، فمع ان شهر تشرين الأول أكتوبر أكثرها اعتدالاً إلاّ أن شمسها الحارقة وعوائد أهاليها تدفعك الى المشي خطوة خطوة والأفضل ان تنتعل "سندالاً" وتلبس الخفيف من اللباس والأفضل منها ما كان لونه يميل الى البياض وتضع نظارتين شمسيتين خضراوين ولا تنسى أبداً القبعة التقليدية من سعف النخيل. على بعد 40 كلم من البحر، وجنوب عاصمة الرمان قابس، وعلى ارتفاع 400 متر حيث الهواء النقي والجاف، انغرست "مدينة" مطماطة غير المرئية في مشهد فريد من نوعه في كل مدن العالم وقراه. فلن تجد المنازل المتعارف عليها ولا عمارات شاهقة بل قرى متكاملة في باطن الأرض تبدو كالفضاء الممتد الذي تتخلله حفر كبيرة وعميقة، في كل حفرة منزل متكامل مدخله الوحيد نفق دوار يصعب على الغريب معرفة مسلكه، ووسط الحفرة ساحة فسيحة تفتح على غرف الجلوس والنوم والطعام، ويمكن ان يكون هذا المنزل بطابقين ولكن من دون مصاعد بل عبر حبال متماسكة وخشنة يمكن التواصل بينها. لا حاجة للسكان هنا الى ثلاجات ومبردات. فهذه المنازل التحتية حرارتها محببة صيفاً ومعقولة في شتاء الصحراء القارس، وتمثل مخزناً طبيعياً وجيداً للمؤونة ومحاصيل التمور والزيت والتوابل. حول الزراعة تتمحور انشغالات رجالها صباحاً. أما المساء فللعبة "الخسربكة" أو النرد بالحصى وأمسيات الشعر الشعبي... أما شبابها فهوايتهم المفضلة اصطياد الأفاعي واستخراج "زهرات الرمل Rose de sable" وبيعها للسياح أو الى مؤسسات أوروبية عبر شبكة الانترنت في المدينة القريبة أو هاتف مركز الحرس الذي يتجاوز دوره الأمني ليربط سكان القرية بالعالم من حمل أخبار البعيد والمريض وصفقات زهور الرمل. والنساء في مطماطة لم يتخلين عن زينتهن، ب"الملية العربية" ووشاح الرأس الأبيض، حليهن البربري المرصع بالفضة ورمزه "الخمسة"... وبعد حفظ نصيب من القرآن يبدأن مشوارهن اليومي الذي سيصاحبهن مدى الحياة عبر حياكة الصوف وغزل "المرقوم" وهو نوع من السجاد و"خياطة" البرنص والبغنوق اللباس المحبب لرجالهن. وبين ذلك وذاك لا ينسين أبداً رسم أجمل الصور عبر الوشم في جباههن أو معاصمهن كتقليد بربري عريق لم ينزعه دخولهن الى الإسلام. هنا في مطماطة صور ستيفن سبيلبرغ أجزاء مهمة من فيلم حرب النجوم ومغامرات بارين، وعاشت القرية أياماً غير عادية مع المئات من الممثلين والمخرجين والشبان والشابات في فيلم "المجنون الانكليزي"، وقد وفرت هذه الأفلام ايرادات مهمة لسكانها وعملة أجنبية جيدة للخزينة التونسية، والأهم من ذلك أبرزت للعالم مدينة فريدة في جوف الأرض عريقة في تاريخها الممتد من سكانها الأصليين البربر الى اضافة العرب والمسلمين. لن يحزن سكان مطماطة لغياب سبيلبرغ، فلن يشربوا من النهر مرتين، ولكنهم لن ينسوا بسرعة يوم 11 أيلول الذي زلزل أبراج السماء وأرزاق ما تحت الأرض.