بين اعلان الرئيس الاميركي جورج بوش امكان وقف الحرب في حال تسليم طالبان المتهم اسامة بن لادن ورؤوس شبكاته، ودعوة مفوضة حقوق الانسان ماري روبنسون الى تعليق الهجمات العسكرية وحماية المدنيين، بدا للحظة ان هناك اتجاهاً لاعطاء فرصة جديدة للعقل، إلا ان التاريخ يتشكل بين مرحلة واخرى من ركام الفرص الضائعة. وعلى رغم ان اعلان بوش لا يخرج عن نطاق حشر طالبان في مربع الرفض، وان مبادرة روبنسون ذات اهداف انسانية، فالثابت ان الحرب لم تبدأ لتنتهي في ايام، وان اهدافها القريبة والبعيدة ذات علاقة بما تريده الولاياتالمتحدة من سيطرة كاملة على المواقع والقرارات. وربما زاد في تعقيد الموقف ان حربها الراهنة تدور على جبهات عدة، فقد سعت في حروب سابقة ان "تخلص"الانسانية من شرور الشيوعية ومخاطر غزو اراضي الغير وتكريس مفهومها للشرعية الدولية، لكنها في الحرب الراهنة تقود تحالفاً داخلياً ضد الرعب وآخر ضد الارهاب. وهذه المرة الاولى التي يبدو فيها تحالفها الخارجي اقل مدعاة للزهو الداخلي، لا لأنها ضربت داخل تحصينها الاقتصادي والعسكري والسياسي فقط، ولكن لأن الزلزال النفسي كبر على مقاس الاحتواء، وستتكبد الادارة الاميركية مشاقاً عسيرة لجعل الرعايا الاميركيين يتفهمون لماذا كانت حياتهم الآمنة هدفاً لارهاب أعمى، ولماذا تزيد حدة الكراهية ازاء النماذج الاميركية في السياسة والعولمة والقوة العسكرية، فالتظاهرات ضد الحرب اكتسحت شوارع عدة نتيجة تأجج المشاعر، لكن لم يحدث ان انسحب الوضع نفسه على تظاهرات للتنديد بالارهاب، وهي حال فريدة في التعاطي انسانياً مع مخاطر القتل العشوائي المدان. في حروبها السابقة اختارت اميركا ان تنعت الأنظمة الخارجة عن الشرعية الدولية انها منبوذة او مارقة او معزولة في اقل وصف، وحشدت في غضون ذلك تأييداً متزايداً - لا يهم ان كان صادراً عن اقتناع او ضعف او حسابات - إلا أن التأييد الراهن لقرار محاربة الار هاب لم يخلص الرأي العام الاميركي من هاجس الخوف، وقد لاينفع القول ان مرض الجمرة الخبيثة او توقع هجمات ارهابية اخرى طريق لتحصين البيت الاميركي الذي طاولته شقوق الاختراق. لذلك فالأرجح ان زعيم البيت الابيض إذ يلوح بشروط وقف الحرب انما يسعى الى تطمين الرعايا الاميركيين، كونه يدرك مسبقاً ان حركة طالبان لن تستجيب طلبه، وان الحرب مهما بلغت حدتها وقذارتها يفترض ان يتقبلها الشعب الاميركي كحرب عادلة وليست نظيفة. على عكس التساؤلات السابقة عن بواعث مقتل الجنود الاميركيين في فيتنام، او عن دوافع حرب الخليج الثانية، قد تكون الحرب في افغانستان فرصة تخلص الاميركيين من حرج السؤال، سواء بمنطق الحرب دفاعاً عن النفس او بأنها ضد الارهاب. لكن الاساسي هو ان يطاول السؤال السياسات الاميركية في الخارج، كونها مصدر الكراهية والعنف القاتل. واذ يقال ان عالم ما بعد الحادي عشر من ايلول سبتمبر لن يكون هو نفسه بعد هذا التاريخ، فإن التغيير يفترض ان يبدأ داخلياً، لأن الزلزال ضرب القيم الاميركية في العمق. وفي حال الانشداد الى ان اسرائيل اصبحت عبئاً على الاميركيين، كونها خارج التحالف ومصدر القلق، فإن الحرب الاميركية ستكون هذه المرة مختلفة. والظاهر حتى الآن ان الاجماع الذي حققه الرئيس الاميركي على خلفية التفجيرات التي انست المجتمع الاميركي طريقة انتخاب رئيسه، يمكن ان يتحول الى قوة. فالخوف ليس نابعاً من غياب الامن فقط، ولكنه حصاد السياسة. وربما سرت اليوم معادلة جديدة قوامها ان السياسة قد تصبح نهاية الحرب، وليس ان الحرب نهاية السياسة.