لا جدال في ان ملف العراق اكثر الملفات سخونة على طاولة التطورات الجارية في العالم منذ تعرض نيويوركوواشنطن لعمليات ارهابية في الحادي عشر من ايلول سبتمبر الماضي. هذه الحقيقة لا تنفيها حقيقة اخرى مفادها ان الولاياتالمتحدة لا تريد تركيز اهتمامها في الوقت الحاضر على العراق، ربما لعدم رغبتها في توسيع دائرة الحرب ضد الارهاب في شكل عشوائي، او لأخذها في الحسبان التعقيدات التي تكتنف التحالف الدولي، خصوصاً في مربعه العربي والاسلامي. في هذا الاطار، يصح الترجيح ان بغداد هي بالفعل هدف مرشح لضربة عسكرية بعد كابول. كذلك يمكن القول ان هذه الضربة المتوقعة قد لا تأتي بسبب تورط عراقي لم تؤكده التحقيقات الاميركية حتى الآن في عمليات واشنطنونيويورك، انما لاسباب اخرى اهمها امتلاك بغداد قدرات كيماوية وبيولوجية مخيفة، خصوصاً في ظل تفاقم المخاوف لدى الدول الغربية من تسرّب بعض هذه القدرات الى شبكات الإرهاب العالمي. مع هذا كله، يظل السؤال الرئيسي مرتبطاً، في الاوضاع الراهنة، بحجم خسائر العراق وارباحه من الارهاب الذي استهدف واشنطنونيويورك. وما يزيد اهمية سؤال كهذا ان طبيعة تلك الخسائر والارباح سيكون لها تأثير كبير في تحديد وقت الضربة المقبلة ضد العراق وطبيعتها وسرعتها. في البداية، لا بد من التنويه بأن العراق كان يمكنه جني ارباح كبيرة، خصوصاً بعد تشديد مسؤولين اميركيين بارزين، هما نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الخارجية كولن باول، على عدم وجود صلة واضحة بين العراق وعمليات 11 ايلول الارهابية. في ما بعد، سارعت الدول العربية الى دعوة الولاياتالمتحدة الى عدم زجّ اسم العراق في ما جرى من احداث. كذلك لوّحت تلك الدول بربط مشاركتها في التحالف الدولي المناوئ للارهاب بعدم توجيه ضربات عسكرية الى العراق. وكان هذا كله ارباحاً محسوبة لصالح العراق. لكن القيادة العراقية المعروفة بهوايتها اضاعة الفرص، سرعان ما قفزت على الفرص المتوافرة، مندفعة الى توجيه رسائل تشفٍ الى الشعب الاميركي، واصرار غير مبرر على عدم مواساة الاميركيين بمصابهم الاليم، وتجنب ادانة الارهاب. والأدهى انها عادت الى مقولتها العبثية من ان الولاياتالمتحدة في طريقها الى الانهيار من الداخل. وكان الرئيس العراقي اشار عند استقباله مسؤولاً كوبياً زار بغدا قبل اشهر، الى ان اميركا ستسقط في شكل مفاجئ وهي واقفة في عزّ قوتها! هكذا رأت القيادة العراقية ان نبوءتها تحققت ولم تعد هناك من حاجة الى التصالح مع دولة سائرة نحو زوالها! فكان طبيعياً، والحال هكذا، ان يتحول الربح المنتظر الى ربح مجهري صغير، بينما الخسائر اخذت تتراكم في شكل ينبئ بمستقبل مظلم مخيف قد يتجاوز مسألة تشديد العقوبات الدولية ضد العراق الى شموله بضربة عسكرية تهدف الى ازالة نظام حكمه الراهن. في هذا الاطار، يمكننا اجمال الخسائر التي اصابت العراق في اطار عمليات نيويوركوواشنطن على الشكل التالي: - خسر العراق، اميركياً، لجهة ان الولاياتالمتحدة التي كانت تعاني من انفضاض لافت لدول التحالف الدولي من حولها، سرعان ما تحولت بعد الضربة الى مركز جذب هائل نجح في بناء تحالف دولي اوسع من تحالفها الدولي السابق لتحرير الكويت في 1991. والواضح ان واشنطن كانت دخلت منذ الولاية الثانية للرئيس السابق بيل كلينتون مرحلة السياسات الدفاعية في كثير من الميادين وبينها الميدان العراقي. ثم ما لبثت ان تحولت هذه الدفاعية الى سياسة تراجعية لافتة في الاشهر الاولى من عهد الرئيس الجديد جورج دبليو بوش. وكان اخفاق واشنطن في تمرير نظام العقوبات الذكية في مجلس الامن اشارة واضحة الى عمق التراجع الحاصل في سياستها. بل ان كثيراً من المراقبين والمعنيين، بمن فيهم بعض الساسة والمحللين الاميركيين، جزموا بأن العراق وحملته الدعائية والعقوبات المفروضة علىه كانت بمثابة عامل ضغط اساسي في دفع السياسات الاميركية الى التراجع على اصعدة عدة. لكن احداث نيويوركوواشنطن الاخيرة قلبت الطاولة رأساً على عقب، اذ وفّرت للولايات المتحدة قدرة فائقة على تحويل اتجاهات سياساتها من حال التراجع والدفاع الى حال الهجوم والتهديد بالحرب. - خسر العراق اوروبياً. فبغداد التي نجحت في استمالة كثير من الدول والاوساط والمنظمات الاوروبية للتعاطف مع مآسيها في ظل العقوبات، وجدت على حين غرة ان دماء واشنطنونيويورك سرقت بريق الاهتمام الاوروبي بمآسيها ودمائها. والأنكى ان الشروخ التي كانت اصابت علاقات دول اوروبية كفرنسا مع الولاياتالمتحدة، سرعان ما عادت الى الالتئام في ظل المخاوف المشتركة من اتساع نطاق العنف على المستوى العالمي. - كذلك خسر العراقروسياً. فموسكو التي حرصت في فترة ما قبل احداث 11 ايلول الماضي على ابقاء مسافة واضحة بينها وبين واشنطن في مجالات سياسية وعسكرية واقتصادية عدة، ادخلت تحولاً عميقاً على طبيعة علاقاتها التحالفية مع واشنطن. هنا يصحّ القول ان مصالح محددة دفعت بروسيا الى هذا الموقف الجديد، بينها المشكلة الشيشانية ومخاطر حركة "طالبان" على حلفائها في آسيا الوسطى والمطامح الاقتصادية ورغبتها في تخفيف الاندفاع الاميركي على صعيد مشروع الدرع المضاد للصواريخ الباليستية. - الى ذلك خسر العراق اقليمياً. فتركيا التي كانت تحتدم، في برلمانها وأروقتها السياسية، مناقشات باتجاه عدم التجديد للقوات الاميركية والبريطانية باستخدام قاعدة انجيرليك الجوية، اصبحت الآن تستقبل برحابة صدر قوات وطائرات اميركية اضافية. اما ايران التي حرصت على ابداء درجة ملحوظة من الهدوء والتروي في تعاملها مع الجهود الدولية لمحاربة الارهاب، فأصبحت تتطلع بحرارة وحماس منقطع النظير الى انتقال رأس الرمح العسكري الدولي في اتجاه تدمير قواعد منظمة مجاهدين خلق الايرانية في العراق. وواشنطن لا تني تقلّل من اهمية وجود اسم ايران على لائحتها للارهاب، لكنها تشدد في الوقت نفسه على ارهابية منظمة مجاهدين خلق الايرانية. ان الضربة ضد العراق آتية عاجلاً ام آجلاً. والارجح ان مسبّباتها لا تقتصر على عوامل مرتبطة بالارهاب الذي استهدف نيويوركوواشنطن، انما تشمل عوامل اخرى في مقدمها القدرات العراقية المعروفة في ميدان تصنيع الاسلحة الكيماوية والبيولوجية. وهذه الاسلحة، كما اشار اكثر من مسؤول اميركي واوروبي، قد تشكّل اسلحة الارهاب في مستقبل غير بعيد. واذا كانت اسلحة الدمار الشامل العامل الرئيسي، فإن ايجاد مبررات للضربة ليس صعباً، بل ان ايجاد مبررات لإزاحة النظام لن يكون صعباً. فالعراق، بحسب اتهامات كثيرة، يؤوي عدداً من المتورطين في شبكات تابعة لأسامة بن لادن وكذلك منظمات ارهابية اخرى كمنظمة مجاهدين الايرانية وقتلة عدد من موظفي الاممالمتحدة. كما انه مسؤول، بحسب اعترافات معتقلين موجودين في الكويت، عن محاولة فاشلة لاغتيال الرئيس الاميركي جورج بوش في الكويت، وقتل عدد من الفلسطينيين في باريس ولندن وباكستان بينهم سعيد حمامي وعزالدين قلق، وعن ايواء منظمة ابو نضال، وعن زرع القنابل والمتفجرات في الاماكن العامة في المدن الكردية، بالاضافة الى ما يمكن اعتباره ارهاب دولة: غزو الكويت ومذبحة حلبجة الكيماوية وحرب الانفال.