يعتقد البعض ان ظاهرة الارهاب آخذة في التبلور الى صور أكثر تدميراً للمقومات الحضارية والانسانية والمادية، استناداً الى دراسات وأبحاث نشرت قبل الحادي عشر من أيلول سبتمبر بشهور عدة، محذرة من أن العالم قد يشهد ازدياداً مريعاً للأعمال الارهابية، لا سيما أن معطيات الراهن من جريمة منظمة وتوظيف التكنولوجيا ونقل المعلومة أسهمت - بلا أدنى شك - في وقوع تلك الحوادث وسهولة حدوثها. فالقيود انفك اسارها، والحواجز تحطمت، وكل ذلك بفعل العولمة ذات التغير والتحول. وان كان للعولمة من وجه جميل مشرق، فإن ذلك لمحة من وجهها القبيح الذي يصعب التحكم فيه أو تغييره. على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان محقاً في قوله ان العالم تغير بالتأكيد بعد 11 أيلول، لا سيما أنه ينطلق من أرضية معلوماتية عميقة حول الارهاب استقاها بطبيعة الحال من عمله الاستخباراتي السابق. وتبقى كارثة الثلثاء الأسود حدثاً مروعاً ومفجعاً، وتفضح نهاية الانسان وحقيقته في آن. انه السقوط الذي يكشف بعمق مأساة الانسان وصراعه مع أخيه الانسان. حال من البدائية والوضاعة في الانتقام أو لفت الأنظار، وارتماء عقيم في عالم تشاؤمي أسود، وتسربل بشخصية غارقة في أوحال الضياع حيث الانكفاء على الذات، ورفض الآخر. وسلوك الرفض هذا قديم في التاريخ البشري، فالذي يتقوقع وينغلق على ذاته خوفاً من الحاضر والمستقبل، انما يمارس سلوكاً واضحاً يتمثل في الرفض، وعلى رغم انه موقن ان عليه المواجهة أو محاولة التكيف والتعايش على أقل تقدير، إلا أن عقليته لا تتجاوب مع الجديد فكراً كان أم سلوكاً ولذا فإن الحل - بحسب تصوره - هو الانغلاق على الذات، والتلذذ بالحلم النوستالجي، فالنوستالجيا هي حال فكرية برفض الواقع الراهن، والتمسك بوضع أو بفترة محددة أو كما يصفها - تركي الحمد - بأنها توق غير سوي للماضي، أو الى استعادة وضع يتعذر استرداده. والملاحظ ان التيارات والاتجاهات تتساوى في طريقة رد الفعل، فالاسلاموي حينما يرفض الواقع، فإن النتيجة هي العنف وقتل الأبرياء حركة ابن لادن... الحال الجزائرية... لأنهم بذلك يرفضون الجديد، ويحنون الى الماضي المختزل في فترة هم يحددونها نظرة افلاطونية من دون الأخذ في الاعتبار واقع الحال من ظروف ومتغيرات. بيد أن هذا ينسحب على أي تيار أو ايديولوجيا معينة لا سيما إذا تطرفت في فكرتها الى درجة الاحتكار أنا... والبقية الى الجحيم وهذا يعني في ما يعني ان خطاب كل منهم يرنو الى الغاية ذاتها، وينزع الى الاتجاه نفسه، ويكرس طبيعة النهج ذا الرأي الاحادي - وفق تصور واقتناع ذاتي - بطبيعة الحال، ومن هنا نجد أنه على رغم اختلاف مضامين ومحتويات كل خطاب، الا ان الغاية هي واحدة والسلوك هو واحد: عدم القدرة على التكيف مع المتغيرات، والحل يكمن في الحنين الى الماضي النوستالوجيا. فالقوموي أو الماركسوي أو الاسلاموي... الخ كلها تنطلق من ارضية واحدة - وفق تصورها طبعاً - بمعنى أن معتنق هذه الايديولوجيا في مفهومها المتطرف، يرى انها هي الحقيقة المطلقة، ولا شيء غيرها، لأنه أي حامل الفكرة يرى فيها الحل الواحد، كونه يربطها بذلك الحلم النوستالجي، فيجعلها حكماً على التاريخ، لا جزءاً منه، مع انه - على سبيل المثال - الفترة الناصرية فكرة القومية العربية كانت جزءاً من التاريخ ضمن معطيات ومؤثرات في فترة معينة ومحددة، لكن القوموي وليس القومي هو من يرى تلك الايديولوجيا شعاراً يجب أن يطبق، رافضاً تحليل واقع الحال، ومتجاهلاً متغيرات العصر وظروفه ولذا فهو يتشدد في الدعوة الى تطبيقها، كما جاءت في الخطاب الناصري آنذاك كما يجب أن تكون، وليس مثلاً قومية حديثة شبيهة بالاتحاد الأوروبي مثلا لا يمكن أن تكون مراعياً في ذلك الظرف والمتغير، لذلك فهو وغيره لا يرى الا لوناً واحداً، وعلى ذلك قس. يقول الحمد في كتابه "السياسة بين الحلال والحرام" محللاً هذه الاشكالية الحال النوستالجية المهيمنة على الذهنية العربية، انها هي سيادة الكلمات من ناحية، وذاك "التسامي" الذي نمارسه حين نتعامل مع واقع الحال، فنعزل عنه ما يجب أن يكون منه، ونفرض عليه ما هو غير منتم اليه... ويبدو ان هذه طريقتنا للهرب من التعامل مع قضايانا الحية، فنعيش الحلم النوستالجي لنرتاح من عناء النقد الذاتي، ولو موقتاً. ولعل ما حدث في نيويورك وواشنطن، يمثل صورة من صور المثالية المسرفة في اختزال الماضي والعيش في أحلامها. لا ريب في أن ذلك أمر تعافه النفس ويرفضه العقل وتتنكر له الحضارات، فضلاً على أن لذلك ترسبات مناهضة لروح العصر. ان تسلط المرجعي، وتغذية الشفوي، يؤديان بلا شك الى فهم الدين فهماً سلبياً، مما يصيّر حتماً الى نفي صورته السمحاء الصادقة، وبالتالي تسقط الأحكام التي يأباها الذوق السليم والعقل الراجح. ليس العيب في الدين، بل العيب في اناس تزمتوا في رؤيتهم، وتعسفوا في الحكم على الآخرين، وانسلخوا من الارتكاز على منهج دقيق، بل نزعوا الى الجدلية الساذجة حيث القاعدة ان لم تكن معي، فأنت بالتأكيد ضدي، وسلوك كهذا، لا بد من أن يعزز الاساءة الى الاسلام والمسلمين، ويكرس مفاهيم الاعلام الغربي التي ألصقت ظاهرة الارهاب بكل ما هو اسلامي. على ان التوجه الدولي الراهن، وبعد الثلثاء الدامي تحديداً، ينزع الى ايجاد معاهدة دولية لمحاربة الارهاب، لا سيما أن الولاياتالمتحدة الأميركية تبنت حلفاً لمواجهة الارهاب من دون استشارة هيئة الأممالمتحدة على الأقل. ويبدو أن الحدث أدى الى حال من الهسيتريا والارتباك والتسرع لدى الأميركيين، فلا قيمة لمعاهدة ما لم تكن تحت غطاء الأممالمتحدة، لأنها تفقد بذلك شرعيتها الدولية. وربما الشيء الذي لا تعلمه الادارة الأميركية ان شعبها - عادة - ما يكون أول ضحايا سياستها، ومن يقرأ التاريخ ويمعن في أسراره، يصل الى حال من القناعة بأن ثمة أخطاء ارتكبها البيت الأبيض، ودفع ثمنها الشعب الأميركي البريء. فما هو التفسير المنطقي لسلوك الادارة الأميركية الجديدة في الغاء المعاهدات الدولية كيوتو، معاهدة الدرع المضادة للصواريخ، تجاهل ما يحدث على أرض فلسطين من مجازر ومذابح، فضلاً عن انسحابها من مؤتمر ديربان الشهير تضامناً مع اسرائيل. على ان المقام هنا، ليس لتبرير ما حدث يوم الثلثاء في الولاياتالمتحدة، فالجرم كان بشعاً ولا يمكن تبريره بأي منطق كان. ولكن الارتجالية وفرض الذات والتسرع أساليب مرفوضة في عالم اليوم، فمكافحة الارهاب تتم عبر تعاون دولي، وتحت مظلة الأممالمتحدة، حيث كانت هناك ارهاصات. فخلال اجتماع وزراء خارجية الدول الصناعية الثماني قبل عام من الآن طلبت كنداوروسيا من المجتمعين ضرورة عقد قمة خاصة للدول الصناعية الثماني، لدراسة هذه المسألة بهدف صوغ مسودة معاهدة دولية لمحاربة الارهاب في شتى أشكاله. وإذا كان الاتفاق العربي أغنى دول مجلس التعاون عن وضع اتفاقات مشابهة، فإن اجازته من جانب دول الجامعة العربية تشكل خطوة مهمة للضغط على الدول الغربية في تكثيف التنسيق والتعاون لمكافحة الارهاب في حال صدور معاهدة دولية، حيث لا يمكن تجاهل الاتفاق العربي وتحديداً مصطلح الجرائم الارهابية، والمادة الثانية منه التي جاءت لتميز بين الارهاب والكفاح الوطني المشروع ضد الاحتلال الأجنبي معتبرة ان الكفاح الوطني لا يعد جريمة كونه مشروعاً ويتوافق مع مبادئ القانون الدولي. على ان التوجه الدولي الراهن ينزع الى ايجاد معاهدة دولية لمحاربة الارهاب بعدما اتضح ان القرارات التي تبنتها قمة ليون عام 1996، كانت غير مجدية وهو ما يتطلب الآن التحرك والمبادرة للبحث عن الارهابيين والقبض عليهم قبل تنفيذ مخططاتهم، وليس وضع اجراءات أكثر ما توصف به انها ذات طابع دفاعي. غير أن الاشكالية في التصدي للارهاب الدولي تكمن في الخلاف بين الدول، فبعض الدول النامية يوجه اللوم الى الدول الأوروبية على أنها توفر "قواعد لوجستية" للارهاب، في حين ان الدول الغربية تلوم العديد من الدول النامية على توفيرها الملجأ للعديد من المنظمات التي تجمع التبرعات وتوظف المتطوعين لمصلحة المنظمات التي تتهمها بالارهاب. ولكن، تبقى النية جادة في تحقيق هذه الفكرة، والتي ما لبثت ان أصبحت واقعاً في بعض الدول، فقبل أشهر وقّعت 16 دولة آسيوية على معاهدة جديدة برعاية روسيا والصين، كما ان الاتحاد الأوروبي بات على وشك الانتهاء من وضع معاهدة مشابهة... وكل هذا يصب في تكريس التعاون الدولي لمكافحة الارهاب. ولأن المستقبل هو مستقبل العولمة وما يتطلبه من انفتاح وتحرير التجارة، فإن اصدار معاهدة دولية يوقع عليها جميع الأعضاء في الأممالمتحدة لتدرجها اثر ذلك ضمن قوانينها الوطنية بات ضرورياً، فليست هناك دولة محصنة ضد الارهاب. وعلى الولاياتالمتحدة الأميركية ان توقن ان التعاون الدولي هو المطلوب وهو العلاج الناجع لكبح ظاهرة الارهاب، كما ان الغطاء الشرعي الدولي مهم لترسيخ مثل هذه الأعمال وتكريسها، أما العمل الفردي الانفرادي لمجرد أنها الولاياتالمتحدة، وعدم الانصياع أو الارتهان للمعاهدات الدولية أو محاولة اصدار معاهدة دولية شاملة لمكافحة الارهاب تكون ملزمة لجميع الدول الاعضاء في منظمة الأممالمتحدة، فإنه يعني بكل تأكيد غطرسة. على أية حال، الايمان بأهمية الاعتراف بالخطأ التفرد بالرأي، الغطرسة يؤدي الى الاصلاح، أما تبريره فلا يقود الا الى استفحاله، لذا فإن العقلانية عقلنة السياسة أي فهم دورها ضمن الممكن والمعقول، هو الذي يحقق الغاية المنشودة. أما سياسة التمرد لأجل التفرد الذاتوية فإنها قد تنجح لحظياً، وفي المدى الطويل النتيجة هي الصراع ومن ثم السقوط وبالتالي الانهيار، وهي نهاية مأسوية لكنها طبيعية إذا حكمنا العقل. * كاتب وباحث سعودي - لندن.