نشاهد بين الحين والآخر، ما يحدث من مظاهرات ضد العولمة في أرجاء العالم من تضامن وتوحد بين الطبقة العمالية باختلاف تدرجها وتنوعها الثقافي والأيديولوجي في يوم العمال أو في وقت انعقاد الاجتماعات السنوية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهو ما يثير التساؤل حول مغزى تلك التوجهات والهدف منها. غير أن الملفت فعلا في تطابق مفاهيم الخطاب لدى هذه القوى المتعددة من (حزب الخضر، دعاة حقوق المرأة، اليساريين، اليمينيين، جمعيات الرفق بالحيوان.. وغيرها)، حيث نزعوا إلى المطالبة بحقوق تعد في نظرهم مشروعة، فالعدالة هي المطلب، ولا شيء غير العدالة. كانت ملامحهم تفضح (تطرف العولمة) وما سببته لهم ولمجتمعاتهم من معاناة، ناهيك عن تهميشهم وعدم الاكتراث لأحوالهم. هم باحثون عن الحق والحرية والقيم الإنسانية في ظل طغيان المعايير المادية والقيم الاستلابية التي تجرد المرء من إنسانيته وتضعه في أنياب الآلة الاقتصادية التي تحكم العالم. جاءت هذه المنظومة الاحتجاجية التي لا تلبث أن تظهر بين الفينة والأخرى ضد المفهوم العولمي وتحديداً في جانبه الاقتصادي، بدءا من اجتماعات منظمة التجارة العالمية منذ أعوام، ثم تواترت حلقاتها وازدادت تماسكاً في كل اجتماعات الثلاثي (البنك الدولي، صندق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية)، لتصبح بعد ذلك ملمحاً تحالفياً شعبياً، يظهر في أي بقعة على هذا الكوكب، طالما كان هناك شيء من رائحة العولمة أو لونها. إلا أن تطرفها يعني هنا إحراق الدول الفقيرة وتدمير البيئة وتضخم الفجوة الطبقية ما بين الأغنياء والفقراء، وتزايد البطالة ومحو الشخصية القُطرية وهويتها هذه المظاهرات، وتلك الحشود، لم تأت من العبث، أو بحثاً عن شهرة ومجد (رغبة نرجسية) أو تفريغ حالة نفسية تتمثل في العنف والصخب (رغبة دونية).. لكنها في الحقيقة هي سلوك، تتمثل في المحاولة، هذه المحاولة تبقى رغبة في نهاية المطاف، لكنها تختلف عن السابقات (الرغبات) في كونها مختلفة في (الغاية)، فالأخيرة تنزع إلى القيم السامية، أي أن رغبة هؤلاء المتظاهرين تكمن في طلب العدالة ومحو الظلم، كون مفرداتهم تناثرت من قواميس أخلاقية وإنسانية فما لبثوا أن نذروا أنفسهم للدفاع عنها. لم تكن تلك كومة من انفعالات واضطرابات بقدر ما كانت رسالة إلى الحكومات والمنظمات والسياسيين، تدعوهم إلى المحافظة على كوكب الأرض واحترام حقوق قاطنيه وإنقاذ الشعوب الفقيرة. هذه مبادئهم وقيمهم، فهي ليست أحلاماً أفلاطونية محالة التحقيق، وان انتمت إلى مفاهيم (المدينة الفاضلة)، بل هي آمال يمكن تحقيقها على أرض الواقع، وكأنهم يهمسون ما تفوه به رونار عندما قال (الأمل خروج تحت الشمس ورجوع تحت المطر)، أو لعلهم يرسخون ما قاله أرسطو ذات يوم عن الأمل بأنه هو (حلم في اليقظة). وكأني به يقول إن الفارق ما بين الحلم والأمل يكمن في (إمكانية الحدوث)، بمعنى أن الحلم هو أمل لكنه غير ممكن الحدوث بسبب (النوم)، في حين أن الأمل هو حلم يمكن تحقيقه بسبب (اليقظة). على أن الطرح الموضوعي لهذه الإشكالية، يرى أن ما يطالب به المتظاهرون يندرج تحت مفهوم الحق الإنساني، وبالتالي فهم يعلمون تمام اليقين انه لا يمكن إلغاء العولمة أو محو عالمها، بل هي باتت واقعاً معيشاً، إنما ما يدعون هم إليه يتمثل في خيار التعامل معها بطريقة تؤدي إلى التخفيف أو التقليل من سلبياتها وإفرازاتها ذات المردود النفعي لدول دون أخرى، ولذلك، فإن تقليل الفارق الطبقي ومساعدة الدول الفقيرة بإلغاء ديونها وتكريس مفهوم العدالة بمعناه الشامل يمكن أن يترجم فعلياً، إذا توفرت الإرادة الجادة لدعم المنظمات الدولية والدول ذات التأثير الدولي وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية. وهي على أي حال مطالب ورغبات دفعت بكثير من رؤساء الدول إلى المطالبة بإعادة النظر في المفاهيم، فالعولمة باتت مصطلحاً ونهجاً ذا تأثير على المسرح الإنساني في جوانبه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة إلا أن تطرفها يعني هنا إحراق الدول الفقيرة وتدمير البيئة وتضخم الفجوة الطبقية ما بين الأغنياء والفقراء، وتزايد البطالة ومحو الشخصية القُطرية وهويتها. ولعل اعتراضات المتظاهرين الإنسانية والأخلاقية والتي تتوق إلى العدل (النسبي)، يمكن الاستفادة منها للتقليل من تسارع العولمة، وذلك بأن يعيد المجتمع الدولي صياغاته ومفاهيمه من جديد، وان تكون النظرة إلى الأشياء محدثة آخذة في الاعتبار القيم والمبادئ والحاجات الإنسانية والأخلاقية. ولعل الغاية الإنسانية لهؤلاء المتظاهرين، ترمي إلى إيجاد سياسات اقتصادية جديدة تراعي الظروف الاقتصادية الداخلية وذلك بالضغط على الحكومات للقيام بذلك أو محاولة ذلك على اقل تقدير، لأنه من المعلوم أن العولمة (اقتصاد السوق) لم تلبث أن تتبوأ المرتبة الأولى في التأثير على الاقتصاديات الوطنية على سبيل المثال (إلغاء الدعم الحكومي أو الإعانات على بعض السلع) بمعنى أن ثمة تداخلا وتمازجا بين السياسات الاقتصادية التي تضعها الحكومات وشروط آليات اقتصاد السوق الحر. والضحية تبقى هي الفئات الأقل دخلا والأدنى مرتبة في المنظومة الاجتماعية. الحقيقة أنني أجدها رسالة نبيلة، تنبش العمق الإنساني الذي تأثر كثيرا بتغلغل العولمة وإفرازاتها، لا سيما والواقع الراهن لدول العالم الثالث يكشف الخلل الذي تعيشه مجتمعات تلك الدول من ناحية المأوى والغذاء والماء والصرف الصحي والرعاية الطبية والتعليم والنقل، فضلا عن قلة الموارد وكارثة زيادة عدد السكان وفي المقابل، لم تخل الدول الغنية من آثار العولمة، فالتضخم والبطالة والطبقية لا تلبث أن تعلنها الدول والمنظمات المتخصصة، وتطالب بإيجاد حلول لها في المنتديات والملتقيات. هذه الحشود البشرية تبحث عن العدل والحق والمساواة، وتكرس المطالبة باحترام قيمة الإنسان وبإعادة التفكير العميق حول سلبيات العولمة، وقدرة المواءمة بين ضرورة النمو الاقتصادي ومخاطر الظلم الاجتماعي. وهو ما يقتضي التنسيق الجاد بين الحكومات والشركات المتعددة الجنسيات لردم الفجوة مما يحقق توازنا بين مصالح الشركات وحاجيات الشعوب، وهو ما يعني خلق مفهوم جديد للعولمة ورغم عدم اكتراث الساسة، فإن هؤلاء الناشطين يؤكدون أن القيم والمبادئ والضمير سوف تنتصر وتبقى ما بقيت الحياة.