تناولت الحلقة الثانية الاجراءات الإدارية والاقتصادية التي وقعت بين السنة السادسة للهجرة والسنة الثامنة وتركزت على صلح الحديبية وفتح مكة واخضاع قريش. وهنا الثالثة والأخيرة. السنة التاسعة للهجرة أحدثت الانتصارات العسكرية في السنة الثامنة تحولات سياسية كبيرة في الجزيرة العربية وازداد انتشار الإسلام في مختلف القبائل والبطون، واستقطبت الدعوة العديد من رجال النخبة خصوصاً الفئات المثقفة من شعراء وغيرهم. فأسلم مثلاً، في السنة التاسعة، كعب بن زهير وعفا الرسول صلى الله عليه وسلّم عنه "إذ لا يأخذ مع الإسلام بما كان قبله" وكساه بُردة كانت عليه. أقام الرسول صلى الله عليه وسلّم بعد عودته من الطائف في المدينة فجاءت الأخبار ان هرقل يجهز جيشه وعزم على غزو المسلمين، فأمر الناس بالاستعداد لتوجيه حملة عسكرية ضد البيزنطيين في الشام. كان الحر شديداً والناس في عُسرة ويقال انهم تجهزوا على كره فسمي الجيش "جيش العُسرة". شمت المنافقون من جيش المسلمين وسرت شائعات في المدينة ان الهزيمة مؤكدة واقتربت نهاية الدعوة، فأخذ هؤلاء يرتبون أوضاعهم لمفاوضة هرقل على التركة. وظن المنافقون ان القوة الجديدة تستطيع كسر شوكة قريش لكنها غير مجهزة ومدربة كفاية لتقوى على مواجهة قوات ضخمة تملك السلاح والعتاد ولها خبرة طويلة في الحروب النظامية. وصل جيش المسلمين الى تبوك وبدأ يفاوض على الصلح. فصالح صاحب أيلة يوحنا بن رؤبة على الجزية بلغت 300 دينار وكتب له كتاباً. وصالح أهل أذرح على مئة دينار، وأهل جرباء على الجزية، وأهل سفنا على ربع ثمارهم. وأرسل خالد بن الوليد الى صاحب دومة الجندل اكيدر بنت عبدالملك من قبيلة كندة فقبض عليه وصالحه على الجزية وأفرج عنه. انتظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشرة أيام في تبوك قدوم القوات البيزنطية، وأعوانها من القبائل العربية، ولكنها لم تأت فعاد الى المدينة. وقبل وصوله بلغه خبر "مسجد ضرار" الذي بناه المنافقون 12 منافقاً للتنصل من الدعوة في حال انتصر هرقل واجتاح الجزيرة، فأرسل مالك بن الدُّخشم فهدمه وحرقه وصفح الرسول صلى الله عليه وسلّم عنهم وقبل توبتهم. جاءت خطوة هدم مسجد ضرار، بعد غزوة تبوك، لتزيد من هيبة المسلمين وقوتهم. فالرسالة واضحة، والدعوة لا تقبل التردد ومعها لا مجال لازدواجية الانتماء والقرار والسلطة. وتحولت هذه الخطوة الى سُنّة اتبعها المسلمون. فالجماعة يقودها أمير واحد والأمة يجب أن تتفق على خليفة واحد. ساهم هدم "مسجد ضرار" في تعديل موازين القوى، فما يصحّ على مسجد المنافقين يصحّ على غيره، فاتبعت السنّة نفسها حين جاء وفد ثقيف ليفاوض الرسول صلى الله عليه وسلّم، واشترطوا مقابل دخول الدعوة ترك صنمهم اللات ثلاث سنين لا يهدمه فرفض، وسألوه أن يعفيهم من الصلاة فأبى. وعاد الوفد ومعه المغيرة بن شُعبة وأبو سفيان بن حرب وهدما اللات وأسلمت ثقيف. بعد اللات جاء دور صنم الفلس فأرسل علي بن أبي طالب في سرية الى ديار طيء فأغار عليها فغنم وكسر الصنم وأسلم عدي بن حاتم. اشتد عود الدعوة وأدركت القبائل انه لا مساومة في الدين وان خياراتها محدودة ولا تقوى على المواجهة بعد ان افتتحت مكةوالطائف وأسلمت قريش وثقيف. فقدمت وفود بني أسد، وبَلي، والزاريين، وبني تميم، وبهراء، والبكاء، وفزارة، وثعلبة، وبني بكر، الى المدينة تعلن البيعة وتشهر اسلامها. وجاءت كتب ملوك حِمْيَر تقرّ بالإسلام فكتب اليهم يأمرهم بما عليهم وينهاهم عما حرّم عليهم. كانت السنة التاسعة حاسمة في تاريخ الدعوة. ففيها نزلت سورة براءة فنسخت ما قبلها من اجراءات وأقرّت ترتيبات جديدة تتعلق بفرض الصدقات والجزية وتمنع المشركين من الحج. فالسنة التاسعة كانت الأخيرة التي حجَّ فيها المشركون على عادتهم في الجاهلية، إذ حرموا بعدها من الحج أو الطواف بالبيت، فأسلم الكثير من الناس قبل موعد السنة التالية. السنة العاشرة كانت العاشرة سنة الوداع. ففيها كانت حجة البلاغ وفيها بدأت تنتظم هياكل الدولة وباتت المدينة مرجع الجزيرة. فترسخت سلطتها من خلال بعثات الرسول صلى الله عليه وسلّم وعماله الى القبائل والمناطق والمدن لتبليغ الدعوة وتعليم الدين واقامة القضاء والفصل في الخلافات وتنظيم الجباية من صدقات وجزية وخراج. جاءت التطورات كلها لتؤكد قوة الإسلام في الجزيرة وتجهز عدته للانطلاق الى خارجها. ففي تلك السنة أرسل خالد بن الوليد الى بني الحارث بن كعب في نجران فدعاهم الى الإسلام فاستجابوا، فأرسل عمرو بن حزم لتعليمهم مبادئ الدين وأصول الشريعة ووجه معه كتاباً. وجاء وفد من أهل نجران الى المدينة وصالحوا على 2000 حُلّة كل حلة 40 درهماً وجعل لهم في ذمة الله وشرط عليهم أن لا يأكلوا الربا أو يتعاملوا به. بعد اسلام الحارث بن كعب ومصالحة أهل نجران على الجزية تدفقت الوفود الى المدينة من سلامان وغبشان وعامر والأزد وطيء وجُرش وعبد قيس وبني حنيفة وكندة والرهاويين بطن من مذحج وخولان تعلن اسلامها. وحين وقعت خلافات قبلية بين مُراد وهمدان من ملوك كندة لجأت مُراد الى المدينة للشكوى فأسلمت واستعمل أميرها لأخذ صدقات مُراد وزبيد ومذحج. وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب مع كتاب الى أهل اليمن فأسلمت همدان، وأرسل في الفترة نفسها عماله الى صنعاء وحضرموت وطيء وأسد وبني حنظلة وبني تميم والبحرينونجران لجمع الصدقات أو الجزية وتعليم الناس أصول الدين وتنظيم القضاء. كانت الدولة تنمو في مختلف قطاعاتها المالية والقضائية والتربوية في وتيرة تتناسب مع انتشار الدعوة، فبدأت تتوضح المعالم من خلال الإجراءات السياسية والإدارية والترتيبات الاقتصادية والعسكرية التي حملتها كتب الرسول مع البعثات والعمال والأمراء الى مختلف الجهات في الجزيرة. في تلك السنة كانت الحجة الأخيرة حجة الوداع عاد بعدها الى المدينة وأمر أسامة بن زيد بتجهيز حملة الى الشام البلقاء والداروم من أرض فلسطين في خطوة سيكون لها تأثيرها الحاسم في تعزيز فكرة الفتوحات الكبرى والتشجيع عليها. وقبل انفاذ بعثة أسامة مرض الرسول صلى الله عليه وسلّم في أواخر صفر من سنة احدى عشرة من الهجرة، فتأخر مسير أسامة وجاءت أخبار الردة في وقت واحد. أربك مرض الرسول صلى الله عليه وسلّم البعثة وترددت في تحركها بعد أن هبّ ثلاثة يدّعون النبوة: الأسود العنسي اليمن ومسيلمة الكذاب اليمامة، وطليحة بني أسد. احتار المسلمون بعد انتشار خبر مرض الرسول صلى الله عليه وسلّم وتواتر أخبار الردة أي أمر له الأولوية: فتح الشام أو مكافحة الردة. وحسم الرسول صلى الله عليه وسلّم الأمر وهو على فراش المرض، فخرج عاصباً رأسه، من شدة الصداع، وأمر بانفاذ جيش أسامة، وأرسل نفراً من الأنصار في أمر الأسود العنسي. فالمرض لم يشغله عن أمر الفتح لنشر الدعوة. وهكذا كان. رحل الرسول صلى الله عليه وسلّم في ربيع الأول من العام 11 للهجرة فاهتزت مشاعر المسلمين ودبت الفوضى فخرج الخليفة الأول رضي الله عنه وقال للناس: "أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". وكانت البيعة وخطب أبو بكر الصديق فيهم "خطبة البيعة" داعياً للجهاد. فأرسل جيشاً بقيادة أسامة بن زيد الى الشام فأغار على حدودها وعاد الى المدينة. بعدها اندلعت حروب الردة حين رفضت بعض قبائل الجزيرة دفع أموال الزكاة فأرسل جيشاً بقيادة خالد بن الوليد ودارت معركة اليمامة ضد قوات مسيلمة فتشتت المرتدون وسقط زعيمهم مقتولاً. واستمرت حروب الردة قرابة العام نجح فيها المسلمون في محاصرتها وخسروا فيها الكثير من الصحابة أصحاب الرسول وحفظة القرآن... وبعد القضاء على الردة تابعت الفتوحات مسارها التاريخي ممتدة من مشرقه الى مغربه وصولاً الى حدود الصين شرقاً وحدود فرنسا غرباً. تدرج اكتمال الصورة كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلّم حتى اللحظات الأخيرة ثاني أهم مصادر التشريع الإسلامي خصوصاً في الفترة الراشدة. وشكلت الإجراءات الإدارية والاقتصادية والكتب أهل نجران، ثقيف، دومة الجندل، هجر، أيلة، خزاعة، زرعة والمعاهدات نقاط ارتكاز أساسية، بعد الآيات المنزلة، في بناء الدولة وتحديد علاقاتها بالدين والمجتمع. اعتمد الفقهاء على تلك الإجراءات بحسب تتابعها الزمني لدراسة مجرى التطور وتعرجاته التنظيمية. واتفق المؤرخون على ان غزوة نخلة، التي جرت في السنة الثانية بقيادة عبدالله بن جحش، كانت أول غارة تسفر عن غنيمة. وفيها قُسم أول خُمس في الإسلام. وبعدها فُرض الصوم في رمضان وأُمر الناس بإخراج زكاة الفطر. بعد نخلة جاءت معركة بدر الكبرى وتم في نهايتها تقسيم الغنائم بين المسلمين على السواء وضرب فيها لثمانية أفراد لم يحضروا المعركة. وبعد بدر كانت غزوة بني قينقاع حلفاء الخزرج وفيها اقتسم المسلمون ما كان لهم من مال فتمت قسمة الغنيمة وكان أول خُمس أخذه الرسول صلى الله عليه وسلّم. وفي السنة الثالثة جرت غزوة الفردة ويقال القردة بقيادة زيد بن حارثة فعاد بالغنمية الى المدينة وبلغ خُمسها 20 ألفاً وقسمت الأربعة أخماس الباقية على السوية. وتمت في السنة الرابعة غزوة بني النضير فوافقوا على الجلاء وان تحمل الإبل متاعهم الا الذهب والفضة والسلاح، وكانت ممتلكاتهم خالصة للرسول صلى الله عليه وسلّم يضعها حيث يشاء ففرقها بين المهاجرين الأولين من دون الأنصار إلا رجلين فقيرين أبا دجانة، وابن حنيف. وتمت غزوة بني قريظة حلفاء الأوس بعد فشل حصار المدينة غزوة الخندق في السنة الخامسة فقسمت أموالهم وأُخرج منها الخُمس، وأعطي الفارس ثلاثة أسهم والراجل سهماً. واعتبرت أول فيء في الإسلام وقع فيه السهمان والخُمس. وكان أول مغنم أعلم فيه سهم الفارس. ووقعت في السنة السادسة غزوة ذي قرَد وتمت قسمة الإبل والرماح وفيها أعطي سلمة بن الأكوع سهم الفارس وسهم الراجل لأنه قاتل فارساً وراجلاً. وتمت غزوة بني المصطلق من خزاعة وفيها تمت المصاهرة بينهم وبين المسلمين فأسلموا وأدوا صدقاتهم وأعتقت المصاهرة أكثر من مئة أسير. وفي السنة السادسة كانت كتب الرسول صلى الله عليه وسلّم بعد صلح الحديبية الى زعماء الأقوام والقبائل والملوك والقياصرة، وأشهرها تلك التي أرسلها الى كسرى وقيصر والنجاشي الحبشة والمقوقس الاسكندرية والحنفي والغساني بلاد الشام، أو تلك التي أرسلها الى قبيلة جذام فأسلمت، وأهل اليمن فأسلموا، وملك اليمامة، ووالي البحرين فأسلم ومعه كل العرب وصالح أهل الكتاب والمجوس على الجزية من كل بالغ دينار. وكان في السنة السابعة حصار خيبر فطلب أهلها الصلح على أن تحقن الدماء مقابل المقاسمة على النصف وان يخرجهم إذا شاء. وبعد حصار خيبر طالب أهل فدك بالصلح نفسه فتم الاتفاق وكانت خيبر فيئاً خراجاً للمسلمين وفدك خالصة للرسول صلى الله عليه وسلّم. وفي السابعة أيضاً، تم افتتاح وادي القرى عنوة فتركت النخل والأرض في أيدي أهل الوادي وقسمت الأموال خُمس لله والرسول وسهم ذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وجرت في السنة الثامنة غزوة ذات السلاسل ثم غزوة قبيلة الأزد فأخذت الجزية من المجوس والصدقة من أغنيائهم وردت على فقرائهم. بعد فتح مكة في السنة الثامنة وفيها قسم ما كان في الكعبة من المال بين المسلمين تمت غزوة بني جذيمة وفيها جرت فدية دماء أسرى القبيلة بالأموال، وتلتها معركة حُنين ضد قبيلة هوازن، ثم حصار ثقيف في الطائف. واختلفت قسمة حُنين عن السابق إذ تنازل الرسول عما كان له ولبني عبدالمطلب ورد على هوازن خُمسه وأسقط سهم الأنصار وأثبت للمؤلفة قلوبهم سهماً من الصدقات وأعطاهم 11 شخصاً وقيل 12 شخصاً من قسمة الغنيمة. وبلغت غنائم هوازن 12 ألف ناقة وألف فارس ما عدا الأسلاب. وتمت في السنة التاسعة غزوة تبوك فصالح صاحب أيلة على الجزية 300 دينار، وصالح أهل أذرح على مئة دينار، وأهل جرباء على الجزية، وصاحب دومة الجندل على الجزية. وأسلمت في هذه السنة الكثير من القبائل العربية وجاءت كتب ملوك حِمْيَر تقر بالإسلام فكتب اليهم يأمرهم بالحلال وينهاهم عن الحرام. وفيها نزلت سورة براءة التي نسخت ما قبلها من اجراءات وأقرت ترتيبات جديدة تتعلق بفرض الصدقات والزكاة والجزية وتمنع المشركين من الحج. وفي السنة العاشرة كانت حجة الوداع وفيه وجه عمرو بن حزم الى نجران وحمله كتاباً لتعليمهم مبادئ الدين وأصول الشريعة وجمع صدقاتهم. وفيها جاء وفد نجران الى المدينة وأراد المباهلة الشفاعة، وصالحوا الرسول صلى الله عليه وسلّم على الجزية 80 ألف درهم في السنة. بعد مصالحة أهل نجران واسلام بني كعب تدفقت الوفود الى المدينة تعلن اسلامها واستعملت قبيلة مُراد لأخذ صدقات مُراد وزبيد ومذحج، وأسلمت قبيلة همدان في اليمن، وأرسل عماله الى صنعاء وحضرموت وطيء وأسد وبني حنظلة وبني تميم ونجران وبني تغلب صدقة مضاعفة والبحرين لجمع الصدقات أو الجزية. وقبل رحيل الرسول صلى الله عليه وسلّم كانت دولة المدينة استكملت شروطها التنظيمية والإدارية والقضائية والاقتصادية، فاكتملت الصورة في اللحظات الأخيرة وكان آخر ما نزل من القرآن عليه "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً". وبرحيله استخدم الخلفاء والعلماء ما أنزل، الى جانب السنّة والكتب والمعاهدات رسالتيه الى البحرين واليمن مثلاً، كمصادر للقياس الفقهي في التطبيقات اللاحقة. فكان كتابه الى أهل اليمن من أبرز المراجع في تنظيم الاقتصاد لأنه تضمن تحديدات تناولت كل المسائل من الزكاة، وخُمس الله، وسهم النبي والصفيّ، والعشر على ما سقي البعل وسقت السماء، وما سقي بالغُرب الدلو نصف العشر، الى غيرها من تفاصيل كثيرة تناولت الصدقة وهي زكاة تؤدي الى فقراء المؤمنين في سبيل الله والجزية على أهل الكتاب دينار على كل حالم من ذكر وأنثى وحر وعبد. واستخدموا كذلك ما جاء في كتابه الى همدان بعد اسلامهم فإن "لكم ذمة الله وذمة رسوله على دمائكم وأموالكم وأرض البور التي أسلمتم عليها سهلها وجبلها وعيونها وفروعها غير مظلومين ولا مضيق عليكم، وان الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته إنما هي زكاة تزكونها عن أموالكم لفقراء المسلمين". وأيضاً استخدموا كتبه الى أهل هجر فإذا جاءكم امراؤكم فأطيعوهم وانصروهم على أمر الله وفي سبيله، وأهل نجران ولا يؤخذ أحد بجناية غيره وتضمنت شروط الصلح معهم على الفي حلة من حلل الأواقي "فما زاد أو نقص فعلى هذا الحساب ألف في صَفَر وألف في رجب" ومن "أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمتي منه بريئة". وكانت "المباهلة" مع أهل نجران حجة استخدمها الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نقاشه مع خوارج "المحكمة الأولى" في نهروان، وهو سجال يعتبر من أولى المناظرات الكلامية الكبرى في تاريخ الإسلام. فالخليفة الراشد الرابع استخدم الواقعة في سياق سجالي لشرح موقفه من مسألة التحكيم، فذكر ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حين دعا أهالي نجران الى المباهلة: "تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين". فالرسول وبكلام الإمام علي "انصفهم بذلك على نفسه". وهو فعل الأمر نفسه إذ أراد النَّصفَةُ الانصاف حين وافق على حكم الحكمين في معركة صفين. فأمير المؤمنين لجأ الى السُنّة لتوضيح الآيات المجملة في القرآن الكريم، وتمسك بالحجة والأدلة والبراهين للدفاع عن موقفه وكسر وحدة الخوارج الحرورية وزعزعة تماسكهم الإيديولوجي وتذرعهم بالنص المنزل لتبرير خروجهم عليه. أوضحت الكتب والمعاهدات والرسائل الكثير من المسائل الإدارية والتنظيمية والاقتصادية والقضائية والمالية، وحددت علاقة الإنسان بالدولة ومقدار حقوقه وواجباته والتزاماته فأسعفت العلماء والفقهاء والقضاة لاحقاً في ترسيم حدود العلاقات بين الدين والدولة والمجتمع. * كاتب من أسرة "الحياة".