دأبت جريدة المدينةالمنورة ومنذ عدة أعوام على نشر غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- مرتبطة بالمكان، حيث قام ملحقها (الرسالة) بنشرها وقد كُتبَتْ بما يتناسب مع الزمن الحاضر وبما يناسب الطلاب والطالبات، حيث كان الصحابة يعلمونها لأبنائهم، كما يعلمون القرآن الكريم قال علي بن الحسن: (كنا نعلم مغازي النبي -صلى الله عليه وسلم- كما نعلم سورة من القرآن) وقال محمد بن سعد بن أبي الوقاص: (كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني: هذا شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها). وإعادة صياغة الغزوات، بل إعادة السيرة كاملة أصبح ضرورة يفرضها الواقع و لما طرأ من تطور في الوسائل التقنية الحديثة، وعند رصد أي غزوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابد من ذكر ما يتعلق بهذه الغزوة، من حيث الموقع وما ارتبط به من جبال أو أودية أو علامات، كما لابد من ذكر القبائل التي واجهت الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تلك الغزوة وما يترتب على ذلك من شواهد، سواء في القرآن الكريم أو الأحاديث الشريفة، وقد نفذ الكاتب ذلك لخبرته في جميع المجالات في التربية وخلال أربعين عامًا مع ملاحظة ما يلي: إذا ذكرت القبيلة أو القبائل التي واجهت الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تلك الغزوة لا يعني نقدها أو ذكر مثالبها حاليًا فكم ذكرت قبيلة قريش ووقوفها ضد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكم هي مواقفها ضد انتشار الدعوة ويكرر ذلك دائمًا في التربية والتعليم وعند كتابة السيرة وقس على ذلك بقية القبائل. وقد يعتقد بعض القراء والقارئات أن القبيلة إذا أسلمت أصبح أفرادها من الصحابة، وهذا لا ينطبق على تعريف الصحابي وهو (أن الصحابي من لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا به، ومات على الإسلام). فيدخل في قوله (من لقيه -صلى الله عليه وسلم-) (من طالت مجالسته للنبي -صلى الله عليه وسلم- أو قصرت ومن روى عنه -صلى الله عليه وسلم- أو لم يروِ، ومن غزا معه -صلى الله عليه وسلم- أو لم يغزُ). لذا فإن القبائل خارج المدينةالمنورة أو ما يحيط بها إذا أسلمت لا يطلق عليهم اسم الصحابي أو الصحابة إلا من أتى إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولقيه حسب التعريف السابق. وغزوة الغابة يعتبرها مؤرخو السيرة غزوة، وهي في الحقيقة حركة مطاردة ضد فرع من بني فزارة - وفزارة إحدى القبائل المكونة لغطفان وهي أشجع، وفزارى وأنمار، وبنو محارب، وعبس وبنو مرة بن عوف وتسكن قبيلة غطفان شرق المدينةالمنورة وشمالها وكل فرع من فروع غطفان له موقع محدد فقبيلة الفزارى تسكن جنفاء (شمال شرق خيبر) وتمتد إلى وادي الرمة- حيث قام هذا الفرع بما يسمى حاليًا (القرصنة) وتطبيق عادة بعض القبائل في الجاهلية التي تعتمد على السلب والنهب، فقد هجم عبد الرحمن بن عيينة بن حصن الفزاري مع مجموعة من قبيلته على لقاح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغابة (شمال المدينةالمنورة بل أصبح جزءًا منها حاليًا) وتعتبر هذه الغزوة أول غزوة غزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد الحديبية وقد ربط تاريخها بغزوة خيبر فقد ذكر البخاري في ترجمة لها أنها كانت قبل خيبر بثلاث – أي بثلاث ليال -. سبب الغزوة: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة بعد غزوة الحديبية وقيل غزوة بني لحيان لم يقم إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري في خيل لغطفان على لقاح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالغابة وكانت عشرين لقحة وفيها رجل من بني غفار وامرأته فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح. ولما أغار عيينة بن حصن الفزاري على اللقاح في يومهم ذلك جاء الصريخ فنادى: الفزع الفزع، ونودي: يا خيل الله اركبي. وأول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي. ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خمسمائة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم كعادته. وخلف سعد بن عبادة رضي الله عنه في 300 رجل يحرسون المدينة. وعقد لواء للمقداد رضي الله عنه في رمحه. وقال امض حتى تلحقك الخيول وأنا على إثرك.وكانت نتيجة هذه الغزوة أنهم أدركوا العدو فهزموه وقتلوا رؤساءه واستنقذوا اللقاح. وقيل بعضها ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد وسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ ذا قرد في اتجاه خيبر فالتجأ العدو إلى بني غطفان. وقد أبلى في هذه الغزوة سلمة بن الأكوع بلاءً حسنًا وكان راميًا. والرجل الذي قتلوه هو ابن أبي ذر رضي الله عنه واسمه ذر وكان يرعى الإبل وامرأته التي أسروها اسمها ليلى وقد نجت لأنهم أوثقوها وكانوا يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم فانطلقت وركبت ناقة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليلًا على حين غفلتهم. ويقال إن الناقة اسمها العضباء. فانطلقت ولما علموا بها طلبوها فأعجزتهم ونذرت لئن نجت لتنحرنها، فلما قدمت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبرته بذلك، وقالت: يا رسول الله إني نذرت لله تعالى أن أنحرها إن نجاني الله عليها. فقال: بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك أن تنحريها إنه لا نذر لأحد في معصية ولا لأحد فيما لا يملك إنما هي ناقة من إبلي. ارجعي إلى أهلك على بركة الله. وقد روى سلمة بن الأكوع غزوة الغابة حيث قال بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بظهره مع غلامه رباح، وأنا معه بفرس أبي طلحة، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على الظهر، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه، فقلت: يا رباح خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قمت على أكمة، واستقبلت المدينة، فناديت ثلاثًا: يا صباحاه، ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وارتجز، أقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع إلي فارس جلست في أصل الشجرة، ثم رميته فتعقرت به، حتى إذا دخلوا في تضايق الجبل علوته، فجعلت أرديهم بالحجارة، فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله تعالى من بعير من ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم أتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحًا يستخفون، ولا يطرحون شيئًا، إلا جعلت عليه آرامًا (علامات) من الحجارة، يعرفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. حتى أتوا متضايقًا من ثنية فجلسوا يتغدون، وجلست على رأس قرن، فصعد إلي منهم أربعة في الجبل، قلت: هل تعرفونني؟ أنا سلمة بن الأكوع، لا أطلب رجلًا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني فيدركني، فرجعوا، فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخللون الشجر. فإذا أولهم أخرم، وعلى أثره أبو قتادة، وعلى أثره المقداد بن الأسود، فالتقى عبد الرحمن وأخرم، فعقر بعبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه، ولحق قتادة بعبد الرحمن فطعنه فقتله، وولى القوم مدبرين، ونتبعهم، أعدو على رجلي، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذا قرد، ليشربوا منه، وهم عطاش فأجليتهم عنه، فما ذاقوا قطرة منه، ولحقني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخيل عشاء، فقلت: يا رسول الله إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما عندهم من السرح، وأخذت بأعناق القوم، فقال: يا ابن الأكوع، ملكت فأسجح، ثم قال: إنهم ليقرون الآن في غطفان. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة. وأعطاني سهمين، سهم الراجل وسهم الفارس، وأردفني وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة. وتدخل غزوة الغابة ضمن الغزوات مع أنها تعتبر مطاردة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقدر جهود الصحابة ويقيمهم ويقدم لهم ما يدخل الفرح سواء في زيادة سهم الأرباح حيث جعل سهمين ل (سلمة) سهم الفارس وسهم الراجل، كما أردفه -صلى الله عليه وسلم- وراءه على العضباء (ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-). وهذا تقدير معنوي كبير ويلاحظ أن غزوة الغابة أو غزوة ذي القرد كانت آخر غزوة لتأديب القبائل المحيطة بالمدينةالمنورة، حيث لم تفكر أي قبيلة في الاعتداء عليها بعد تلك الغزوة وتسمى هذه الغزوة كما سبق غزوة ذي قرد، لأن الماء الذي نزل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقال له ذو قرد، كما تظهر فضيلة سلمة بن الأكوع وأبي قتادة فقد قدرهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال (خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالنا سلمة بن الأكوع)، وتظهر غزوة ذي قرد حلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكرمه وحسن سياسته وكمال أدبه -صلى الله عليه وسلم-، حيث لم يلحق بالقوم الذين استاقوا لقاحه ولم يأذن ل (سلمة) باللحاق بهم للقضاء عليه، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- تركهم وقال ل (سلمة): ملكت فأسجح.