بالنسبة الى السياح الذين يزورون اسبانيا، في زمننا هذا، قد لا يكون مبنى "الأسكوريال" سوى مكتبة تعتبر من اكبر مكتبات العالم، ومبنى رائع الحسن يحتاج المرء الى الابتعاد نحو 30 كيلومتراً الى الشمال الغربي من مدريد لزيارته. ولا شك في ان المرء لا يخرج من تلك الزيارة خالي الوفاض. فالكتب الثمينة هناك، والمخطوطات العربية الرائعة هناك، وهناك ايضاً ذلك الامتزاج الرائع بين المكان والطبيعة المحيطة به. غير ان ما يفوت المرء عادة، اذ يؤخذ برؤية ما يشاهده انما هو الدلالة التي يرتديها المبنى. فالأسكوريال ليس مبنى عادياً، او على الاقل، لم يكن كذلك حين اقيم بين العامين 1563 و1584 في عهد الملك المتنور فيليب الثاني. ففي ذلك الحين كان بناء الاسكوريال يعتبر رد فعل اساسياً على ما طرأ على اسبانيا من تبدلات وتغيرات تلت انتهاء العصر العربي في الاندلس فيها. وكذلك رد فعل على ظلامية عصر التفتيش. وكأن فيليب الثاني حين كلف المهندسين خوان باتيستا دي توليدو الكليكلي وخوان دي جيريرا انشا، ذلك المبنى تكريماً لذكرى والده الامبراطور السابق شارلكان، انما كان يريد القول ان عصور الظلمات علت وانه حان الوقت للعودة الى شيء من العقلانية. طبعاً في ذلك الحين كان في وسع فيليب الثاني ان يختار العودة الى الهندسة المعمارية التي سادت خلال العصور العربية، لأنها ظلت اجمل وأكثر رسوخاً، من العمارة القوطية وعمران "الدقة الجوهرجية"، التي سادت خلال العقود الاولى من استعادة الاسبان شبه الجزيرة الايبيرية كرد فعل على عقلانية العمارة العربية، وتعبير عن عودة الى الرواية والنمنمة والتحذلق في وقت كان على القائمين بالأمور ان يحيطوا كل شيء بقداسة وغموض لتبرير هيمنة الغيب والكنيسة على الشعب. ازاء هذا كله، اذاً، لم يكن من قبيل المصادفة ان يختار فيليب الثاني المنطقة التي اقام عليها المبنى، في وسط طبيعي رائع الحسن، ولم يكن من قبيل المصادفة ان يعهد بالمشروع الى ذينك المهندسين. فهما، الواحد بعد الآخر، درسا الهندسة المعمارية في ايطاليا، وفي خضم عصر نهضتها الذي اشع على العالم كله، او على الاقل، على اوروبا، مبسطاً الزخارف والواجهات، معيداً الى الانسان احساسه بأهميته، بعدما كان كل شيء يحاول ان يجعل منه صغيراً. في هذا المعنى ينتمي بناء الاسكوريال، الى بدايات تلك النهضة العمرانية التي ستظل سائدة حتى العصر الصناعي، والتي راحت تجدد احساس المرء بأهمية المكان الاول. وفي السياق نفسه لم يكن من قبيل المصادفة ان يتحول ذلك المبنى البالغ طوله 208 امتار وعرضه 162 متراً، الى مركز للاشعاع الفكري. واللافت هنا ان يكون المهندسان اللذان انشآه، واحدهما بعد الآخر، اختارا زوايا واضحة، انسانية الطابع، حتى وان كانت الغاية الاولى من انشاء المبنى تخليد ذكرى القديس لوران وحكاية صلبه واستشهاده. فالحال ان تأملاً في المبنى وشكله ووظائفيته، سيقول لنا ان مشيّديه - من الامبراطور والمهندسين وبقية العاملين فيه - كانوا يتوقعون له منذ البداية ان ينفك بسرعة عن وظيفته الدينية ليعانق وظيفة فكرية وانسانية فائقة الاهمية. اليوم يعتبر مبنى الاسكوريال واحداً من اجمل المزارات الاسبانية، ومكتبة من اروع المكتبات في العالم. ونحن، العرب، لا شك سنشعر بفخر كبير ان نحن زرناه اليوم، لأنه - وهذا امر طبيعي - يتضمن في اجنحته، وعلى رفوفه ألوف المخطوطات العربية وألوف الكتب، التي تشكل تراثاً عربياً اسلامياً قائماً في ذاته. ومهما يكن من الامر فإنه من الصعب اليوم النظر الى الاسكوريال بوصفه المبنى الاكثر تمثيلاً للعمران الاسباني، اندلسياً عربياً كان او قوطياً، بل هو بالأحرى اشارة مهمة الى دخول اسبانيا ما بعد الاسلام وما بعد محاكم التفتيش، عصراً كوزموبوليتياً، اذ علينا الا ننسى هنا ان اسبانيا، في زمن بناء الاسكوريال، كانت بدأت تصبح مكاناً عالمياً بامتياز، يهاجر اليه الفنانون والكتّاب ويعملون وينشطون، في استعادة لمناخات الاندلس ايام الحضارة العربية، وما بناء الاسكوريال الا التعبير الاسمى عن ذلك.