Gerard Lafay ed.. Nations et Mondialisation. الأمم والعولمة. Economia, Paris. 2000. 410 pages. اذا كانت العولمة تعني اشتقاقاً صيرورة العالم واحداً، فهل هذا معناه ان العالم الذي توحده العولمة سيكون عالماً آحادي النمط؟ ضداً على تهمة "تنميط العالم" هذه، التي هي اكثر التهم تداولاً حول العولمة، يؤكد فريق البحث الرباعي الذي اعد هذا الكتاب شبه الموسوعي تحت اشراف جيرار لافاي، استاذ الاقتصاد في جامعة باريس الثانية والمستشار العلمي لمفوضية التخطيط الفرنسية، ان العولمة إن كانت تمثل قطيعة تاريخية على مستوى الاقتصاد العالمي بنزوعها الى ان تعمم نظاماً انتاجياً موحداً على مستوى العالم اجمع، فإنها في المقابل لا تلغي تمايزات هذا العالم، بل تتيح لها على العكس، من خلال تعزيز التبعيات المتبادلة بين الاقتصادات القومية، ان تأخذ ابعادا عالمية. ففي عصر العولمة تحديداً تكاثرت الدول الامم في العالم حتى أربى عددها على المئتين. وفي عصر العولمة تحديداً عززت الثقافات القومية، وحتى الاثنية، مواقعها على نحو غير مسبوق اليه في التاريخ حتى امكن لمغن تركي مثل طرقان او جزائري مثل شاب خالد ان يضربا أرقاقاً قياسية عالمية في مبيع اسطواناتهما رغم حاجز اللغة التي تبقى في حالتهما لغة محلية ليس لها جمهور عالمي كمثل الجمهور الذي للغات الانكليزية او الاسبانية او الفرنسية. وبما ان المجال الاختصاصي لهذا الكتاب عن "الامم والعولمة" هو الاقتصاد حصراً، فإن فريق البحث الذي اعده رصد ثلاث ظاهرات اقتصادية كبرى باعتبارها "رفيقات درب" للعولمة، هي: الاستقطاب والتخصص والاقلمة، وثلاثتها تؤكد ولا تلغي دور الامم في العولمة. فخلافاً لتصور شائع يرى في العولمة محض مرادف للأمركة، فإن التحليل الاقتصادي العيني لتطور المبادلات الدولية خلال الثلاثين سنة الأخيرة يشير على العكس الى تراجع في دور القطب الاميركي في الاقتصاد والتجارة العالميين. فحصة الولاياتالمتحدة الاميركية من الناتج الاقتصادي العالمي تراجعت من اكثر من الثلث الى اقل من الربع بين عامي 1960 و 1996. ففي 1960 كانت الولاياتالمتحدة تنتج وحدها 37.7 في المئة من الدخل العالمي، فهبطت حصتها هذه الى 24.9 في المئة في 1996. وفي المقابل فإن كلاً من القطبين الاوروبي والياباني قد عززا في الحقبة نفسها مواقعهما. فبلدان الاتحاد الاوروبي الخمسة عشر رفعت حصتها من الدخل العالمي من 23.4 في المئة عام 1960 الى 29.3 في المئة عام 1996: اما اليابان فضربت رقماً قياسياً اذ ضاعفت حصتها نحواً من ثلاث مرات: من 3.3 في المئة من الدخل العالمي عام 1960 الى 15.8 في المئة عام 1996. ومقابل هذا الصعود الحاد للقطب الياباني سجل القطب السوفياتي السابق هبوطاً لا يقل حدة: من 6.8 في المئة من الدخل العالمي عام 1960 الى 2.5 في المئة عام 1996. لكن الحدث الابرز والاكثر تمييزاً لعصر العولمة يبقى بلا جدال الانبثاق العالمي لقطب اقتصادي جديد: مجموعة البلدان الصناعية الجديدة في جنوب شوقي آسيا، او ما يعرف باسم التنانين الآسيوية الاربع: كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغفورة. فقد ضاعفت هذه البلدان حصتها من الدخل العالمي نحواً من ست مرات: ففي 1960 ما كانت حصتها تزيد على 0.6 في المئة، فارتفعت في 1996 الى 3.6 في المئة. ويبدو ان موجة ثانية من البلدان الصناعية الآسيوية الجديدة تتهيأ لأن تعقب الموجة الاولى: ماليزيا واندونيسيا والفيليبين وتايلاندا. اما الصين الشعبية، التي ضمت اليها مؤخراً هونغ كونغ، فإنها ستمثل بمفردها على الارجح موجة ثالثة. والواقع انه اذا ما استطاعت البلدان الآسيوية الصاعدة ان تحافظ على الوتائر الحالية لنموها الاقتصادي ما بين 5 و 10 في المئة سنوياً، وهي الوتائر التي سمحت بان تضاعف حصتها من الناتج العالمي من 16 في المئة عام 1960 الى 33 في المئة عام 1996، فإنها ستتمكن خلال ربع القرن القادم من ان تحقق التطابق بين حصتها من سكان العالم وحصتها من الناتج الاقتصادي العالمي: 50 في المئة في كلتا الحالتين. وعلاوة على هذه الدينامية الجديدة التي تبعثها العولمة في المشهد الاستقطابي للاقتصاد العالمي، فإنها تنشّط ايضاً تنشيطاً مرموقاً ظاهرة التخصص في هذا الاقتصاد. فصحيح ان العولمة من شأنها ان تخلق فضاء عالمياً متجانساً يفرض معاييره على جميع الدول القومية بلا استثناء، لكنها تعزز ايضاً بعض الخصائص او التمايزات القومية من خلال تنشيطها الهائل للتجارة العالمية. فخلال الثلاثين سنة الاخيرة تضاعف حجم المبادلات الدولية نحواً من ثلاثين مرة، اذ انتقل من 292 بليون دولار عام 1967 الى 8010 بلايين دولار عام 1996. والحال ان مثل هذا التوسع في حجم المبادلات الدولية ليس من شأنه ان يعزز فقط التبعية المتبادلة بين الاقتصادات القومية، بل كذلك التخصصات الانتاجية في هذه الاقتصادات تبعاً للتراث المتراكم من الخبرات التكنولوجية ولطبيعة الثروات والموارد الطبيعية ولكثافة اليد العاملة وغلائها او رخصها النسبيين. ومن هذا المنظور يكتسب ما يسميه العلم الاقتصادي ب"المزايا المقارنة" لكل أمة او لكل اقتصاد قومي اهمية استثنائية في ظل العولمة. فالعولمة، باختراقها الحدود القومية، تعزز المنافسة الدولية بين اقتصادات الامم. والمزايا المقارنة من شأنها ان تعطي لكل اقتصاد قومي، وفي صدد كل منتوج على حدة، موقعاً مميزاً في المنافسة الدولية. فرخص اليد العاملة، على سبيل المثال، مثّل المزية المقارنة الرئيسية للاقتصادات الصاعدة في البلدان الصناعية الجديدة في آسيا، لا سيما في المجالات الانتاجية التي تتطلب كثافة في توظيف اليد العاملة كالصناعات النسيجية. لكن هذه المزية المقارنة غير ثابتة، بل هي قيد تحول دائم وانزياح من اقتصاد قومي الى آخر تبعاً الى تطور مؤشر الاجور. فالصناعات النسيجية كانت هي المزية المقارنة للاقتصاد الياباني في الطور الاول من الحقبة المدروسة بين عامي 1960 و 1999. ثم ما لبثت هذه المزية ان انتقلت الى الاقتصادات الصاعدة في جنوب شرقي آسيا في الطور الاوسط من الحقبة المدروسة. ومع ارتفاع معدلات الاجور في البلدان الصناعية الآسيوية الجديدة نزحت من جديد باتجاه الصين الشعبية التي ارتفع فائضها الانتاجي من الالبسة الجاهزة من 1.3 في المئة عام 1967 الى 15.6 في المئة عام 1997. بيد ان رخص اليد العاملة ليس هو العامل المحدد الوحيد للمزايا المقارنة. فالولاياتالمتحدة، على سبيل المثال، تحوز، بحكم كونها الدولة الاقوى في العالم، تفوقاً يكاد يكون غير قابل للمنافسة في مجال الصناعات العسكرية المتطورة. وقل مثل ذلك عن صناعة العطور والخمور في فرنسا، او عن الصناعة السياحية في ايطاليا التي تحوز تراثاً فنياً وتاريخياً فائق الغنى. ولكن بما ان الشمس تمثل بحد ذاتها عاملاً محدداً للمزية المقارنة في مجال الصناعة السياحية، فإن البلدان المشمسة في الحوض الجنوبي والشرقي من المتوسط، مثل المغرب وتونس ومصر وتركيا، باتت تحوز قدررة تنافسية ما كانت تتمتع بها حتى الامس القريب سوى بلدان الحوض الشمالي مثل اليونان واسبانيا. اذن فالعولمة لا تلغي التخصصات الانتاجية القومية، لكنها تخضعها لحركة مد وجزر دائمة. فباستثناء بعض المنتجات، مثل خشب غابات كندا ودوره الذي لا بديل له حتى الآن في صناعة الورق، فإن التخصصات الانتاجية تتحول في ظل العولمة من معطى طبيعي او جغرافي ثابت الى معطى تاريخي متغير. فاليابان، التي تركت صناعتها الالكترونية تنزح نحو البلدان الصناعية الجديدة في جوارها الآسيوي، طورت في المقابل صناعتها الميكانيكية وغزت بسياراتها ودراجاتها النارية المعقل البعيد للصناعة الميكانيكية التي كانت تمثله حتى مطلع السبعينات الولاياتالمتحدة الاميركية. وهذه الأخيرة، ذا كانت سجلت تراجعاً في الصناعة الالكترونية، عادت تستعيد في التسعينات المواقع المتقدمة التي كانت خسرتها في السبعينات، ولكن مع التحول في الوقت نفسه من التكنولوجيا الالكترونية الصلبة Hardware الى التكنولوجيا الالكترونية الرخوة Software. كذلك فإن سويسرا، التي كانت خسرت موقعها التخصصي المتقدم في صناعة الساعات لصالح اليابان التي حولتها من صناعة ميكانيكية الى صناعة الكترونية، عادت تسترده مع تطويرها لتقنية ساعة السواتش. واذا كانت العولمة اخيراً تخترق الحدود القومية، فهي لا تلغي المسافات الجغرافية. فما زالت "الاقلمة" هي القانون الاول للمبادلات الدولية. وما زالت المحاذاة الجغرافية بين الامم هي الاساس الاول للمبادلات الثنائية. وتنضاف اليها ايضاً المحاذاة الثقافية. فالمبادلات بين الولاياتالمتحدةوكندا تمثل 5.8 في المئة من اجمالي التجارة العالمية. كذلك فإن المبادلات بين المانيا وجاراتها المباشرات، فرنساوايطاليا وهولندا وبلجيكا والنمسا وسويسرا وانكلترا، تمثل 10.3 في المئة من حجم التجارة العالمية. ويبدو ان المنطقة الجغرافية الاكثر اندماجاً من وجهة النظر الاقتصادية هي المنطقة الاوروبية التي تشكل مبادلاتها في ما بينها اكثر من ربع التجارة العالمية. وتأتي في المقام الثاني المنطقة الاميركية الشمالية التي صارت المبادلات في ما بينها، منذ سريان مفعول اتفاقية التبادل بين الولاياتالمتحدةوكندا والمكسيك في 1 كانون الثاني يناير 1994، تمثل 9.2 في المئة من التجارة العالمية. وقد كان حوض البحر الابيض المتوسط يشكل، منذ اقدم العصور، مجالاً ممتازاً للمبادلات الاقليمية. ويبدو انه مرشح لاستعادة قدر من هذا الدور منذ ان رأت النور في التسعينات فكرة الشراكة الاوروبية - المتوسطية. وقد كانت الدولة الوحيدة التي شذّت عن قاعدة المحاذاة الجغرافية اليابان التي طبّقت حتى نهاية الثمانينات استراتجية تجارية تستهدف الاسواق البعيدة والمفتوحة لاميركا واوروبا. لكن منذ توقيع معاهدة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الباسيفيكي عام 1989، عاودت اكتشاف بُعدها الاقليمي وانفتحت على الصين القارية وآسيا البحرية. إذن فالعالم المتعولم ليس عالماً آحادياً، بل هو الى حد بعيد عالم مبرقش. والعولمة لا تعمل كمدحلة تسوّي تضاريس العالم، بل تجد في هذه التضاريس بالذات فيتاميناً منشطاً لآلياتها. اذ لو كف العالم عن ان يكون مختلفاً، فما حاجته الى ان يتعولم؟