ابتداء من المسرح الجديد، باعتباره الخطوة الأولى وصولاً الى المشروع الخاص بمثابة الحلم المشتهى، يواصل المسرحي التونسي فاضل الجزيري مسيرته في طريق تعبيري متميز، متحدياً انقلاباً في مفهوم الكتابة والعرض، مستمداً من الذاكرة كل ما يمت الى الحاضر بصلة ويرتبط بالمستقبل. فاضل الجزيري أحد رواد "المسرح الجديد" بات له عالمه وتجربته وقد انتقل من المسرح الطليعي وذي الملمح الثقافي الى المسرح المنفتح على ذاكرة الناس والتراث الفني. وحين انسحب الفاضل الجزيري من فرقة المسرح الجديد مثلما انسحب رفاقه ولا سيما المخرج الفاضل الجعايبي، عرفت الفرقة حالاً من التشرذم والتشتّت. لكن اعمالها ظلت من ابرز ما شهد المسرح التونسي من عروض طليعية وتجريبية. فالفاضلان الجزيري والجعايبي كانا ركنين اساسيين في تلك الفرقة التي لم يشهد لها المسرح العربي مثيلاً. في تونس التقيناه وهو في مخاض كتابة جديدة، فكان معه هذا الحوار: لنتحدث عن بداياتك خاصة فترة المسرح الجديد؟ - كنا صغاراً، وكان المسرح بالنسبة لنا ركيزة من ركائز المجتمع ويقع على عاتقه دور مهم في بناء الدولة الجديدة بمفهوم المهام الجماهيرية والفكرية والجمالية. تقابلنا مع إدراكنا بالمسرح"، إدراك شاب قبل أن يشيب، فذهبنا الى مدينة قفصة بجنوب تونس وكوّنا هناك مسرح الجنوب وأنتجنا مسرحيات حين نعود اليها نشعر بالسعادة والفرح والاعتزاز لأنها تتحدث عن المعذبين في الأرض. في ذلك الوقت طلب منا محمود المسعدي وكان وقتها وزيراً للثقافة أن ندرّس في المعهد العالي للمسرح الجديد، وكنا يومها مجموعة تتألف من محمد ادريس وفاضل الجعايبي وتوفيق الجبالي والمرحوم الحبيب المسروقي. فبدأنا التدريس وكنا متفهمين بأن علينا تبليغ رسالة بهذا المستوى ونحن ما زلنا طلبة. لا نعرف لماذا وما هو السبب، لكننا كنا مقتنعين بأن المهمة التدريسية لا تكفينا واعتزازنا بالإنتاج الأدبي والفني شكل مهنتنا، وكان همنا المسرح والسينما والشعر والصورة، ولذلك قررنا القيام بإنتاج فني بعد التدريس، وهذا ما حصل، قمنا بالتمارين خلال الليل، وعلى رغم توافر الوقت والإمكانات، إلا أننا وجدنا أنفسنا أمام مشكلة تنظيمية، وذلك بسبب انشغالنا بمركز الفن المسرحي في الوقت الذي كنا نتطلع للعمل بحرية في المسرح. عندها اقترحت أن تتحول الغرفة الى شركة انتاج رسمية لها نظامها الخاص. كان هذا عام 1975، وكان حدثاً في تاريخ تونس للمرة الأولى، لأن المسرح كان مرتبطاً بالسلطة المركزية، اقترحنا اسم فرقة المسرح الحر، فرفضه المسعدي يومها واقترح اسم المسرح الجديد كبديل، بعدما اعتبر أن تجربتنا جديدة ومتميزة ومختلفة، من هنا جاء اسم المسرح الجديد. هذه كانت الحكاية، ولكن ماذا عن أبرز أعمالك في تلك الفترة؟ - معظم المسرحيات ومنها العرس والورثة والتحقيق وغسالة النوادر ولام وعرب والعوادة... ثم انقطع المسرح الجديد عن الكلام المريح!!! لماذا؟ - كان طبيعياً مع ظهور فجر جديد... وهذا الانقطاع تزامن مع حرب الخليج. لنقف عند تجربتك السينمائية؟ - ضعف الحال منعني العمل بالسينما رغم أنها فن القرن. في الواقع أحب الكتابة ومهمتي أن أكون شاعراً ولو متواضعاً. لقد أجبرني ضعف الحال أن أكون منتجاً سينمائياً رغم الوقت الطويل الذي لزمني لإنتاج العرس ثم العبور وعرب، علماً أن هناك أكثر من ستة مشاريع راكدة ومحفوظة فوق الرف. عندما بدأنا الكتابة كان العرس الانطلاقة الأولى ثم أنتجنا الورثة ثم التحقيق فغسالة النوادر للتلفزيون بغرض الاتصال بالجمهور العريض وتبليغه أن الجمالية المطروحة مغايرة قليلاً. منذ عامين قدمت مجدداً، وبعد عشرين عاماً، مسرحية التحقيق، لماذا هذا الغياب، وأكاد أقول الغياب الكلي عن المسرح؟ - قدمت التحقيق للذكرى وعاودت كتابتها واخراجها تحية لإحدى الشخصيات المهمة فيها وهو الحبيب المسروقي الذي توفي انتحاراً عام 1980. البعض يدعي بأن اعادة التحقيق هي بمثابة إفلاس... هل هو كذلك فعلاً، أم لغاية لا يعرفها سوى فاضل الجزيري؟ - يبدو لي إفلاساً، ولكن نوعية الكتابة، وحسب رأيي، تختلف عما قدمناه عندما كنا شباباً، لذلك أجبرت نفسي لإعادة النظر بها وكتابتها بعد مراجعة... فهناك هذيان كبير جاء من إحساس غريب وقوي. الإفلاس ربما جاء من سؤال: ماذا فعلنا، وما هو الشيء الذي يمكن فعله؟ اذا كان من ناحية التصور والجديد، فيبدو لي أنها مهمة يومية، لأن صنعتنا، كما يقول أحدهم: فن الحرب وصناعة شاعر، انهما مرتبطان، وضروري أن يتساءل الإنسان وأن يشك في عمله وطريقة تعبيره، والتحقيق تحتمل التساؤل حول الإفلاس، هو "تحقيق" ويحتمل أن يتزامن هذا التساؤل مع تساؤل آخر حول المجتمع ككل وما مدى طاقته للتطور والتقدم وما معنى الحرية اليوم ومدى علاقتها بنا، فنحن لا نستطيع التحدث عن الحرية اليوم كما كنا نتحدث عنها قبل خمسين عاماً أو أكثر. فهل يا ترى ما زالت المفاهيم كما هي أم تبدلت؟! وهل هي نفس المفاهيم للتاريخ، بعد العراق وقصة حرب يوغوسلافيا وألبانها، أصبح التحقيق عندي، بكل هذه التساؤلات، راحة كبيرة، لأن النص المنطلق منه ساهم في كتابته. الفاضلان الجزيري والجعايبي ارتبطا لفترة طويلة، ثم جاء الانفصال، ما هي خلفيته من وجهة نظرك؟ - من الصعوبة أن نتحدث أو نضع صورة بشكل جماعي، وبسبب إصرار كل واحد للعمل بمفرده، تعثرت خطواتنا وتوقف تقدمنا، فجاء الانفصال طبيعياً كالناس الحساسين والمتفهمين لمهمتهم. بعد العوادة الذي قمنا بها سوية، وبعد فيلم لمحمود بن محمود، جاء شيش خان الذي كنت فيها منتجاً ومنفذاً فقط لما يطلب مني. التحقيق عمل جماعي وهو ظاهرة يختلف بشأنها النقاد، فماذا عنك، هل بعد 20 عاماً ما زلت مؤمناً بالنص الجماعي وما رؤيتك في التعامل مع النص المسرحي؟ - يبدو لي أن النص ولو كتبه شخص واحد يبقى عملاً جماعياً، لأن العمل في السينما عبارة عن علاقة مع الواقع، نسرق منه ما نريد، وبالأحرى فهو عملياً اختلاس الواقع لإدخاله في ذاك البيت المغلق والمظلم، وكل واحد يجلب معه لغته ونبرته الخاصة. في عملية الكتابة، لا أستطيع القول أن مشاركتي أهم من مشاركة الآخرين، لأن لكل واحد إيقاعه الذي يشعر به. في الكتابة هناك من يتماشى مع الإيقاع العام ويحرر نصاً حاضراً بمدة وجيزة، بعكس الفترة التي كنا نمضيها في كتابة مسرحية، وقد تعدت الفترة الزمنية حدود العام، ولذلك هي جماعية، وهذا موجود في خلاصة الكتابة، وأقصد الشعر، لأن المسرحية ما هي إلا قطعة شعر من ألفها حتى يائها"، كتابة الشعر عبارة عن ايقاع غريب له بصمته. عملية الكتابة فيها دقة وترقب ونقاشات صعبة قد تصل أحياناً الى قطيعة العمل أو الرضوخ اليه تماماً، واليوم ومهما كان عدد الفنانين الذين أتعامل معهم، يجب أن تكون البصمة بصمتي. هل أنت عاجز عن كتابة أو تقديم نص منفرد؟ - قناعتي الخاصة تقول إنني كتبت أكبر عدد من النصوص خلال السنوات العشر الماضية. ولكنك لم تكن وحيداً؟ - بلى، لأننا انقطعنا عن العمل الثنائي عام 1990، ومنذ ذلك الحين وأنا أكتب مسرحيات، ولكن من طراز آخر انطلاقاً من رؤية مختلفة وبعيدة جداً؟ لماذا هذا الانقلاب المفاجىء؟ - لم يكن انقلاباً، يمكنك اعتباره تغييراً ربما كان مغايراً، إلا أن التقنيات والعلاقة مع المسرح بقيت كما هي. كنت أكتب لخمس شخصيات في العمل الواحد، أصبحت أكتب لمئة أو مئتين بنفس التنظيم والإيقاع والسكون والثرثرة أحياناً، أي المعنى ذاته، ما عدا الموسيقى التي تختلف عن الإيقاع العام لأنني أقسّم ميزان الوقت على نصفين. تتحدث دائماً عن الذاكرة! - لا نستطيع العمل من دون ذاكرة، اللغة هي ذاكرة، الماضي كالحاضر كالمستقبل ما هو إلا ذاكرة. لا أحد ينتج بطريقة أخرى ولو ادعى عكس ذلك، فليس هناك طاقة انسانية خرجت عن إطار الذاكرة، انها ليست تاريخاً فقط، بل أكبر بكثير لأنها قادمة من تركيبتنا من شرايينا، حتى الكيمياء التي نحن منها هي ذاكرة. كنت أكتب مسرحيات لم يكن يتجاوز جمهورها ال500 أصبحت أكتب مسرحيات يحضرها 5 آلاف، كنت أكتب بإيقاع وبطرق تعبيرية تقتصر على ثلاث أو أربع شخصيات أصبحت أعتمد على مجموعات فنية كبيرة. بدأنا نتطور في الكتابة طمعاً بالوصول الى مستوى الأوبرا، وهذا يتطلب وقتاً طويلاً ومجهوداً مضنياً، ولي عشر سنوات أتعلم فيها الموسيقى، ليس من أجل أن أصبح منتجاً موسيقياً، بل من أجل المسرح والسينما والتلفزيون لأن العمل المرئي يجب أن يكتب بموسيقى وإيقاع خاصين. أصبحنا نختلف برؤيتنا للمسرح، ولذلك فتحت أمامنا مجالات الإبداع الخاص، حيث وجدت طريقة خاصة بلغة العصر. تراقب عن بعد ما يجري في الساحة الثقافية وكأنك لا تنتمي اليها، وصرحت في دار الثقافة المغاربية - ابن خلدون انك لم تشاهد مسرحية أو فيلماً سينمائياً منذ زمن طويل، ما سبب هذا الموقف؟ - ليس لدي الوقت الكافي، رغم عشقي الكبير للسينما. أليس هذا تناقضاً؟ - كلا، لأن الفكرة تلازمني وتعيش معي مما تسبب لي قلقاً دائماً، خصوصاً مع قرب تقديم أي عرض ضخم، وهذا ما يشكل هاجساً، وفي الوقت نفسه تبقى لدي طرقاً خاصة للاطلاع على الساحة. أرى أنها مجرد مبررات؟ - كلا، إلا أنني ابتعدت عنها مباشرة منذ العام 1985، حين عُزلت عن رئاسة اتحاد المسرحيين. إذاً هناك موقف؟ - وضعية المسرح عام 85 موضع نقد كبير، حيث لم يحدث أي شيء مهم لتطوير الحركة، ولذلك اتجهت نحو مجالات أخرى، سافرت معها وأمضيت نحو خمس سنوات قبل اتخاذ هذا الموقف، ولي حتى الآن عشر سنوات في صراع يومي من الناحية النظرية، الأمر الذي يتطلب جهداً ماثلاً. هل الخط الجديد الذي انتهجته هو تعبير عن رفضك للحركة الجديدة؟ - ما بين العامين 1985 و1990 كتبت عرب كمسرحية وفيلم ثم العوادة، ومنذ العام 1990 أخذت طريقاً مغايراً أراه مهماً - لأن على الإنسان أن يكون لديه موقف في إطار الإصلاح، ربما هو عبارة عن محاولة تعبير لنقد الماضي وتطوير المستقبل. لا نريد أن نقيّم واقع المسرح التونسي اليوم، ولكن السؤال، أين أنت من هذه الحركية؟ - أحتفظ برأيي ... أنا أجتهد ليل نهار من أجل انجاح مشروعي الخاص.