أمير حائل يستقبل سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى المملكة    وكيل إمارة المنطقة الشرقية يستقبل القنصل العام المصري    «حساب المواطن»: بدء تطبيق معايير القدرة المالية على المتقدمين والمؤهلين وتفعيل الزيارات الميدانية للأفراد المستقلين    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    أمير الرياض يطلع على جهود إدارة تعليم المنطقة في تنفيذ مشروع التحول والحوكمة    مدير فرع وزارة الصحة بجازان يفتتح المخيم الصحي الشتوي التوعوي    311 طالبًا وطالبة من تعليم جازان يؤدون اختبار مسابقة موهوب 2    ضيوف الملك يغادرون المدينة إلى مكة    د. الربيعة ل"الرياض": "التوائم الملتصقة" من دول الأزمات تخضع للرعاية السعودية    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    ترسية المشروع الاستثماري لتطوير كورنيش الحمراء بالدمام (الشاطئ الغربي)    السند يكرِّم المشاركين في مشروع التحول إلى الاستحقاق المحاسبي    حسين الصادق يستقبل من منصبه في المنتخب السعودي    غربلة في قائمة الاخضر القادمة وانضمام جهاد والسالم والعثمان وابوالشامات    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي واستعمال أوراق نقدية مقلدة والترويج لها    وزير الاستثمار: 1,238 مستثمرًا دوليًا يحصلون على الإقامة المميزة في المملكة    الجامعة العربية بيت العرب ورمز وحدتهم وحريصون على التنسيق الدائم معها    تعطل حركة السفر في بريطانيا مع استمرار تداعيات العاصفة بيرت    جبل محجة الاثري في شملي حائل ..أيقونه تاريخية تلفت أنظار سواح العالم .!    NHC تطلق 10 مشاريع عمرانية في وجهة الفرسان شمال شرق الرياض    وزير الصناعة في رحاب هيئة الصحفيين بمكة المكرمة    التدريب التقني ترصد 298 مخالفة تدريبية في النصف الأول من العام 2024 م    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    بمشاركة 480 خبيراً ومتحدثاً.. نائب أمير مكة يدشن «مؤتمر الابتكار في استدامة المياه»    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    انطلق بلا قيود    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    جينات وراثية وراء تناول الحلويات بشراهة    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الكرم" الإسرائيلي ولعبة النسب المئوية . مستويات السيطرة المتحكمة بالاستقلال الفلسطيني الشكلي 2 من 2
نشر في الحياة يوم 06 - 01 - 2001

} قارن خليل هندي في حلقة سابقة بين اتفاقات كامب ديفيد ومحادثات كامب ديفيد ليخلص الى أن "الحكم الذاتي الفلسطيني" هو أقصى ما تقبل به إسرائيل. وهو يستعرض في هذه الحلقة اواليات التحكم بالفلسطينيين بغض النظر عن تسمية الكيان الوليد.
من الواضح أن إسرائيل لا تريد ضم ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة والقطاع بمنحهم الجنسية. وقي الوقت ذاته فإنها توصلت بالخبرة المباشرة وخصوصاً عبر تجربتها مع الانتفاضة الأولى الى قناعة أن احتلال المراكز السكانية والإخضاع المباشر للسكان بالغا الكلفة. فكان أن طورت بالممارسة شبكة تحكم تتيح لها ترك السكان يديرون شؤونهم الذاتية بينما تظل هي تهيمن على مصائرهم وتسيطر فعلياً على البلاد ومواردها ولا يقتضي الإمساك بشبكة التحكم هذه الاحتلال المباشر للأرض جميعها ولا حتى للجزء الأكبر منها، إذ يكفي لذلك السيطرة على العقد الاستراتيجية وتشغيل آليات للضبط والحجر.
وليست شبكة السيطرة هذه أحادية المستوى، بل هي تتشكل من عدد من المستويات التي تتراكب لتشكيل بنية تراتبية محكمة. لكن المستوى الحاسم هو مستوى السيطرة الفيزيائية الذي يتشكل بدوره من ثلاثة مستويات فرعية هي مستوى الأرض ومستوى الطرق والحدود والمعابر ومستوى البنية التحتية.
المستعمرات
اما على مستوى الأرض فتلعب المستعمرات الدور الأهم. وإذا كانت إسرائيل تؤكد حتى الآن أنها لن تخلي اياً من المستعمرات الصغيرة المتناثرة في كل مكان من الضفة والقطاع وأنها يمكن أن تعترف بالسيادة الفلسطينية الاسمية عليها، بينما تحتفظ هي بالسيطرة عليها مدة طويلة من الزمن أو حتى غير محدودة، إلا أنه يمكن تصور وضع تقبل فيه إخلاء هذه المستعمرات الصغيرة بموجب تسوية. ولذا فإننا سنقصر بحثنا هنا على الكتل الاستعمارية التي تصر إسرائيل على أنها لن تتخلى عنها أبداً في أي حال من الأحوال.
وهنا تحتل منطقة القدس اهمية مفصلية. فلقد عمدت إسرائيل فور الاحتلال الى ضمها وفي الوقت ذاته وسعت حدود البلدية "الموحدة" لتصبح مساحتها 108 كيلومترات مربعة، منها 38 هي مساحة القدس الغربية والباقي 70 من الأراضي المحتلة عام 1967، معظمها 5،63 يشمل قرى فلسطينية مع أراضيها. هكذا أصبحت حدود البلدية تضم الولجة وشرفات وبيت صفاف وصور باهر والسوامرة الشرقية وجبل المكبر وسلوان والطور ووادي الجوز والشيخ جراح وشعفاط، إضافة الى ما أصبح يسمى "أصبع القدس" الذي يمتد شمالاً ليضم منطقة قلنديا من المخيم الى مشارف كفرعقب ورام الله/ البيرة. ومن الواضح أن تخطيط حدود البلدية جرى حيث يمكن ضم أكبر مساحة ممكنة من الأراضي بأقل عدد من السكان. ومنذ الضم عام 1967، عمدت إسرائيل الى بناء طوق داخلي من المستعمرات اهمها جيلو وجفعات هامتوس وحارهوما جبل ابو غنيم وطالبيوت الطالبية الشرقية وجفعات شابيرا وجفعات مفتار ورامات اشكول وريخيس شعفاط وراموت وبيسجات عوفر وبيسجات زئيف ونيفيه ياكوف النبي يعقوب وعلماروت قلنديا، إضافة الى مستعمرات صغيرة اهميتها أنها تقع في قلب المناطق السكنية العربية رأس العامود، الشيخ جراح، سلوان ونتيجة لهذا التوسع الاستعماري أصبح عدد السكان اليهود في القدس الشرقية الموسعة أكبر من عدد السكان العرب بما يزيد على 200 ألف نسمة نحو 430 ألف يهودي في مقابل 200 ألف عربي.
وفي عام 1995 أي بعد أوسلو وضعت خطة القدس الكبرى Greater Jerusalem وتضم ضمن حدودها القدس البلدية إضافة الى طوق خارجي من المستعمرات من بينها بيت هورون وجفعات زئيف وألمون وكفار أدوميم وألون وقسبيه اريحا التي تكاد تحاذي نهر الأردن ومعاليه أدوميم وكيدار وبيتار وكتلة مستعمرات عسقيون. وتخطط إسرائيل لزيادة عدد سكان هذا الطوق الخارجي الى 250 ألف نسمة مع نهاية العقد الجاري.
أما حاضرة القدس Metropolitan Jerusalem فتمتد من بيت شيمش في الغرب داخل حدود 48 عبر مستعمرة كريات سيفير لتضم قريتي بيت عور وعين عريك ثم مدينة رام الله/البيرة ومستعمرات بيت ايل وبساغوت وكوخاف ياكوف وقرية دير دبوان ومستعمرتي معاليه مخماس وآدم ثم تتجه جنوب شرق عبر معاليه أدوميم وقسبيه اريحا ثم جنوب غرب لتضم قرى العبادية والشواوره والزعاتره وبيت ساحور وبيت جالا ومدينة بيت لحم لتتجه من ثم غرباً مرة اخرى الى مستعمرتي بيتار وصور هداسا ليكتمل الطوق ثانية في بيت شيميش.
وربما كانت إسرائيل تهدف من إدماج مناطق فلسطينية آهلة ضمن حاضرة القدس لتسهيل "حل" مسألة القدس بأن تفرض على الفلسطينيين أن تكون لهم قدسهم رام الله/ البيرة، بيت لحم/ بيت جالا/ بيت ساحور ويكون لها ما تبقى. غير أن الأهم هو أن عملية الإدماج هذه ترمي الى ضمان ألاّ تتمتع هذه المناطق بغير الإدارة الذاتية للسكان مهما كانت التسميات. فحتى لو تم رسم حدود تفصل رام الله/ البيرة وكذلك بيت لحم/ بيت جالا/ بيت ساحور فإن هاتين المنطقتين العربيتين ستظلان عملياً جزءاً من حاضرة القدس الإسرائيلية، ملحقتين اقتصادياً بالمناطق اليهودية الأكثر دينامية وحركية وتعتمدان في نموهما وتطورهما على ما تخططه السلطات الإسرائيلية لحاضرة القدس ككل. فعلى سبيل المثال، يجري حالياً بناء منطقة صناعية إسرائيلية جنوب شرقي رام الله تستهدف إدماج مستعمرات بيت ايل وعوفره وبساجوت وكوخان ياكوف ومعاليه مخماس وآدم في اقتصاد القدس، لكن من الواضح أنها تستهدف أيضاً الحد من احتمالات نمو رام الله/ البيرة اقتصادياً بشكل مستقل.
هكذا فإن احتفاظ إسرائيل بالسيطرة على حاضرة القدس سيضمن لها الهيمنة على القطاع الأوسط من الضفة الغربية بأكمله وفصل شمال الضفة عن جنوبها. وإذا كانت الولايات المتحدة اقترحت خلال محادثات كامب ديفيد بناء معبر يصل بيت لحم برام الله، فإن معبراً كهذا لن يغير من حقيقة الفصل الجغرافي شيئاً، إضافة الى أنه سيكون تحت رحمة إسرائيل.
من الأهمية بمكان في هذا الصدد أن نعيد التأكيد ان إسرائيل ليست بحاجة كي تحقق هذه الهيمنة وهذا الفصل الجغرافي الى ضم غير نسبة مئوية صغيرة نسبياً من أراضي الضفة. فعلى رغم عدم توافر أرقام دقيقة، تقدر مساحة أراضي الضفة الغربية المشمولة ضمن مخطط حاضرة القدس بنحو 660 كيلومتراً مربعاً، أي ما يعادل 11 في المئة من مساحة أرض الضفة والقطاع التي تبلغ نحو 6000 كيلومتر مربع، ولربما كان يكفي إسرائيل أن تضم أقل من نصف هذه الأراضي أي نحو 5 في المئة حتى تتيسر لها الهيمنة التي تريد.
وتحتل "مستعمرات السامرة" المرتبة الثانية بعد مستعمرات القدس من حيث أهميتها في شبكة السيطرة الإسرائيلية. فهذه المستعمرات التي تضم ألفي مناشيه، يتزهار، براشا، الكانا، آريئيل وهي اكبرها، أتامار، شيلو، ومعاليه افرايم تمتد من الغرب الى الشرق حتى نهر الأردن جنوب قلقيلية ونابلس وشمال سلفيت لتفصل شمال الضفة قلقيلية، نابلس، جنين، طولكرم عن شمال وسطها رام الله. ومرة ثانية ليست إسرائيل بحاجة الى ضم أراض كبيرة كنسبة مئوية من مجمل أراضي الضفة والقطاع حتى يتيسر لها هذا الغرض.
شبكة الطرق
على أن المستعمرات لا تكتسب أهميتها في شبكة السيطرة الإسرائيلية إلا من حيث علاقتها بالطرق، الرئيسية منها والصغرى الالتفافية. فهذه الطرق مصممة حيث تدمج المستعمرات بالداخل الإسرائيلي من جهة وتفتت المساحة الجغرافية التي يحتلها السكان العرب الى جزر معزولة بعضها عن بعض وكذلك عن الخارج، ولا شك في أن أهم الطرق سيكون الطريق الرئيسي العابر لإسرائيل الرقم 6 الذي سيمتد على طول الخضر الأخضر حدود الضفة الغربية مع إسرائيل والذي يجري التخطيط لإعادة إسكان مئات الألوف من الإسرائيليين على جانبيه حيث يصبح "العمود الفقري" لإسرائيل تنتشر حوله المدن والقرى والمستعمرات الإسرائيلية حيث يتم دمج حواضر القدس وموديعين وتل أبيب معاً ودمج حوالى 70 في المئة من المستعمرين الإسرائيليين في الحاضرة الكبرى الناجمة عن ذلك. وهكذا سيجري عملياً "توحيد" مساحة قدرها 4 آلاف كيلومتر مربع تمتد من اسدود الى ناتانيا شمالاً ثم شرقاً حتى نابلس ثم جنوباً الى بيت لحم ثم غرباً ثانية الى أسدود لتصبح قلب المنطقة كلها وتضم المدن والقرى الفلسطينية بغض النظر عما إذا كانت هذه محكومة ذاتياً أم لا.
وهناك من بعد شبكة الطرق الفرعية التي تكمل مخطط الطريق الرئيسي العابر لإسرائيل. وهذه تتشكل من محاور تمتد شمالاً جنوباً وأخرى تمتد غرباً شرقاً. فالطريق الرقم 60 الذي يمتد من بئر السبع في الجنوب الى الناصرة في الشمال ماراً بالخليل وبيت لحم ورام الله ونابلس وجنين يقسم الضفة الغربية الى نصفين تقريباً. ثم هناك الطريق الرقم 80 الذي يمتد موازياً الطريق الرقم 60 والذي يمتد من عراد الى القدس محيطاً ببيت لحم وفاصلاً أبو ديس عن القدس. أما الطريق الرقم 90 فيمتد من المطلة في الشمال الى إيلات في الجنوب قاطعاً غور الأردن وماراً في بيسان وأريحا ثم محاذياً البحر الميت. وتكتمل الشبكة ومعها تقطيع الضفة بالطرق الممتدة غرباً شرقاً. فهناك عابر السامرة الطريق الرئيسي الرقم 5 الذي يمتد من الساحل الى غور الأردن عبر مستعمرة آريئيل، والطريق الرقم 45 من موديعين الى معاليه أدوميم عبر الجزء الشمالي من القدس، والطريق الرقم 1 من تل أبيب الى وسط القدس الى معاليه أدوميم ومن ثم الى جسر عبدالله بن الحسين على نهر الأردن، وأخيراً طريق أسدود - عمان الرئيسي الطريق الرقم 7 الذي يمتد من الساحل عبر مستعمرات بيتار وغوش عتصيون جنوب القدس الى معاليه ادوميم ومن ثم الى نهر الأردن فعمان.
وإضافة الى هذه الطرق جميعاً هناك نحو 30 طريقاً من الطرق الالتفافية التي تصل المستعمرات بعضها ببعض وبإسرائيل، وهكذا نجد أن شبكة الطرق والتي تصر إسرائيل على السيطرة عليها في أي تسوية كفيلة وحدها بإدماج الضفة الغربية مع إسرائيل وفي الوقت ذاته بعزل التجمعات السكانية العربية عن بعضها بعضاً وعن الخارج مما يجعل أي "استقلال" فلسطيني ضمن هذه الشروط اسمياً فحسب لا يتعدى في الواقع كونه إدارة ذاتية للسكان. وتكتمل السيطرة الإسرائيلية على المستوى الفيزيائي بالسيطرة على الحدود والمعابر والمطار، وكذلك الميناء في المستقبل، إضافة الى السيطرة على مكونات البنية التحتية: الاتصالات وشبكة الكهرباء ومصادر المياه وشبكة المياه.
السيطرة الاقتصادية
غير أن السيطرة على البنية التحتية تشكل أيضاً جزءاً من شبكة السيطرة على مستوى آخر لا يقل أهمية هو المستوى الاقتصادي. وهناك من يعتقد أن السيطرة الاقتصادية الإسرائيلية تستهدف استغلال المناطق المحتلة اقتصادياً. لكن الأغلب أن هذه السيطرة هي في المقام الأول آلية من آليات الإلحاق السياسي، جرياً على العادة الصهيونية، منذ ما قبل إنشاء الدولة في إخضاع الاقتصاد للسياسة. وفي هذا الصدد يلعب الدور الأهم عاملان، أولهما العمالة الفلسطينية في إسرائيل والمستعمرات والمناطق الصناعية الإسرائيلية المقامة على جانبي الخط الأخضر، وثانيهما الاتحاد الجمركي المفروض على المناطق المحتلة. وتستخدم العمالة الفلسطينية في آن معاً كعصا وكجزرة: إذا "أساء" الفلسطينيون التصرف يفرض الإغلاق ويحرم العمال من أعمالهم، ثم يلوح بالسماح لهم بالعمل شريطة أن يمتثل الفلسطينيون لما تريده إسرائيل.
على أن للعمالة الفلسطينية في إسرائيل أيضاً آثاراً بنيوية تعزز الإلحاق والتبعية. ذلك أن الارتفاع النسبي في أجور هذه العمالة يشوه سوق العمل لأنه ليس انعكاساً لمكتسبات في الإنتاجية المحلية. وهذا بدوره يؤثر في الاقتصاد بطريقتين تعزز الواحدة منهما الأخرى. ففي جانب العرض ترتفع أكلاف الإنتاج وتنخفض الربحية وتتلاشى القدرة على المنافسة في الأسواق الأجنبية، وهذا كله يحبط الإنتاجين الزراعي والصناعي. أما في جانب الطلب فإن الزيادة في الدخل تؤدي الى زيادات في الطلب الكلي في الاقتصاد المحلي دون زيادات موازية في الإنتاج المحلي، فتكون النتيجة زيادة في الواردات من إسرائيل وعبرها طبعاً، وزيادة في الأسعار عموماً، مما يحفز بدوره على مزيد من العمل في إسرائيل والمستعمرات.
مع ذلك، فإن خبراء المنظمات الاقتصادية الدولية لا يكفون عن تأكيد علاقة وثيقة ما بين الاقتصاد الفلسطيني الصغير الفقير والاقتصاد الإسرائيلي الكبير القوي الثري يمكن أن تعود بالفائدة على الاقتصاد الفلسطيني، نتيجة زيادة الطلب على منتوجات الاقتصاد الأصغر وانتقال التكنولوجيا والمعرفة إليه، إضافة الى مزايا "الانتشار" الناجمة عن فرص التعاقد من الباطن والمشاريع المشتركة وتنسيق السياحة وغير ذلك من الخدمات. لكن الواقع ان العلاقة الوثيقة حالت وتحول دون قيام صناعات فلسطينية صغيرة في وجه المنافسة من الصناعات الإسرائيلية الأقوى والأكفأ والأكثر تقدماً. ولعل أكثر ما يمكن ان يطمح إليه الاقتصاد الفلسطيني في ظل مثل هذه العلاقة الاقتصار على إنتاج السلع التي لا تحتاج مهارات عالية والاستمرار في تصدير اليد العاملة الى إسرائيل. وفي هذا الصدد يلعب الاتحاد الجمركي المفروض على الأراضي المحتلة، والذي تصر إسرائيل على أنه سيكون الناظم لعلاقاتها مع "الدولة" الفلسطينية المستقبلية، دوراً حاسماً. ففي ظل هذا الاتحاد يجري تحديد التعرفات حيث تتم حماية الصناعات الإسرائيلية حتى في ظل برنامج الانفتاح التجاري التدريجي الذي تقوم إسرائيل بتنفيذه حالياً. وهذه التعرفات تزيد أسعار السلع الرأسمالية والوسيطة التي يستوردها الاقتصاد الفلسطيني، وبذلك ترتفع أكلاف الإنتاج الفلسطيني ويخسر الاقتصاد الفلسطيني أي ميزة نسبية له وترسو العلاقة الاقتصادية على قاعدة الأفضلية المطلقة للاقتصاد الإسرائيلي.
الاتحاد الجمركي
على أن للاتحاد الجمركي دوراً سياسياً مهماً أيضاً. فمن جهة لا تعود "الدولة" الفلسطينية بحاجة اقتصادياً الى السيطرة على الحدود والمعابر ما دامت سلطات الاتحاد الجمركي الإسرائيلية تقوم بجباية التعرفات والجمارك والمكوس نيابة عن الطرفين. ومن جهة ثانية، فإن إسرائيل تقوم بموجب هذا الترتيب بإعطاء السلطة الفلسطينية "حصتها" من الجمارك شهرياً، مما يوفر لها آلية سيطرة اخرى، إضافة الى كل آليات السيطرة التي تطرقنا إليها سالفاً. وقد كان من نتائج الاتحاد الجمركي أن عانت السلطة الفلسطينية ولا تزال التسرب الضريبي، ذلك أن إسرائيل لا تحول الى السلطة سوى الجمارك على الشحنات المعنونة الى الضفة والقطاع. وبما أن غالبية الواردات الفلسطينية تأتي عن طريق وسطاء إسرائيليين كجزء من شحنات معنونة الى شركات إسرائيلية، فإن السلطة لا تتلقى أي جمارك عنها. وقد حاولت السلطة معالجة هذا الأمر بوضع نظام تراخيص للاستيراد لا يستطيع أحد بموجبه أن يستورد شيئاً عبر إسرائيل إلا بترخيص. وكان من نتيجة ذلك مفاقمة ميل السلطة الى تعزيز الاحتكارات وحصر النشاط الاقتصادي بحل المشكلة تماماً، إذ لا يزال من غير الممكن تقاضي جمارك عن المداخيل غير الإسرائيلية في السلع المستوردة مباشرة من إسرائيل.
والجدير بالذكر أن البنك الدولي استفاق أخيراً، فأوصى في تشرين الثاني نوفمبر الماضي بأن تلغي السلطة الفلسطينية اتفاقيتها الجمركية مع إسرائيل، لتصبح وحدة تجارية قائمة بذاتها تفرض جمارك أخفض وتتوصل الى اتفاق تجاري جديد مع إسرائيل يقوم على التكافؤ مع شركاء إسرائيل التجاريين الآخرين، وهذا يعني بدوره فرض ضرائب جمركية على تجارة البضائع بين الطرفين. ولن تستطيع فلسطين المستقبل الفكاك من قبضة السيطرة الاقتصادية الإسرائيلية إلا بإعادة الارتباط بالداخل العربي عبر الأردن ومصر.
آليات الاستمالة
وتفضي آليات السيطرة الاقتصادية بدورها الى آليات من نوع آخر يمكن تسميتها آليات الاستمالة Cooption. وقد كان نصيب هذه الآليات من النجاح محدوداً حتى الآن بفعل آثار احتدام الصدام الفلسطيني - الإسرائيلي، لكنها مرشحة للعب دور حيوي الأهمية إذا ما ساد الهدوء والاسترخاء العلاقات بين الطرفين. والواقع أن كلاً من هذه الآليات تحمل في ثناياها بذور نقيضها. مثلاً، لا بد من ان إسرائيل كانت تتوقع أن تؤدي عمالة أكثر من 125 ألف فلسطيني في إسرائيل والمستعمرات الى قدر من ارتباط هؤلاء وعائلاتهم مصلحياً باستمرار علاقة السيطرة - التبعية فيشعرون بالود تجاه إسرائيل ما دام الأمر يتعلق بلقمة عيشهم ذاتها. ولكن إضافة الى الطابع الإشكالي لعلاقة العامل برأس المال هناك المعاملة السيئة التي يلقاها العمال على المعابر وفي أماكن العمل والطول البالغ ليوم العمل إذا ما أضيفت له ساعات السفر، إضافة الى شعور المهانة الوطنية، مما يملأ العمال حنقاً واستلاباً.
وإذا كان عدد من العمال الفلسطينيين مضطراً الى العمل في بناء المستعمرات لتحصيل لقمة العيش، فإن عذراً كهذا لا يتوافر لبعض المقاولين وأصحاب آلات البناء الثقيلة والشاحنات وموردي مواد البناء، مثل الطوب والحصى والحجارة، الفلسطينيين الذين يعملون هم أيضاً في بناء المستعمرات. بل إن تحقيقاً في إحدى الصحف الإسرائيلية يسمي اثنين من كبار رجال السلطة الفلسطينية مدعياً أن لمصالحهما التجارية علاقة ببناء المستعمرات هآرتز، 25 أيلول - سبتمبر - 2000. ونحن لا نذهب الى أن هذا الادعاء صحيح بالضرورة، لكن مجرد سوقه يلقي الضوء على التفكير الإسرائيلي: السعي الى ربط قطاع من رجال الأعمال الصغار ومتوسطي الحجم ورجال السلطة لا بالاقتصاد الإسرائيلي فحسب، بل وأىضاً بعملية بناء المستعمرات ذاتها.
ومن اللافت أن عدداً من مروجي المشاريع المشتركة من الإسرائيليين هم من ضباط المخابرات الإسرائيلية شين بيت السابقين الذين ساموا الشعب الفلسطيني العذاب. ولعل أسوأ هؤلاء صيتاً يوسي غينوسار، الذي كان مسؤولاً عام 4198 عن قتل فدائيين فلسطينيين بعد إلقاء القبض عليهما قضية الباص 300، والذي حالت المحكمة الإسرائيلية العليا بعد ذلك بتسعة اعوام دون تعيينه مديراً لوزارة الإسكان لأن من يتبوأون مناصب عامة "ينبغي أن يحافظوا على مستوى مناسب من السلوك الأخلاقي. ويبدو أن التصرف الإسرائيلي في هذا المضمار يقوم على قاعدة "الازدهار الفردي والدفاع الوطني"، أي أن من مصلحة إسرائيل أن يزدهر عدد من الأفراد، في الوقت الذي تتم الحيلولة دون نمو اقتصاد وطني مزدهر، على أساس ان ازدهار الأفراد يمكن أن يؤدي الى ارتياح عام يساعد على الاستقرار. من هنا، نجد أحد المعلقين الإسرائيليين يقول في معرض نفيه عن السلطة تهمة الضلوع في تفجير الانتفاضة الثانية، ان "رسميي السلطة الفلسطينية كانوا يعملون باستمرار لتشجيع استثمارات اقتصادية رئيسية... كما أنهم استثمروا قدراً كبيراً من أموالهم هم... وما كانوا ليفعلوا ذلك لو أنهم كانوا يتوقعون حوادث دموية". ويضيف أن "قادة السلطة الفلسطينية ابتنوا لأنفسهم بيوتاً أنيقة ومكاتب ومقرات كلفت الكثير من الأموال داني روبنشتاين، هآرتز، 6 تشرين الثاني - نوفمبر - 2000.
قصدت هذه المقالة تبيان أن استقلالاً فلسطينياً حقيقياً جديراً بأن يطلق عليه اسم "دولة" يقتضي من جهة إزالة الاستيطان كاملاً، وعلى الأخص الكتل الاستعمارية الكبرى ويقتضي من جهة ثانية تحطيم آليات السيطرة الإسرائيلية. وهذا الشرط الثاني يتضمن بدوره السيطرة على الحدود والمعابر والطرق الداخلية وتحقيق استقلال اقتصادي يسمح بربط فلسطين بالداخل العربي عبر الأردن ومصر. أما إذا تم القبول بالإبقاء على الكتلة الاستيطانية على أساس أن ذلك "يعيد" للفلسطينيين نحو 95 في المئة من الأرض وجرى ذلك دون نزع السيطرة الإسرائيلية فإن الحل الناجم سيتمخض عن حكم ذاتي للسكان لا أكثر، سواء أطلق عليه اسم "دولة" أم لا وسواء كانت لهذا الحكم الذاتي "عاصمة" في القدس أم لا. وإذا ما آلت الأمور الى مثل هذه الحال، فليس بعيداً ان يخرج هرتزل وجابوتنسكي وغيرهما من آباء الصهيونية المؤسسين من قبورهم ليشكلوا حلقة رقص صاخب جذل احتفالاً بسيطرة خلفائهم على "أرض إسرائيل" كلها، وقد يفعلون ذلك في الليل بعيداً عن العيون خشية أن يفطن العرب".
* أكاديمي فلسطيني مقيم في لندن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.