يعيش الفلسطينيون هذه الأيام ذكرى النكبة التي حلت بهم قبل 50 عاماً، في وقت يحتفل فيه الاسرائيليون بالمناسبة نفسها ولكن تحت اسم مختلف هو "عيد الاستقلال" وذكرى قيام اسرائيل. خمسون عاماً مرت منذ بدأت المأساة الفلسطينية العربية والتي كانت اساس النزاعات والحروب في المنطقة في ما صار يعرف باسم "مشكلة الشرق الأوسط"، خصوصاً بعد الاحتلال الاسرائيلي لما تبقى من فلسطين، وشبه جزيرة سيناء المصرية، وهضبة الجولان السورية، في أعقاب حرب الخامس من حزيران يونيو لعام 1967 وما زالت آثار وتفاعلات تلك الحرب تلقي بظلالها على مختلف نواحي حياة شعوب المنطقة. ويحفل التاريخ العربي المعاصر، والفلسطيني منه على وجه الخصوص بالكثير من الذكريات المريرة والمناسبات المؤلمة، فتشريد الشعب الفلسطيني من أراضيه في عام 1948، أخذ اسم "النكبة"، واحتلال ما تبقى من أراضيه وأراض عربية أخرى في حرب حزيران يونيو 1967، التي تصادف هذه الأيام ذكرى مرور واحد وثلاثين عاماً عليها، أخذ اسم "النكسة"، وما بين هذه وتلك حصلت عشرات المجازر التي أبيد فيها الأبرياء من النساء والاطفال والشيوخ، ولعل اكثرها شهرة "مذبحة دير ياسين" التي يتفق معظم الروايات على ان ما لا يقل عن 200 شخص من تلك القرية المنكوبة قتلوا بالرصاص والسكاكين والبلطات، ودمرت منازلها في عام 1948، اضافة الى مذابح، كفر قاسم، وقبية، والسموع والدوايمة في الضفة الغربية، ومذابح صبرا وشاتيلا في بيروت، ومذابح أخرى لم يكشف عنها، أو انها لم تصل الى مسامع الصحافة. ومن الصعب حصر الويلات والخسائر التي أحاقت بالشعب الفلسطيني منذ نكبته قبل 50 عاماً في تقرير صحافي، لكننا سنحاول عرض بعض مظاهر البطش والممارسات الاحتلالية في صورة عامة، والتي لجأت اليها اسرائيل بعد احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1967، والمتمثلة اساساً في مصادراتها للأراضي، وبناء المستوطنات، وهدم البيوت، وتخريب البيئة، وسيطرتها على المياه، وإلحاق الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الاسرائيلي، والإغلاقات التي قامت بها ولا تزال، وجوانب أخرى، كل ذلك بهدف ايجاد وقائع تحول دون امكان قيام دولة فلسطينية بينها وبين شرقي الأردن. ولعل من المفيد التذكير ان هذا الهدف شكل المحور الاساسي في السياسة الاسرائيلية منذ الأسابيع الأولى للاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، حيث أطلقت اسرائيل ما عرف في حينه باسم "مشروع ألون"، وزير العمل في حكومة ليفي أشكول، في تموز يوليو من عام 1967، القاضي بإقامة سلسلة من المستوطنات على طول نهر الأردن وضمها الى اسرائيل وإبقاء النهر الحدود الطبيعية بين اسرائيل والأردن، وترك أقل من نصف مساحة الضفة الغربية تحت ادارة فلسطينية مرتبطة باسرائيل وتحت إشرافها، ثم عدل هذا المشروع في عام 1979 في ما عرف باسم مشروع "ألون الموسع"، جرى فيه تضييق المساحة المخصصة في المشروع الاصلي للفلسطينيين، بإنشاء حزام استيطاني آخر على جانبي الخط الأخضر الخط الوهمي الفاصل بين اسرائيل والضفة الغربية، الى ان جاء الليكود في عهد نتانياهو ليعدل مشروع ألون مرة اخرى ويسمى مشروع "ألون ""، ويقضي بقضم المزيد من أراضي الضفة الغربية، وإقرار "حق" اليهود في الاستيطان في "كامل أرض اسرائيل"، أي في كامل أرض فلسطين الانتدابية. ولتحقيق هذا الغرض قامت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، من العمل والليكود، منذ عام 1967 وحتى الآن بمصادرة الأراضي الفلسطينية واقامة المستوطنات التي باتت تهدد الوحدة الجغرافية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل وزادت وتيرة الاستيطان ومصادرة الأراضي منذ توقيع اتفاق اوسلو وحتى الآن، ولعل ما سمي بشق الطرق الالتفافية كان أوسعها، وهو المشروع الذي نفذته اسرائيل عشية وغداة قيام السلطة الفلسطينية، لشق طرق تضمن التواصل الجغرافي بين المستوطنات الاسرائيلية، وبينها وبين اسرائيل من دون المرور في التجمعات السكانية الفلسطينية. وقبل ان يدخل وقف اطلاق النار حيز التنفيذ في حرب حزيران يونيو 1967، قامت الجرافات الاسرائيلية بتدمير ثلاث قرى فلسطينية في منطقة اللطرون غرب رام الله، وتشرف على طريق تل أبيب - القدس، هي "عمواس" و"يالو" و"بيت نوبا"، بعد ان طردت سكانها تحت تهديد السلاح، وقتلت عدداً منهم رمياً بالرصاص، أولئك الذين تجرأوا على العودة لأخذ بعض متاعهم، ولم يبق من أثر لتلك القرى، سوى بناية الدير الشهير المعروف باسم "دير اللطرون" في قرية عمواس، وأزالت كل أثر يدل على الحدود السابقة الفاصلة بين تلك المنطقة واسرائيل، وشقت فيها طرقاً جديدة، ووسعت طريق القدس - تل ابيب، على حساب أراضي قرية عمواس، وأقامت معابر وجسوراً، بل وأقدمت على بناء منتزه في مكان تلك القرى بتمويل كندي، أطلقت عليه اسم "كندا بارك"، واستغلت حادثة تاريخية معروفة عندما أصاب الطاعون جيوش المسلمين بقيادة عبيدة عامر بن الجراح أيام الفتح الاسلامي التي كانت معسكرة في عمواس، فوضعت لافتة باللغة الانكليزية، تقول ان المنطقة نكبت بمرض الطاعون أيام العهد الروماني وهلك جميع سكانها، وذلك في محاولة منها لإخفاء جريمتها بترحيل السكان وتدمير القرى الثلاث. القدس... ضم مبكر ربما هم قلائل، في ما عدا المهتمين، أولئك الذين يعرفون ان ضم القدسالشرقية الى اسرائيل تم بعد أيام قليلة من احتلال المدينة المقدسة، وتحديداً في 27/6/1967، أي بعد أقل من ثلاثة اسابيع على التاريخ الرسمي لانتهاء حرب حزيران يونيو من ذلك العام. وكانت القدس من حيث مكانتها الدينية والسياسية، أهم "غنائم" حرب 1967، فإسرائيل التي لم تكن قادرة على الدخول الى أماكنها المقدسة في القدس القديمة حائط المبكى، والمقبرة اليهودية على جبل الزيتون، لپ19 عاماً مضت، امتلكت بعد تلك الحرب القدرة على تحقيق مشروعها الخاص بقدس "موحدة"، في ظل السيادة اليهودية الدائمة، حيث وقف موشيه ديان، وزير الحرب في حكومة ليفي أشكول، عند حائط المبكى، والمعركة لا زالت دائرة ليقول: "يا أورشليم، لن نتركك بعد الآن أبداً"، وظلت هذه العبارة تحكم السياسة الاسرائيلية حتى يومنا هذا. ولم يمض وقت طويل بضعة أشهر، حتى كانت اسرائيل تحيط القدسالمحتلة بسور محكم من المستوطنات في جميع الاتجاهات، في أحياء يهودية أطلقت عليها تسميات عبرية، مثل حي "رمات أشكول" و"نفي يعقوب" و"آرمون هسرفتيت" في الشمال، و"معاليه أدوميم" في الشرق، و"آرمون هنتسيف" و"غيلو" في الجنوب، وضمت أحياء جديدة الى نفوذ المجلس البلدي "الموحد"، ووسعت من حدود البلدية، ما عرف باسم "القدس الكبرى" التي تصل حدودها الى تخوم رام الله شمالاً، وأجزاء من بيت لحم جنوباً، وفي الوقت ذاته الذي عملت فيه على طرد السكان العرب من أحياء القدس القديمة، وتضييق رقعة البناء للمواطنين العرب، وسحب الهويات لمن يقيمون خارج حدود البلدية، لتصل في النهاية نسبة السكان العرب الى اليهود في القدس حسب التعريف الاسرائيلي الى نحو 22 في المئة فقط. ويقول الباحث الفلسطيني في شؤون الاستيطان، خليل تفكجي، ان المدينة مرت في مراحل عدة قبل ان تصل الى وضعها الحالي، فمساحتها قبل عام 1948 وصلت الى 20 كيلومتراً مربعاً، وبعد تقسيمها في ذلك العام، لم يتبق تحت السيطرة العربية الأردنية سوى كيلومترين مربعين، هي البلدة العتيقة وبعض الاحياء خارج أسوارها، ثم توسعت في عام 1953 لتصل الى 6.5 كيلومتراً مربعاً. وبعد العام 1967، عقب سقوطها بالكامل تحت السيطرة الاسرائيلية، قامت السلطات الاسرائيلية بتوسيع حدودها فضمت اليها 28 قرية عربية محيطة تصل مساحتها الى نحو 70 كيلومتراً مربعاً، ليصبح اجمالي مساحتها شرقيها وغربيها نحو 123 كيلومتراً مربعاً، وتضم القدسالشرقية، حسب المفهوم الاسرائيلي، 160 ألفاً من اليهود مقابل 150 ألفاً من العرب، داخل البلدة القديمة وفي الاحياء الاستيطانية المحيطة بها. بداية الاستيطان ومن المفيد ان يعاد الى الذاكرة، أن أول مستوطنة اسرائيلية اقيمت، لم تكن في الضفة الغربية ولا في قطاع غزة، بل على أرض الجولان السورية في 15/7/1967، وسميت "ميروم هغولان"، بعد مضي أقل من شهر على احتلال الهضبة، حيث أقيمت بالقرب من مدينة القنيطرة السورية التي جرى تدميرها في ما بعد بالكامل، وما إن حل عام 1967 حتى اقيمت 14 مستوطنة اسرائيلية على الأراضي السورية، اضافة الى ثماني مستوطنات قيد الانشاء، واستغلت نحو 140 ألف دونم للأغراض الزراعية، تستهلك نحو 12 مليون متر مكعب من المياه السورية في العام الواحد. وانشئت المستوطنة الاسرائيلية الأولى على الأراضي الفلسطينية التي جرى احتلالها في عام 1967 في 10/4/1968، بعد أقل من عام من الاحتلال، وأقامها الحاخام الاسرائيلي المتطرف موشيه ليفنغر، واعترفت الحكومة الاسرائيلية بها رسمياً في ايلول سبتمبر من العام نفسه، وتقع بالقرب من الخليل في الضفة الغربية وأطلق عليها اسم "كريات أربع"، ونما عدد سكانها من 15 مستوطناً عند التأسيس الى نحو 1200 مستوطن في عام 1975 يمثلون 44 في المئة من المستوطنين آنذاك باستثناء مستوطني منطقة القدس. وفي كانون أول ديسمبر من عام 1988 خاطب اسحق شامير الليكودي اعضاء حكومته بالقول "العالم كله يريد ان ننسحب من يهودا والسامرة"، التسمية الاسرائيلية للضفة الغربية، خلال مناقشة لموضوع الانتفاضة التي أكملت لتوها عامها الأول، واضاف: "لقد ضجروا من هذا النزاع، والعالم يركز على الانسحاب الاسرائيلي أكثر من تركيزه على الحاجة الى السلام"، وهذا يشكل تنافراً واضحاً بين الاجماع الدولي المؤيد لمبدأ "الأرض مقابل السلام" وبين ما تراه اسرائيل من ان سيطرتها الدائمة على الأراضي المحتلة تعزز السلام!! وإذا كان المجتمع الدولي يرى في وجود اسرائيل في هذه الأراضي وجوداً احتلالياً عابراً فإن الاسرائيليين أنفسهم يرفضون هذه الفكرة، وينظرون الى وجودهم في الضفة الغربية نظرتهم الى فصل آخر من فصول صراعهم الدائر منذ قرن من الزمان للسيطرة على فلسطين بكاملها، ويرون في وجودهم الدائم في الضفة الغربية على انه جزء لا يتجزأ من تاريخهم. وشجع الفرح العارم في أعقاب حرب 1967، التي شنتها حكومة يتزعمها حزب العمل الاسرائيلي، على اقامة مستعمرات يهودية وراء الخط الأخضر، وخلافاً لما كانت عليه الحال في حقبة ما قبل نشوء الدولة، فإن موارد الدولة بعد قيامها سخرت للمجهود العام من أجل تجسيد وقائع على الأرض، ووضع الأسس لحدود جديدة، لكن حزب العمل وجد نفسه غير مؤهل على المستويين الفكري والسياسي، على الاستمرار في المد التوسعي الذي أطلقه، فنشأ ما يسمى "سياسة العزم على عدم العزم"، في ظل استمرار آلية الضم المتنامي للأراضي المحتلة. لكن الليكود الملتزم، في ظل حكومة بيغن، وصيانة "ميراث الأجداد" في أنحاء "أرض اسرائيل"، لم يعان تردداً كهذا، وفضح بيغن التناقضات القائمة في نظرة حزب العمل وعجل بذلك في سقوطه المدوي، لأول مرة منذ تأسيس الدولة في عام 1977، وعمل على ترسيخ قاعدة انتخابية مستعدة لپ"الهبش والاستيطان"، كما وصفها حنان بورات، زعيم حركة "غوش ايمونيم" كتلة الايمان الاستيطانية. وتبنت اسرائيل منذ حزيران يونيو 1967، استراتيجية مؤداها "تضييق مجال الخيارات المتاحة لحل مشكلة التنازع في شأن حق السيادة في الأراضي المحتلة". واعتبرت ان الزمن مفتاح الجهود الاسرائيلية، فكلما طال بقاؤها في الأراضي المحتلة، أوجدت المزيد من "الوقائع"، واقتربت اكثر من تحقيق شعار "اسرائيل الكبرى"، واعتبرت المستعمرات اليهودية "رأس الحربة في برنامج اسرائيل". وتستخدم هذه المستعمرات بما فيها مستعمرة "برج وسور" التي أقيمت تحت جنح الظلام في الأربعينات لتعيين حدود السيادة اليهودية في فلسطين، ولاحظ يغال آلون في سياق تفسيره ل "مسوغات الاستيطان" في الأراضي المحتلة منذ عام 1967 "ان الحدود الآمنة التي ليست حدوداً للدولة، ليست حدوداً آمنة"، وهذا ما ينسجم مع شعار سابق لقيام الدولة أطلقته مجموعة "هشومير هتسعير"، الحارس الصغير، تأسست عام 1909، والقائل "حيثما اسكن أحرس"، اضافة الى مقولة موشيه ديان المشهورة "حدود اسرائيل حيث تصل أقدام جنودها"، واذا كانت المستعمرات اليهودية في مرحلة ما قبل نشوء الدولة، استجابة الى نزوع اسرائيل الى السيادة والأمن، فقد كانت ايضاً أدلة بينة على حيوية المشروع الصهيوني لتحقيق غزو الأرض على أيدي اليهود. وما ان انطلقت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية في التاسع من كانون الأول ديسمبر عام 1987 حتى كانت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة قد صادرت نحو 52 في المئة من مساحة الضفة الغربية ونحو 48 في المئة من مساحة قطاع غزة، وأقامت عليها المستوطنات والمعسكرات الاسرائيلية وميادين التدريب العسكري والأراضي المغلقة، والمصادرة لپ"الصالح العام"، لتضرب القطاع الزراعي في الصميم وتحول الغالبية العظمى من المزارعين والفلاحين الفلسطينيين الى أيد عاملة رخيصة، تعمل في المؤسسات الاسرائيلية وتخدم الاقتصاد الاسرائيلي. وبحلول عام 1995 عام واحد بعد اقامة السلطة الفلسطينة، استولت اسرائيل على ثلثي أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، التي يبلغ اجمالي مساحتها 5.5 مليون دونم الدونم - ألف متر مربع، واعتبرت مليون وربع المليون دونم منها "أراضي دولة"، ونحو 450 ألف دونم "أراضي غائبين"، و150 ألف دونم "للمصلحة العامة"، و1.200 مليون دونم مغلقة "لأغراض عسكرية"، و12 ألف دونم "محميات طبيعية". الدمج الاقتصادي ويعتبر وزير الدفاع الاسرائيلي الأسبق موشيه دايان، مهندس سياسة الدمج الاقتصادي الفلسطيني مع اسرائيل. فمنذ عام 1968، صرح: "لدينا فرصة للدمج الاقتصادي، ولربط شبكتي المياه والكهرباء، وانشاء نظام موحد للنقل المشترك، ومعالجة الزراعة في المنطقة عموماً"، وسهلت مجموعة الاجراءات الإدارية التي اتخذتها اسرائيل، استراتيجية الدمج الاقتصادي للمناطق المحتلة في عام 1967، والتي نزعت عنها تسمية "أرض العدو"، حسب القانون الاسرائيلي، وتضمنت هذه الاجراءات إلغاء الرسوم الجمركية عن السلع المتبادلة بين اسرائيل والأراضي المحتلة، وفرض رقابة اسرائيلية على صادرات تلك الأراضي الى الاسواق الخارجية، وقيوداً صارمة على وارداتها من الخارج، وإغلاق المؤسسات المالية المصارف العربية فيها. وكان الفلسطينيون، بقدر ما يشكلون ملحقات بالاقتصاد الاسرائيلي، وبقدر ما يشكلون من قيمة اقتصادية تدعم وجود الاحتلال وديمومته، يلقون التشجيع، والعكس صحيح، فبقدر ما كانوا يشكلون تحدياً للاحتلال وبقائه، بتمسكهم بأرضهم، على سبيل المثال، أو بإنتاجهم منتوجات زراعية كبيرة، كانت سلطات الاحتلال تلجأ الى عزلهم وفرض القيود الصارمة عليهم، وتثقل كاهلهم بإجراءاتها التمييزية التعسفية. واعتبرت اسرائيل المناطق المحتلة "مخزناً" هائلاً، يزودها بالأيدي العاملة الرخيصة، وافتتحت من أجل ذلك مكاتب للاستخدام في عام 1968، وحرمت هؤلاء العمال من حقوقهم أو مساواة أجورهم مع نظرائهم اليهود، فالعامل العربي لم يتقاض حتى عام 1972 اكثر من 50 في المئة من قيمة أجر العامل اليهودي، مع حرمانه من حقوقه الأخرى الضمانات والتأمينات على رغم من انه يدفع ما لا يقل عن 30 في المئة من أجره على شكل ضرائب مختلفة وتأمينات مزعومة لا يتلقاها، وبحلول عام 1977 كانت الحسومات المتراكمة من أجور العمال العرب من المناطق المحتلة تصل الى نحو 300 مليون دولار، وظفتها السلطات الاسرائيلية واستثمرتها من دون حسيب أو رقيب، كما اعترفت بذلك صحافتها، وقدر بعض الخبراء قيمة هذه الحسومات حتى اتفاق أوسلو بأكثر من بليون دولار، ما عدا الفوائد، وما زالت اسرائيل ترفض اعادتها أو اعطائها أرقام محددة عنها. المياه... صراع الحياة الأطماع الاسرائيلية في المياه الفلسطينية والعربية ليست خافية على أحد، فمنذ ما قبل عام الاحتلال الاسرائيلي في أعقاب حرب 1967، تطلعت اسرائيل الى الاستيلاء على المياه العربية في نهري الأردن واليرموك، وعطلت مشروعاً عربياً لبناء سد على نهر اليرموك، واستولت على أكثر مما هو مخصص لها من حصص بموجب اتفاقات دولية حول الدول المتشاطئة. ومنذ احتلالها للضفة الغربية حرصت سلطات الاحتلال الاسرائيلي على منع الفلسطينيين من حفر آبار جديدة أو تطوير ما هو قائم منها، وأجبرت المزارعين الفلسطينيين على تركيب عدادات على آبارهم، وحددت لهم حصصاً من المياه يحظر عليهم تجاوزها، في حين لجأت الى حفر آبار على أعماق تزيد عن الآبار الفلسطينية مستعينة بتقنيات عالية لضخ المياه الى المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، والى داخل اسرائيل نفسها. وذكرت جريدة هآرتس المستقلة الواسعة الانتشار في تقرير لها عام 1995 عن الوضع المائي المعقد ما بين فلسطين واسرائيل، فقالت: "لا توجد معلومات مائية دقيقة ونهائية عن كميات المياه التي تتدفق من البئر الجوفي في الجبال الشرقية في الضفة الغربية والتي تحتوي على مخزون تصل طاقته الانتاجية الى 60 مليون متر مكعب من المياه سنوياً، يوجد في حقول ضخ عدة للمستوطنات في المنطقة الجنوبية بيت لحم والخليل، تضخ ما قيمته عشرة ملايين متر مكعب لهذه المستوطنات، ولا يقع تحت السيطرة الفلسطينية منها سوى بئر واحدة، تابعة لبلدية بيت لحم". وتتلخص السياسة الاسرائيلية المائية تجاه الضفة الغربية بحرمانها من المياه التي تمتلكها في آبارها الجوفية والتي تسرق في رابعة النهار بشتى الطرق والوسائل، وتعاني من أزمات عطش دورية، فيما تنعم المستوطنات الاسرائيلية بهذه المياه، وتستهلكها في برك السباحة والحدائق المنزلية، اضافة الى استعمالها لري الأراضي في المستوطنات المقامة على الأرض الفلسطينية، ولأغراض الشرب والاستعمال المنزلي. ومن مجموعة 720 بئراً ارتوازياً، كانت تعمل في الضفة الغربية قبل الاحتلال الاسرائيلي لها في عام 1967، لم يبق قيد الاستعمال سوى 314 بئراً فقط، بمعدل انتاجي منخفض لا يزيد على 9.27 مليون متر مكعب سنوياً، وفي الوقت ذاته الذي قامت فيه السلطات الاسرائيلية والمستوطنات بحفر 27 بئراً تحوز على نحو 40 في المئة من المياه الفلسطينية الجوفية. وفي الوقت الذي يراوح عمق الآبار الفلسطينية بين 70 - 300 متر، بطاقة ضخ سنوية لا تزيد على 38 مليون متر مكعب سنوياً، ويقع نحو 96 بئراً منها في منطقة الاغوار، فإن الآبار الاسرائيلية يزيد عمقها على 700 متر، تضخ نحو 41 مليون متر مكعب من المياه، عدا عن الفرق في التكنولوجيا المستعملة، وجودة شبكة توزيع المياه. أما في قطاع غزة فإن الصورة أكثر سوداوية من ذلك، حيث يصفها مراقبون بأنها "كارثة"، فكمية الامطار الساقطة لا تزيد على 400 ملم في السنة، حسب دراسة للملتقى الفكري العربي في القدس ويتسرب منها بين 40 و60 مليون متر مكعب 35 في المئة، وينساب فوق سطح الأرض 50 في المئة ويتبخر منها نحو 60 في المئة بسبب ارتفاع الحرارة ونتح النباتات هناك. ويسيطر المستوطنون الاسرائيليون على 5.5 في المئة من الآباء، بينما يضخون نحو 30 في المئة من المياه الجوفية، ولا يتجاوز عددهم 15 ألف مستوطن، في مقابل مليون فلسطيني يسكنون قطاع غزة وتزداد ملوحة المياه التي يستعملونها للزراعة والاستعمال المنزلي 65 في المئة من آبار القطاع للفلسطنيين تصنف على أنها عالية الملوحة. وفي مقابل 28436 متراً مكعباً، هي معدل استهلاك الفرد الواحد من المستوطنين، لا تزيد حصة المواطن الفلسطيني في المتوسط، على 200 متر مكعب، ناهيك عن حفر "مصائد المياه" الحفر العميق بالقرب من الآبار الفلسطينية التي يلجأ اليها المستوطنون لحرمان الفلسطينيين من مياههم.