تُعتبر "فرانكنشتاين" 1818 أولى الروايات الخيالية العلمية. هذا المصطلح، "خيال علمي" Science Fiction، أو أدب الخيال العلمي، لم يكن وُجد بعد حين كتبت الانكليزية ماري شيلي قصتها الغريبة عن المسخ الذي يبعث حياً بقوة العلوم وطاقتها الخُرافية. الطبعة الحادية عشرة من "البريتانيكا" تخبرنا أن ماري شيلي الزوجة الثانية للشاعر بيرسي شيلي كانت دون العشرين حين بدأت تأليف "فرانكنشتاين" خلال رحلة الى سويسرا. في تلك الرحلة ذاتها، عام 1816، كتب لورد بايرون قصة رعب غير مكتملة عن مصاص دماء! قصص الرعب القوطية Gothic tales خلقت في لحظة تقاطعها مع النظريات العلمية أدباً جديداً. ثمة نموذج مهم يجري تجاوزه في معظم الكتب التي تعرض لأدب الخيال العلمي انظر مثلاً كتاب آدم روبرتس الصادر أخيراً. هذا النموذج هو رواية "دكتور جاكل ومستر هايد" 1886. يحضر السؤال الفلسفي في رواية ستيفنسون ضمن قالب يمزج البوليسي بالخيال العلمي. لا يتحول دكتور جاكل الخيِّر الى مستر هايد الشرير حين يستيقظ من منام مضطرب، كما يحدث في رواية من مطلع القرن العشرين لفرانز كافكا. يتحول دكتور جاكل الى شخصية أخرى بعد أن يتناول عقاراً كيماوياً أنتجه في مختبره. هذا العقار، هذه الأداة العلمية، تدفع القصة الى حقل الخيال العلمي. على رغم ان التحول من دون العقار سيصبح عادياً جداً في الفصول التالية. آدم روبرتس، في "خيال علمي" روتلدج، لندن ونيويورك 2000 يختار رواية "التحول" 1915 لكافكا كنموذج لأدبٍ يتوقف عند حدود "غيتو الخيال العلمي" من دون أن يدخله. تتوضح المسألة أكثر حين نقارن بين هذه الرواية المكتوبة - بحسب يوميات كافكا - خلال سبعة أيام. فيما "دكتور جاكل ومستر هايد" كتبت كمسودة أولى في ثلاثة أيام! وبين رواية لأيان واطسون صادرة عام 1975. يقترح واطسون تكنولوجيا متطورة قادرة على ارسال موجات الدماغ البشري الى دماغ حوت. هرمان ملفيل حاول عند انتصاف القرن التاسع عشر ان يرسم تقابلاً شعرياً بين الحوت موبي ديك وبين الإنسان القبطان اهاب. واطسون يتقدم خطوة اضافية بعد 125 سنة، ويصف "وعياً بشرياً" يسكن حوتاً. حوت هو إنسان في آنٍ معاً! كافكا في المقابل حَوَّل سامسا الى حشرة ليست صرصاراً كما تزعم ترجمات عربية، وليست دودة أيضاً من دون أن يقدم التفسير العلمي الخيالي لعملية التحول هذه. هذا يضع "التحول" في خانة الأدب الخيالي كما حكايات الأخوين غريم Grimm الخُرافية مع رواية ذائعة الصيت مثل "مئة عام من العزلة" 1967 حيث تتمكن امرأة جميلة من الارتفاع الى السماء من دون التزود ببذلة مضادة للجاذبية كما في قصة للإنكليزي ويلز. من جهة أخرى وهذه ملاحظة روبرتس اللافتة تعتبر "التحول" جزءاً من "الخيال العلمي". حتى وان تمّ التحول خارج الاقتراحات العلمية والمختبرات. ذلك ان كافكا يقدم في وصفه لحركة الحشرة التفصيل العلمي المناسب الذي يرفع النص الى مستوى مختلف مثلاً عن نص حكاية "الأمير الضفدع" في كتاب الأخوين غريم. سنة ظهور "التحول" ظهرت أيضاً رواية ألمانية بعنوان Der Golem لغوستاف ميرنك. روبرتس لا يأتي على ذكر هذه الرواية. لكن Golem، هذا الشخص المصنوع من الطين والذي يُبعث حياً عند لفظ مجموعة من الكلمات السحرية كما تخبرنا أساطير القبلانيين، هو الصورة الأقدم الأولى ربما لمسخ ماري شيلي. إلغاء روبرتس لتجربة ميرنك يقابله بأسلوب سحري إلغاء خورخيه لويس بورخيس ل"فرانكنشتاين" في "كتاب المخلوقات الخيالية" الصادر للمرة الأولى عام 1957. لا يذكر بورخيس شخصية شيلي اطلاقاً بينما يتكلم عن Golem. لكننا نستطيع عبر الجمع بين Golem بورخيس وفرانكنشتاين روبرتس، ان نصل الى المقارنة ذاتها المعقودة آنفاً بين "التحول" ورواية أيان واطسون. يحتاج مصطلح "خيال علمي" الى تعريف دقيق. هذا التعريف مختلف عليه. اسحق عظيموف Asimov اقترح خلال "العصر الذهبي" فترة ازدهار مجلات الخيال العلمي الأميركية بين 1938 و1946 التعريف التالي ل"خيال علمي": سرد خيالي يُبنى انطلاقاً من نظريات علمية. مثلاً: الانطلاق من الكومبيوتر لتأليف قصة عن "الذكاء الاصطناعي"، رجل آلي مثلاً، روبوت، اختراع عظيموف الأشهر. استطاع عظيموف، بالخلفية العلمية الأكاديمية التي تميزه، ان يخترع Robots في قصصه، وأن يؤلف القوانين الثلاثة التي تحكم "حياتها". لكنه، في المقابل، لم ينطلق دوماً من قواعده وتعريفاته للخيال العلمي، في انشاء قصصه. احدى أشهر قصصه القصيرة مثلاً "هبوط الليل" لا تنطلق من نظرية علمية بل من قصيدة لإمرسون: "ماذا يحدث لو ان النجوم تظهر مرة واحدة فقط كل ألف سنة؟". يدخل روبرتس الى حقل الخيال العلمي مزوداً بنظرة انسانية: الخيال العلمي هو في العمق أدب عن اللقاء بالمختلف، اللقاء بالآخر. وهو بالتالي أدبٌ عن الإنسان وكيف يكون أدباً إذا لم يكن الإنسان محوره؟. وليس سرداً مجانياً عن "السفر في الفضاء"، و"الذكاء الاصطناعي"، و"الحقيقة الافتراضية" فقط. يمكن التأكد من صواب هذا الاقتراح عبر العودة الى كلاسيكيات "الخيال العلمي": لا جول فيرن بل ه.ج. ويلز 1866-1946. لا ستيفن كينغ بل فيليب ك. ديك 1928- 1982. "حرب العوالم" 1898 ليست رواية عن غزو مريخي لكوكب الأرض فقط. بل هي أيضاً استعارة روائية حول "الإمبريالية". لنتذكر ان ويلز هو ابن الامبراطورية البريطانية. "الرجل في القلعة العالية" 1962 ليست رواية عن عالم موازٍ فقط، حيث الرايخ الألماني ينتصر في الحرب العالمية الثانية، بل هي أيضاً رواية عن عالمنا، عن حياتنا اليومية، عن تاريخ تكتبه الولاياتالمتحدة الأميركية لا الولاياتالمتحدة الألمانية. يصنع فيليب ك. ديك حبكاته من بارانويا ذات محور يستحيل أن يُكسر: لا تعرف شخصياته هل تتحرك في عالم واقعي أم عالم خيالي! هذا الالتباس، والسؤال الفلسفي الملازم لكتابته، جعلا أورسولا لاغوين تقارنه ببورخيس. لا حدود فاصلة هنا بين أدب الخيال العلمي والخيال العلمي كما يظهر في المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية. على الأقل ليس في ما يتعلق بالنقد الأميركي الملازم لهذا الحقل. "اليد اليسرى للظلام" 1969، استعارة حول الفروق الجنسية. "ستار ترك"، و"الرجال في الأسود" 1997 استعارتان حول العرق ومسألة الزنوجة والعنصرية وحول مسائل أخرى أيضاً. السؤال الميتافيزيقي يتكرر دوماً في "ستار ترك" وهناك كمٌ هائل من الأدب والسينما المتعلقين بالتكنولوجيا والخطر الذي يمثله ذكاء اصطناعي مقبل نرى أروع استعاراته في الخوف الفزع الذي يسيطر على أبطال فيليب ك. ديك امام الأشياء. فللأشياء حياتها الخاصة. انظرْ مثلاً ذلك الحوار بين الشخصية الرئيسية في روايته UBIK - الصادرة عام 1969 - وبين باب الشقة الالكتروني. وهو الحوار الذي يقتبسه آدم روبرتس البارع في دراسته. هذه الأحاسيس الخوف مثلاً تقودنا الى ملاحظة لا بد منها: الخيال العلمي هو أدب فعلاً. وهو - كأدب - على صلة قريبة بالأدب الخيالي الحكايات الخُرافية التي شاع جمعها في القرن التاسع عشر، أو روايات الواقعية السحرية التي أطلقتها أميركا اللاتينية في النصف الثاني من القرن العشرين. غير ان قراءة دقيقة تفترض عقد تمييز أساسي بين الخيال العلمي والأدب الخيالي، وهذا التمييز هو "المنطق المحرك للكتابة". انظرْ مقارنة روبرتس بين رواية جون أبدايك "برازيل" الصادرة عام 1994، وهي تنويعه الخاص الواهن على أدب الواقعية السحرية، وبين رواية جون كاسل "أخبار حسنة من الفضاء الخارجي" الصادرة عام 1995. روايتان تشتركان في خطة تبديل لون البشرة من أسود الى أبيض ومن أبيض الى أسود. كيف يختلف منطق الكتابة بين الخيال العلمي والأدب الخيالي؟ يرتفع كاهنٌ في رواية ماركيز "مئة عام من العزلة" سنتمترات معدودة عن الأرض، كأنه يطير. كيف يتمكن الكاهن العادي من تحقيق هذه "المعجزة"؟ بقوة الإيمان، وبقوة الضرورة الفنية؟. حديث ماركيز - في الرواية كما في المقابلات الصحافية - عن كوب شوكولاته ساخن يتناوله الكاهن قبل حدوث "المعجزة" لا يكفي لتفسيرها. ما يحدث للكاهن يحدث في فصل آخر لامرأة جميلة ترتفع نحو السماء بينما تطوي شراشف بيضاء. هذه التفاصيل كوب الشوكولاته الساخن أو الشراشف المغسولة البيضاء جزء من "المعجزة". لكن التفسير الحقيقي لما يحدث يقع في مكان آخر: في المنطق الشعري. المنطق السحري. أو لنقلْ: منطق الحلم والاحتمال والممكن والقدرة النفسية التي يُعترف بها أخيراً. اذا كان رجال عائلة بوينديا نحن؟ يملكون في أعماقهم غضباً يحطم الأبواب فلماذا لا تمنحهم السماء - أو المؤلف - القدرة على تحطيم الأبواب فعلاً؟ "مئة عام من العزلة" تنتمي الى الأدب الخيالي لهذا السبب بالذات. انها تعتمد على "الإنساني" الروحاني لبناء عالمها. هذا العالم الواقعي وفق قوانينه الخيالية الخاصة. في المقابل يصعد أبطال ه.ج. ويلز الى كواكب مجرتنا في مراكب مصنوعة من مواد مضادة للجاذبية. جول فيرن أغضبته هذه "المادة المزعومة" وطلب من ويلز ان يُظهرها للقراء!. يتطابق هذا التمييز مع التمييز السابق بين "تحول" كافكا و"حوت" واطسون. وهو التمييز ذاته بين فرانكنشتاين وGolem. العلم في مواجهة السحر. أو العلم ووهم العلم في مواجهة الشعر وحقيقة الشعر. يعتمد الأدب الخيالي على طاقة الحلم عند الانسان. يكفينا كتاب الأخوين غريم مثلاً. لأن لا تفسير أقوى وأشد اقناعاً من التفسير المحجوب، التفسير الذي لا يُقال. يحاول الخيال العلمي شرح ما لا يُشرح. فيُفسر الخارق بما هو شبه علمي، بالمادي. وهنا تكمن نقطة ضعفه القاتلة، ومصدر جاذبيته - بالنسبة الى مدمنيه - أيضاً. تمييز مهم آخر بين الخيال العلمي والأدب الخيالي هو أسلوب بناء الشخصيات. يُغلِّب الخيال العلمي عنصر "الأفكار" والحبكة أحياناً على عنصر "التركيب النفسي" للشخصيات. اذا استثنينا بعض أعمال فيليب ك. ديك، وج.ج. بالارد، وكيرت فوننغات، وهاروكي موراكامي الياباني، وجدنا معظم روايات الخيال العلمي يفتقد الى الشخصيات المقنعة نفسياً. الشخصية، في "الخيال العلمي"، خيالية، بالمعنى السلبي للكلمة. على رغم هذا نجد كتاباً قادرين على تجاوز هذه السلبية في "الخيال العلمي"، كتاباً يستطيعون ابداع عوالم حقيقية جداً، وشخصيات شديدة الاقناع، من قلب أرض الخيال العلمي. المثل الأقوى هنا هو الياباني هاروكي موراكامي في "نهاية العالم وبلاد العجائب" 1985، رواية تجمع بين المستقبل وبين بلدة تقع في أعماق دماغ الراوي! لا يأتي روبرتس على ذكر هذه الرواية لأن بحثه مركز على الأدب الأميركي. ينسج موراكامي حبكة روايته حول علاقة الانسان بظلّه أو قرينه، مستخدماً شريحة كومبيوتر يزرعها عالمٌ غريب الاطوار في رأس الراوي / البطل. الراوي الذي يعيش في طوكيو مستقبلية يكتشف تدريجياً "القدر" الذي تحتويه هذه الشريحة. ويكتشف ذاته بينما يكتشف مصير الظلّ الذي فُصِل عنه قُطع بالسكين! بواسطة هذه الشريحة. كيف تتمكن شريحة رقاقة كومبيوتر من جعل الراوي ينفصل عن ظلّه؟ بأن يدخل جمجمته. ذلك اكتشاف بيركلي القديم: داخل كل جمجمة بشرية يوجد عالم كامل ينتظر من يكتشفه!. في جمجمة الراوي بطل رواية موراكامي توجد بلدة مسورة بحائط، تحيطها غابات وبساتين تفاح ومرعي أخضر. هذا المرعى الذي تخرج إليه مخلوقات وحيد القرن الخيالية كل يوم. وفي البلدة يحيا الناس من دون ظلالهم. ومغامرات الراوي وظلّه، بين قبو الحارس، ومكتبة المرأة التي تساعد الراوي على قراءة الأحلام، تقدم لنا نصف الرواية الأهدأ والأجمل. أما نصف الرواية الآخر فهو مغامرات الراوي في طوكيو المستقبل، ومطاردته للعالِم تحت شوارع المدينة، وعلاقاته المثيرة للضحك والحزن معاً مع "امرأة مكتبة" أخرى، كما مع الفتاة البدينة التي تدله إلى مركز العالم السري في شبكة مجارير العاصمة اليابانية. انظرْ "الحياة" 2/8/2000. كتب موراكامي هذه الرواية في أربعة أشهر، ولا نعرف الوقت الذي استغرقته كتابة الهنغارية أغوتا كريستوف التي تكتب بالفرنسة وتقيم في سويسرا منذ أواسط القرن العشرين لروايتها "الدفتر" 1986 التي تتشابه إلى حد كبير في موضوعها مع رواية موراكامي المذكورة أعلاه. الأخوان التوأمان بطلا رواية كريستوف يشكلان راوياً وقرينه. ولكن من دون اللجوء إلى خدع وتقنيات أدب الخيال العلمي. وختام الرواية انفصال تراجيدي لا بد منه، تماماً كما يحدث في "نهاية العالم". تلجأ كريستوف إلى اسلوب كتابة "حكايات الأخوين غريم الخرافية" بينما تبني عالمها الحقيقي والخيالي. تفعل ذلك بمزج الاسلوب المباشر القديم في الكتابة القصصية التوراة بالأسلوب المسرحي الحواري الحديث. أما موراكامي فيمزج بين أساليب لا تحصى كما فعل كالفينو من قبله ليكتب روايته. هذه الرواية اليابانية المتأثرة بالثقافة الأميركية تشكل أحد أرقى نماذج أدب "الخيال العلمي". يمكن القول إنها تنتمي الى الأدب الخيالي، وانها تنافس أعمال ماركيز وكافكا وستيفنسون في واقعيتها. والمفارقة في هذه الجملة الأخيرة هي بالتأكيد جزء من التعريف الغامض لهذا الأدب. * كاتب لبناني من أسرة "الحياة".