يلجأ عدد من المرشحين للانتخابات النيابية في لبنان حالياً، الى شعارات تريد لنفسها أن تكون بيئية، بغية "اصطياد" عدد اضافي من أصوات المستقلين وأعضاء اللجان الداعمة لاحترام البيئة والتي غدت اليوم جزءاً من المشهد الثقافي العام في البلاد. فما هي دلالة هذا الاهتمام الظاهري بالبيئة في البلاد، من جانب أناس يطمحون للدخول الى الندوة البرلمانية؟ هل هو تصرّف انتهازي أم أنه يشير الى تبدّل معين في الذهنيات، فرض نفسه على ساحة التبادل الفكري، وبالتالي السياسي؟ ويلاحظ في البداية، ان الشعارات التي يرفعها المرشحون الذين اتجهوا صوب مصطلحات النشاط البيئي، سطحية أو غارقة في عموميات فارغة. وهذا ما يعكس طابعها الأجوف. فشعار أحد المرشحين الشماليين هو، بكل بساطة، "نعم لحماية البيئة". فصاحبه لم يُتعب نفسه كثيراً في البحث عنه، مكتفياً بتكرار ما نسمعه عادة على لسان مناصري البيئة عبر العالم أجمع. فالأميّة البيئية تكاد تنبع من سطحية تكرار هذا الشعار الذي لا يشكّل موقفاً سياسياً، لعموميته المفرطة من جهة، ولعدم ارتباطه ببرنامج سياسي يتعلق بتنمية النشاط البيئي، من جهة أخرى. وفي سياق عمومية مشابهة يقول شعار آخر "بيئتنا بحاجة الى عقل يحميها"، من دون أن يوضح صاحبه ماذا يقصد بالعقل الذي يحميها. فأسلوب المخاطبة يضيع هنا بين الايكولوجيا والفلسفة. ويُضاف الى فراغ هذه الشعارات، المعكوس في عموميتها، انها تحاول الاستخفاف بوعي المواطنين من خلال رفعها لكلام لا يقوم على برنامج سابق، يفترض أن يكون المرشح بدأ تطبيقه أيام وضع نفسه في ما يسمّيه "خدمة الشأن الانمائي" قبل أربع أو خمس سنوات على الأقل. فحملة هذه الشعارات ظهروا على سطح الأرض قبل مدّة من الزمن، وبدأوا بتقديم "المساعدات"، من دون أن يُظهروا إذاك اهتماماً محدداً بأمور حماية الطبيعة. فصحوتهم الحالية، من هذا المنظور، شأن جعل جميع المهتمين الحاليين برعاية البيئة يتفاجأون ويبتسمون. فهؤلاء فهموا فوراً، ان الأمر لا يعدو كونه اعتبار حماية البيئة عبارة موقتة لبلوغ شاطىء الفوز الانتخابي. فحداثة الاقتناع بضرورة حماية البيئة، تشير الى هشاشة الشعار مقارنة مع حيثياته التطبيقية في الواقع، إذ أن صاحبه يستطيع أن يبرّر اعتناقه المستحدث له، لكنه عاجز عن تبرير عدم قيامه بمبادرات في هذا المجال قبل ذاك. والحقيقة أن أصحاب هذه الشعارات هم من رجال المال والأعمال الذين شعروا بضرورة اعادة تأهيل جاههم الاقتصادي بالسبل السياسية. وأقرب طريق لإقناع عامة الناس بعراقة عملهم الاجتماعي هو اعتمادهم على الخدمات المختلفة الأنواع، تحت رعاية الدعم المالي والانمائي، غير ان هذه الستارة تبهت فجأة وتكشف زيف مواقف صاحبها، من حيث لا يدري، عندما تقرن نفسها بمجال جديد هو حماية البيئة. فالتناقض يظهر مباشرة هنا ولا مجال لإخفائه تحت "ورقة تين" الشعار، ذلك انها عرضة للتناقض. فأنصار المرشح، صاحب الشعار البيئي، يقومون بكشف هشاشة معلمهم، حيث أنهم يشوّهون بشعاراتهم وملصقاتهم المناصرة للبيئة، منظر الشوارع وواجهات الأبنية. بل ان بعضهم يتفنّن في تزنير الشجر، في الشوارع الرئيسية في المدن بصور معلَّقَةْ أو مُسمرَة على جذوعها. فالتناقض هنا لا يعود يحتاج الى كلام، إذ يعلن لك المرشح عن نيّته السياسية في حماية البيئة، في حين أنه يعمل، أمامك وبوقاحة، على انتهاك أبسط مبادىء احترام الطبيعة والبيئة. وتكمن المشكلة الأكبر في ان المرشح الذي يلعب لعبة الشعار البيئي يخال ان الناس يصدّقونه ويأخذون كلامه جدّياً، فيستخف علناً بوعيهم وحسّهم النقدي، متجاهلاً ان معظمهم لا يرى في موقعه العجول هذا سوى مناورة سياسية اضافية، من العيار الخفيف. فتسييس حماية البيئة، كما تجري عندنا حالياً، تقليد باهت جداً ومضحك لمسار الوعي البيئي الذي شق طريقه في الغرب منذ انشاء أول محمية طبيعية في العالم، عام 1884، حيث دعت لجان حماية الطبيعة والحيوان في الولاياتالمتحدة إذّاك الى الضغط على رجال الكونغرس بغية انشاء محمية يلو ستون. فهل بإمكاننا أن نسيّس حماية البيئة بالخفة التي نشاهدها حالياً على يد بعض المرشحين اللبنانيين؟ هل ان رفع شعار سياسي لحماية البيئة هو تسييس لقضيّتها؟ طبعاً، فالمسألة ليست بهذه البساطة وسوف يحتاج وعينا الاجتماعي العام الى الكثير الكثير قبل أن ينتج نواباً "خضر"، كما حصل في الغرب، وقبل أن يتبوأ أحدهم، كما فعل الألماني يوشكا فيشر، سدّة وزارة الخارجية في أي بلد عربي. مزعج هو هذا الاستخفاف بالناس، ومزعج هو هذا الاستخفاف بالشأن البيئي الذي يعتبره مرشحو لبنان وتراً اضافياً على عودهم، لا آلة موسيقية بحدّ ذاتها. فقبل أن يبصر الشأن البيئي نور ولادته السياسية، ينبغي أن يتخطّى الجميع مرحلة السماح لنفسه بادراج حماية البيئة في مخلوطة شعاراته، وان يجعل من هذا الشعار شعاراً رئيساً، مقروناً ببرنامج بيئي متكامل، ومع صدقية لا لُبس فيها في العمل الجاد في هذا الحقل. فالخصوصية تبرز هنا كضرورة أولى. إذ أن صاحب الشعار البيئي المقنع ينبغي أن يعلم تماماً ما هو سلّم الأولويات في هذا المجال، وأن يطرح في شعاره الانتخابي المزعوم عنواناً محدداً يكون عنوان الملف الذي ينوي الدفاع عنه. والعجيب هنا أن أياً من المرشحين أصحاب الشعارات البيئية في محافظة الشمال، لم يفكّر برفع شعار "لا لتلوث معامل الإسمنت في شكا" مثلاً. فمن لا يطرح نفسه مدافعاً عن قضية، لا قضية له. وبالتالي يصبح شعاره السياسي باطلاً بسبب فراغه وعدم ارتباطه بمشروع محدّد. كما أن غياب البرنامج المتكامل والمدروس في مسألة معينة تشكّل ضرراً بيئياً عاماً لمجموعة كبيرة من الناس، يعتبر تخاذلاً وبالتالي استقالة معنوية مسبقة تجاه الموضوع المطروح. إذ ان الناخب، بعد فوز هذا المرشح وممارسته ولايته السياسية، سوف يكون عاجزاً موضوعياً عن محاسبته، طالما ان هذا المرشح لم يلزم نفسه برنامجاً محدداً ونقاطاً محددة، بل تهرّب من مسؤولية هذا الأمر باعتماده شعاراً طنّاناً وفارغاً، كالطبل الأجوف؟ وكيف يمكن اقناع الرأي العام بالشعار البيئي عندما يظهر صاحبه، في لقاء مع الناس، صفر اليدين على مستوى التجربة؟ فما هو مستوى وعيه لكي يكون ضمانة بأنه سوف يتفانى في الدفاع عن شعاره؟ وتقليدنا لتسييس الدفاع عن البيئة، كما حصل في الغرب، تقليد رخيص لا يشعر صاحبه بنفسه محرجاً من جراء جهله. بل يتمادى بعض مرشحينا بالاعلان عن هذا الجهل والمجاهرة بعلاماته. فهل يمكن رجل أعمال قضى عمره في التعامل السلبي مع الطبيعة، في مجال المقاولات مثلاً، أن يُقنع جمهوره بأنه مدافع صادق عن البيئة؟ وهشاشة الشعارات وغياب التجربة والبرنامج، لا يشكلان قاعدة للاقناع بجدية الطرح البيئي... سوى في بيئة من الأميين. إلاّ ان الواقع مختلف عندنا، ذلك ان شريحة من المهتمين الجدّيين بالشأن البيئي بدأت منذ عقد من الزمن بشقّ طريقها في المجتمع. وهي تشمل عدداً كبيراً من الشباب. فلا مجال لخداع هذه الشريحة الواعية التي سوف تتسع مع اتساع مشكلاتنا البيئية وتعاظم وقعها على حياتنا اليومية والعملية بالسهولة التي يعتقدها صاحب الملايين. وسنجد أنفسنا، في وقت ليس ببعيد، أمام مرشحين "بيئيين" مئة في المئة، ذلك ان حياة كل انسان والمحافظة عليها من خلال المحافظة على بيئة سليمة أَهمّ في نظره من أي فكرة أو عقيدة. فالإنسان ينطلق من مصلحته البيولوجية على الدوام، والوعي الفكري لا يتبلور سوى على قاعدة اشباع هذه الحاجة عنده. هذا ما قاله أفلاطون ذات يوم، وهذا ما يردّده أنصار حماية البيئة الذين يعتبرون، منذ انطلاقة حركات "الهيبيز" في الستينات، ان حياة الإنسان في خطر. فما النفع في هذه الحال من تقديم المعالجات السياسية والعقائدية، طالما ان المشكلة الأساسية تقع برمتها في مكان آخر؟ هذا أمر لم يفكر فيه مرشحونا العجولون الساعون لخدمة أنفسهم على حساب مجموعة شعارات دخل اليوم اليها شعار البيئة. وأنصار البيئة وأصدقاؤها الحقيقيون يستطيعون أن يردوا عليهم بعبارة خطيرة أطلقها ذات يوم الموسيقار بيتهوفن الذي قال: "انني أفضل رفقة شجرة على رفقة انسان"!