بين قلة من كتّاب القصة القصيرة الذين ظهروا في عقد السبعينات في الأردن، تميز هاشم غرايبة بمعالجة موضوعة السجن والحرية، من خلال معايشة لتجربة سجين الرأي دامت أكثر من عشر سنوات. وخلالها كتب عدداً من القصص والمسرحيات التي كانت تعكس مناخات التجربة وتفاصيلها المعيشية والذهنية. لكن قصص غرايبة كلها - ما يزيد على خمس مجموعات قصصية - تكاد لا تخلو واحدة منها من هموم السجن وقضايا الحريات والقضايا والهموم الوطنية عموماً. مجموعة "عدوى الكلام"، الجديدة، تلخص مناخات الكاتب ومعالجاته وما توصل اليه من أسلوب وعبارة. ففي هذه المجموعة التي تضم خمس قصص، متفاوتة الطول، ومختلفة في اسلوب التناول، نجد الهواجس والأفكار والهموم ذاتها التي تتكرر، في صور متعددة، في مجموعاته السابقة، منذ مجموعة "هموم صغيرة" 1980 حتى "الحياة عبر ثقوب الخزان" 1994، باستثناء عمله الروائي الذي يسبح في المناخات نفسها. قصص "عدوى الكلام" تتنوع لتعكس تنوع العوالم التي بات يعيشها المؤلف، أو يُعنى بها ويتابعها في الحياة كما في مصادر الثقافة والعلاقات البشرية، كما يتابع نمطاً من الثقافة الشعبية يتمثل في الخرافة وقدرتها على التحكم بمصائر بشر ومجتمعات. في قصة "زهور الغاب"، والعنوان لمجموعة شعرية مفقودة للشاعر الأردني عرار مصطفى وهبي التل، لقاء مع الشاعر على صعيد تجربة الاعتقال والنفي. ففي لحظة اعتقال الراوي وتوجه سيارة الأمن به الى جنوب البلاد، يستذكر اعتقال الشاعر عرار ونفيه الى مدينة العقبة في أقصى الجنوب. ويتخذ الراوي من المشترك بين اللحظتين فرصة ليربط زمنه بزمن الشاعر المنفي وليؤثث الزمنين بتفاصيل تخص كلاً منهما. فالراوي يبدأ من لحظة مداهمته الشاعر وهو منكب على أوراقه يكتب الحلقة الخامسة من ترجمته لرباعيات الخيام، ليرد بها على الشاعر اللبناني أمين نخلة وينشرها في مجلة منيرفا البيروتية. ثم يستحضر وقائع ومسودات الترجمة، لكنه يذهب مع عرار الى سفوح إربد وتلالها حيث بساتين الزيتون والرمان والكرمة، وحيث مضارب الغجر النَوَر مستذكراً سهول بُشرى وحوّارة في بيت الشعر الذي به يخاطب عرار شيخ النور - الهبر: "يا هبرُ لا بُشرى ولا حوّارة/ يطربها عزفك بالقيثارة". ثم يقارن بين سلمى النورية في شعر عرار، ونور الفارسية في شعر عمر الخيام، ويحاول مجاراة عرار في استخدام اللغة، ويعرض مصاعب الترجمة. ويبقى هم الراوي الربط السياسي بين حال السجينين، ليقول في النهاية "إن ما كتبته عن عرار كان رمزاً لحالتي حين كتبت هذه الحكاية". ولعل استعادة الأماكن المذكورة تحيل الى تجربة متقاربة في النفي من إربد عروس الشمال الأردني الى الجنوب. القصة الثانية التي تحمل المجموعة اسمها "عدوى الكلام"، والقصة الرابعة "سحر الشجرة" تذهبان الى آفة أخرى من آفات مجتمع الجهل والتخلف، هي آفة صناعة الخرافة ونشرها في المجتمع. ففي "عدوى الكلام" تبدأ الخرافة من سائق يموت ولا نعرف كيف وصلت الى الآخرين على رغم ان الذي "عاشها" قد مات. ثم تبدأ بالانتقال من سائق الى آخر، ثم الى الركاب وهكذا يرويها الواحد للاخرين من دون أي شعور بأية مشكلة. فالمرأة المطلقة حديثاً بسبب رغبتها في التحرر من الزوج التقليدي وسلطته، تسقط في فخ الخرافة / الحكاية التي يرويها السائق بأسلوب العنعنة عن السائق الفلاني، نقلاً عن سائق آخر... الخ، ولا يقتصر الموقف على تصديق الخرافة، بل يتجاوزها الى أن تشعر المرأة أنها هي العروس الجنيّة التي تظهر للسواقين، ويبدو ذلك عندما تتحسس ساقها فتكتشف انها ساق حمارة ولها حافران، فتهرب من السيارة، ثم يجد السائق في مكان المرأة ثوباً هو جلد حمار. هي حكاية الجنيات اللاتي يظهرن على الطرقات البعيدة والخالية من البشر غالباً. وتوظيفها هنا يشير الى تفسير محدد، فقد تكون هؤلاء لصوصاً، لكن القصة لا تشاء تقديم التفسير، وقد يكنّ مجرد أشباح متخيلة يقصد بها الترويع أو التسلية. ففي نهاية القصة نجد هذه العبارة "وما زال الناس يتحدثون للتسلية عن عروس الغابة وشرطي المنعطف المسحورين، أما الجن فيتحدثون فزعين عن حمار رمادي له أطراف آدمي، يظهر على طريق إربد/ عمان كلما اكتمل القمر". القصة الرابعة أشد نقداً للمجتمع وللمتعلمين تعليماً عالياً أيضاً. فالدكتور محمد علي الانثروبولوجي العائد من ألمانيا مع صديقته المستشرقة للي، عاش طفولته وشبابه رافضاً المعتقد السائد في قريته عن الشجرة المبروكة/ المسحورة التي يتبرك الناس بها. وها هو الآن في ظل الشجرة يتحدى صديقته بجرأته وتجرؤه على قطع غصن منها من دون خوف. لكن ما إن يحضر "كاهن الشجرة" وتبدي للي اهتماماً به وتحتضنه، حتى يصدم محمد علي سيارته ويسقطها في حفرة، ويبدو هذا السقوط عقاباً له على فعلته. فهو مسكون بروح المعتقد الجاهل في أعماقه، بل ان المستشرق لا تستطيع الصمود أمام روحانية الرجل الذي يقف أمام الشجرة وقفة العابد المتصوّف، فتسأل محمد علي "أتعتقد أن ما حصل لسيارتك كان بسبب قطعك لغصن تلك الشجرة المقدسة؟"، فيجيبها بسؤال "هل تعتقدين ان قطعة قميصك التي علقتها على غصن الشجرة هي التي أنقذتنا، أم الزهور التي قطفها ذلك المعتوه لك هي التي حمتنا؟". هذه القصة أوضح من سابقتها في تفسير ظاهرة طبيعية تفسيراً يحيل على الخرافة على رغم سطوع السبب الحقيقي، فالسقوط في الحفرة حدث في اللحظة التي شعر فيها محمد علي بالغيرة من الرجل "المعتوه" كما يدعوه، والخروج من الحفرة جرى بفعل قوة الضغط على مقدمة السيارة ذات الدفع الأمامي، ثم مشاركة الناس الذين تجمعوا لدفعها خارج الحفرة. وفي ميدان العشق، يكتب غرايبة قصتين، واحدة قصيرة تجمع الهدهد وحبة القمح المتحوّلة فريكة مشوية، وهنا تطغى لغة الإنشاء والصور والتعبير الفخم. وقصة العشق الثانية هي بين زيد ونجمة، زيد السجين المناضل الذي يجمع ملامح عدد من المناضلين، ونجمة ذات الملامح البدوية والعربية. هذه القصة الطويلة ثلاثون صفحة، مقطعة الى جُمل وعبارات قصيرة، وهي تستعير لغتها من مصادر متعددة، دينية، وفولكلورية، ونضالية سياسية، من الأغاني ومن الكتب، من التأملات الفكرية والفلسفية كما من الوقائع والحوادث اليومية، من الهزائم كما من الحروب والمعارك المؤجلة. لغة من هواجس ومن هلوسات، تحاول أن تقدم صورة عن اضطرابات السجين وعلاقته بالسجن وبالحرية وبالناس في الخارج. فإذا كان الحب العشق أساسياً للانسان الطليق، فإنه ضروري للسجين يمنحه أملاً بالفرج من جهة، وهو عذاب وألم إذ تغيب الحبيبة. قصة "رؤيا" الطويلة هذه محاولة لربط الذاتي بالموضوعي، والواقعي بالحلمي، والحدث بأسبابه ومبرراته. فيها صورة لحال السجناء وهم يعدّون "حبات الخرز وأحجار النرد" ويحسبون "الزمن بدبيبه المتتابع فوق جلودنا". وصورة للسجن بوصفه "مجتمعاً للذكورة المطلقة تتراكم طاقاته حتى تتلبّد فتنفجر في غير مجرى الصلاح أو تستكين الى بئر التمبلة". ويصور الراوي في قصته هذه العلاقة بين أم السجين وأبيه، فتبدو - على رغم ذكورية المجتمع - علاقة حميمة. فيرى أن الأب "خيول ليل شاردة"، والأم صوتها "عسل بري"، وهي "كومة حنطة برية" والأب "شجرة سنديان عتيقة". عينا الأب "سهول حوران الخضراء"، وعينا الأم "بن وسكر". ومن التأملات "انك لا تعيش الكينونة إلا حين تغمرك السعادة". ومن المقاربات بين الماضي السعيد الثوري والراهن البشع المهزوم يقف الراوي على أحوال ومقامات تبدو غير مترابطة إلا في إطار الرؤية الكلية التي تتشكل في سياقات النص. هذه هي الخطوط العريضة، وبعض التفاصيل، التي ينسج الكاتب قصصه منها، ليقول ان مجتمعاً على هذا النحو من الجهل وقمع الحريات والإيمان بالخرافة لا يمكن إلا أن ينهزم، ولذا لا بد من النضال، ولا بد من الحب. * المؤسسة العربية للدراسات والنشر، مع مشاركة وزارة الثقافة، 95 صفحة، عام 2000.