لا يمكن ان نعرض بعمق نشاطات معهد العالم العربي في باريس إذا لم ندرك أن وعورة الشروط والاعتبارات الحسّاسة، هي التي تعقّد مع الأيام استراتيجيته المعلنة والمضمرة. يتمثل أبرز هذه الأحوال في سعي القائمين على ادارته الى التوفيق بين رسالته الثقافية بعيداً عن التأثيرات السياسية واستقلاله المادي من خلال اخضاع البرامج السنوية للدورة الاقتصادية المتوازنة. حصل هذا التوفيق بزيادة دخولات المعارض الكبرى على تكاليفها الباهظة وبيع الكتب والأسطوانات وعائدات مطبوعات المعهد الخاصة مجلته وتأجير بعض صالاته. الصعوبات المالية رافقت المعهد منذ تأسيسه عام 1987، وذلك باتفاق فرنسي مع 19 دولة عربية. وعناد الرئيس ميتران والدعم الدؤوب للمشروع من جاك شيراك، هو ما وقف في وجه ممانعات أعداء الثقافة العربية وتغيير موقعه مرات عدة. تحملت فرنسا 60 في المئة من تكاليف البناء وسواها على أن تدفع الدول العربية 40 في المئة، وفي كل مرة ترتبك فيها المساهمات العربية بسبب أزماتها الاقتصادية كانت الخزينة الفرنسية تغطي العجز؟ جعل هذا من المعهد - على رغم نظامه الخاص - مؤسسة فرنسية وهو ما يجب تذكره عند محاسبة المعهد على سياساته العامة. يمثل المعهد اليوم صرحاً مستقراً للثقافة العربية في قلب باريس الثقافية في الحي اللاتيني، قريباً من السوربون وملاصقاً لجامعة جوسيو. تتراقص انعكاسات واجهته الزجاج في صفحة نهر السين. أما الواجهة الأساسية المطلة على الساحة فصممت نوافذها من النجميات الثمانية في الرقش العربي الإسلامي، وجهزت ميكانيكياً بفتحات عدسة التصوير التي تغلق وتفتح بؤرتها وفق شدة النور الطبيعي في الخارج. صمّم جان نوفيل البناء مفتوحاً على السماء، وجعل ساحته في الخارج على هدى مركز بومبيدو لتحقّق أكبر قدر من التواصل مع المارين، ومع الثقافة الشعبية المسرحية، والنشاط الغنائي والإنشادي وسواه، كما جعل واجهة مكتبة البيع والمقهى والمدخل مفتوحة بالزجاج الشّفاف. تعطلت آلية النوافذ المثمنة بسرعة، وأقفرت الساحة الاّ خلال بعض المناسبات العابرة، كالمطاعم المرافقة لمعارض الحرفيات التقليدية أو معرض الكتاب السنوي، وانقلبت الأقسام الداخلية الى قلعة فولاذيّة تمنع التواصل حتى بين الموظفين أنفسهم. حتى أصبحت زيارة المعهد تمر من عتبة موظفي الحراسة التابعين لشركات خارجة عن سلطته، ثم دخلت الدعوات وبطاقاتها في مزاجية متاهة المعلوماتية والحاسوب. على رغم انها تخضع أحياناً الى حماية دعوات الوجوه المقربة نفسها. يتهم مثقفون عرب يقيمون في فرنسا المعهد بالعزلة والانطواء القبلي على نشاطاته الداخلية. ولعل أبلغ مثال ما روته الكاتبة عالية ممدوح في "الحياة" 3 كانون الثاني عام 2000 تحت عنوان "حفل يتيم...". وتعميم تهمة الانعزال نصفها صحيح ونصفهاالآخر غير صحيح. على الأقل بسبب ما عرضته من صعوبة شروط العمل وبيروقراطية بعضه مثل توزيع البطاقات. أما الدليل على ذلك فهو الصفوف الطويلة من الزوار الذين يقضون ساعات مديدة تحت مطر الشتاء الباريسي وذلك من أجل زيارة المعرض الراهن: "أندلسيات من دمشق الى قرطبة" الذي سيستمر أشهراً، ويندرج ضمن قائمة التظاهرات الكبرى بتغطية في اعلانات المترو والبرامج الثقافية. تجاوز عدد زوار معارض لبنان وسورية واليمن والسودان المئتي الف وبلغ عدد زوار معرض "ماتيس المغرب" 35 ألفاً. والتظاهرة المقبلة ستكون عن "الفن والصناعة في العهد الأيوبي". ويزداد الارتباك في المعارض الفنية الفردية. ولا يمكن ان نستنتج ان المعارض الفنية الفردية قليلة الزوار دائماً. فمعرض بول غيراغوسيان نجح. وكذلك معرض تكريم أدونيس كان حافلاً بزوار من الآفاق الأدبية والتشكيلية. لعله من الجدير ذكره بخصوص سهرة أدونيس الموسيقية ان الخطاط العراقي الكبير محمد سعيد الصكار المقيم في باريس، غاب عن عرضه الذي كان معلناً. وظن أكثرهم أن تغييبه جزء من خطة تغييب الخط والكتابة واللغة العربية في المعهد التي لاحظناها متدرجة في السنوات الأخيرة. إذ غابت خلال هذه الفترة مجلة "مارس" العالم العربي في البحث العلمي وهي فصلية كان يصدرها المعهد بالعربية والفرنسية، كما كانت اصداراته الأولى، وكما هو شعار المعهد العربي بالعربية والفرنسية. وأحد أسباب الإحساس بغياب الصكار هو غياب اللغة العربية من معرض وكتاب وفيديو أدونيس، وهو ما يتناقض مع عروبة المادة الثقافية، نفسها. لكن نشاطات المعهد إجمالاً تقدم الحضارة العربية بوجهها النضر، كما في مجلة المعهد "قنطرة". فاسمها بحد ذاته أصله عربي ويستجيب الى التواصل بين الثقافات. وعلى رغم أن المعهد لم يصدر حتى اليوم مطبوعة باللغة العربية فإن كفة اللغة الفرنسية الراجحة سببها أننا بصدد مؤسسة فرنسية يتخاطب عاملوها كل يوم بالفرنسية. وبما أن تحقيق اللغتين يفترض مضاعفة الموازنة الطباعية. فالأسهل الابتداء بالفرنسية حتى ولو كان أصل النصوص بالعربية وتكاليف الترجمة المحترفة باهظ ثم ترجمة المطبوعة نفسها لاحقاً بالعربية، وهو ما تحقق في عدد من كتب التظاهرات الكبرى السودان جزئياً، واليمن بكامله. ومهما يكن من أمر فإن الندوات التي تعقد من دون بطاقات خاصة تبدو أشد جماهيرية من تعقيدات التظاهرات الكبرى، وذلك على منوال ندوات "كرسي المعهد" و"خميس المعهد" و"المقهى الأدبي" الذي يقام كل أربعاء في المقهى المحاذي لمكتبة البيع والذي لا يزال على شفافيته المعمارية والاجتماعية. تشتمل هذه الندوات في بعض الأحيان على مداخلات باللغة العربية تترجم آلياً أو من أحد الحاضرين. وآخرها كان مهرجان الشعر العربي، وكانت غالبية مداخلاته بالعربية مباشرة. من جهة أخرى أغنت جهود فاروق مردم المكتبة العامة بأمهات الكتب العربية ما يجعلها أحياناً أشبه بالمكتبة الوطنية يطرقها الباحثون خصوصاً من الطلبة. كذلك فإن اصرار بدرالدين عرودكي على تخصيص قسم لبيع الكتب العربية واستجلاب الكتب مباشرة من دور النشر العربية يجعل للغة حضوراً، مع الأسطوانات والحرفيات. ومن الجدير ذكرة أن المعهد ملتزم بعض دورات تعليم العربية وأحياناً الخط للصغار، والتعريف بالفن الأندلسي. والاستكانة الى أحادية اللغة الفرنسية توفر نصف مبالغ الطباعة وسواها، ولكن هذه السهولة الاقتصادية تؤدي الى خطر القناعة بالمدعوين الفرانكوفونيين أو الذين يعيشون خارج بلادهم، مما يفوت فرصة شراكة الباحثين الأكثر جدية وميدانية. ألم نقل منذ البداية ان التوفيق بين الثقافة والاقتصاد يشكل معضلة المعهد وصبوته في الخروج من الاعتبارات السياسية والديبلوماسية عن طريق هذا الاستقلال، ولا شك في ان هذا الاستقلال المادي بدأ يعطي ثماره ويثبت الاستقرار النسبي في هيكلية المعهد، لذا فهو يستحق دعم الجالية الثقافية العربية ومن حق هؤلاء انتظام دعواتهم ومشاركاتهم حتى ولو كانت مكتوبة بالعربية. باريس - أسعد عرابي