بثت المؤسسة اللبنانية للإرسال في ليلة رأس السنة برنامجاً من برامجها التقليدية الناجحة جماهيرياً. البرنامج قديم جديد وهو بعنوان "وقّف تقلّك". وتدور فكرته الأساسية على سؤال - لغز يتم سؤاله لأحد المارة في منطقة من مناطق لبنان يختارها فريق العمل. واذا نجح المار في معرفة الجواب وحل اللغز الذي تتضمنه الأحجية يحصل على هدية قيمة. هذه المرة كانت الهدية عبارة عن سيارة من سيارات الدفع الرباعي، التي يرغبها اللبنانيون كثيراً. لكن الرابح لا يستطيع استلام هديته الا اذا نفذ الشرط المرافق للأحجية، وهذا الشرط هو من شروط الربح في هذا البرنامج يختلف الشرط كل مرة بحسب مزاج وأفكار القيمين على البرنامج. هذه السنة كان الشرط اللازم للربح يتلخص بالطلب الى الرابح ان يعمل على اقناع زوجين منفصلين بالعودة الى بعضهما بعضاً. وكان القيمون على البرنامج قد أعدوا سلفاً، لائحة طويلة بأسماء وعناوين أزواج منفصلين عن بعضهم. وتقضي أصول اللعبة أن يسحب الرابح في البرنامج ورقة من الأوراق الموضوعة في علب بلاستيكية، تتضمن اسماً وعنواناً لأحد الأزواج. واذا حدث ورفض صاحب الحظ السعيد استقبال فريق العمل التلفزيوني وعرض مشكلته مع زوجه على الملأ توسلاً لحلها ومساعدته في ذلك يعود الرابح الى سحب اسم ثان وثالث الى ان يقبل أحد الازواج بالوساطة التي أتته من حيث لم يدر. بعد ثلاثة أيام من المحاولات الدؤوبة وافقت احدى السيدات المنفصلة عن زوجها منذ سبع سنوات ان يقوم الفريق بالوساطة. ولحسن المصادفات فإن ا لسيدة كانت تعيش مع ابنها في لبنان، فيما يعيش الزوج مع ابنتهما الأكبر سناً في كندا. والحال فإن اللعبة تقتضي من الفريق جمع الزوجين في مكان ما من العالم، وبما ان الزوج لم يكن يعلم بما يجري مع زوجته، قرر الفريق ان يدفع تكاليف رحلة الزوجة وابنها والرابح مع زوجته الى الولاياتالمتحدة الأميركية ومنها الى كندا لكي تتم الوساطة مع الزوج. قبل سفر العائلتين تم شراء الهدايا للزوج والابنة في كندا، مثلما تم شراء هدايا مماثلة للزوجة وابنها. في كندا نجحت الوساطة في اعادة المياه الى مجاريها بين الزوجين. وتقرر بناء على رغبة المؤسسة اللبنانية للإرسال ان يعود افراد العائلة جميعاً الى لبنان، حيث استكملت المؤسسة برنامجها بشراء شقة للزوجين دفع ثمنها احد اكبر المصارف اللبنانية، وتم تأثيث الشقة المشتراة عبر مؤسسة كبرى لبيع المفروشات المنزلية، وانتهى مطاف الحلقة وفريق العمل بشراء سيارة للعائلة السعيدة التي هبط عليها الحظ من السماء. طبعاً لم تتوان المؤسسة النشيطة والبالغة الحذق عن اعادة بث البرنامج في الأسبوع الأول من العام الجاري، فمثل هذا البرنامج يأسر ألباب المشاهدين ويكرس المؤسسة في صدارة المؤسسات الاعلامية العاملة في لبنان. حيث أن البرنامج في حد ذاته، يحاكي الى هذا الحد أو ذاك، برنامجاً آخر يعرض في طول أوروبا وعرضها ويلاقي نجاحاً باهراً، وهو مسلسل "الأخ الأكبر". والبرنامجان يعتمدان في درجة أساسية على وقائع حقيقية، يكاد التلفزيون يكون المجال الأبرز من بين مجالات التواصل والاتصال بين الناس، الذي يعتمد في انتشاره ونجاحه على هذا النوع من البرامج. حيث ان التلفزيون يولي عناية شديدة لكل البرامج التي تحيل الى الوقائع المباشرة، من نشرات الاخبار الى المباريات الرياضية وصولاً الى الافلام التلفزيونية التي تذيل مقدمتها بعبارة "هذه القصة حدثت فعلاً". ويكاد التلفزيون يكون وسيلة الاتصال الوحيدة التي تفترض بمستخدمها ومستعملها ان يكون بصاصاً وفضولياً وتعتمد على هاتين الصفتين في المشاهد وتحاول تغذيتهما قدر الامكان ليتسنى للبرامج الحية ان تلاقي نجاحها الباهر. على هذا لم تخالف المؤسسة اللبنانية للإرسال منطق عمل التلفزيون في شكل عام، بل على العكس استطاعت أن تذهب في هذا المنطق الى احدى نهاياته المفترضة. فحين يعرض زوجان مشكلتهما على الملأ ويعمد التلفزيون الى حلها يكون بذلك قد تجاوز حد برامج ال"توك شو" المزدهرة ازدهاراً مفرطاً في لبنان، من طرح القضية بوصفها مرضاً ينبغي العمل على علاجه واصلاح ما تخلخل فيه الى حل القضية من حيث لم تكن قضية أصلاً. وفي الوقت نفسه فإن مثل هذا البرنامج يكون قد تجاوز المنطق الذي يحكم العمل في مسلسل "الأخ الأكبر" الآنف ذكره، من حيث ان القيمين على البرنامج لا يلتزمون بقواعد محددة يعرفها المشاركون في البرنامج، بل يفاجئون المشاركين بنواياهم ويعملون على تأجيج عنصر المفاجأة أيضاً لدى المشاهد بوصف المفاجأة أكثر عناصر التشويق اثارة في هذا المجال. نجح البرنامج نجاحاً منقطع النظير، ويكاد يكون حديث اللبنانيين اليومي. ولا يخفى ان واحداً من أبرز أسباب نجاحه، يتعلق باختياره موضوعاً لا يمكن مقاومة اغرائه، حيث ان اعادة جمع شمل عائلة يكاد يكون من المواضيع التي تلقى موافقة شاملة وعامة من قبل جميع الناس، سواء في الغرب أو في الشرق. وعلى مثل هذه الموافقة يغفر المشاهدون للمؤسسة والقيمين على البرنامج، تدخلهم السافر في شؤون لا تعنيهم من قريب أو بعيد. حجة المشاهدين أن ما تفعله المؤسسة يندرج في اطار الصالح العام، لكن البرهان الأقوى يبقى عودة الزوجين الى بعضهما بعضاً في اشارة لا تدحض، على كونهما قد اخطآ في حق نفسيهما وفي حق أولادهما طوال السنوات السبع التي قضياها منفصلين. فلو أنهما لم يعودا لبعضهما بعضاً لكان تدخل المؤسسة بلا معنى ومن دون نتائج. على كل حال لم يكن البرنامج ليعرض لو ان معدّيه لم ينجحوا في ما حاولوا الوصول اليه. على مثل هذا الافتراض ينبني منطق كامل يفترض ان للتلفزيون الحق في التدخل الفاعل في شؤون الناس اليومية، وهو تدخل يختلف اختلافاً جذرياً عن محاولات التنبيه والاشارة الى المخاطر التي تعمد وسائل الإعلام عادة لاتباعها، حيث تطرح المشكل وتطالب المعنيين بالحل. لكن البرنامج المذكور تجاوز كل هذه الحدود ليلعب الدور الذي عجزت عن لعبه المؤسسات القائمة، ابتداءً من مؤسسة الأهل الراسخة الجذور في بلد كلبنان، الى مؤسسات الأحوال الشخصية التي تتبع للمذاهب المختلفة، وصولاً الى مؤسسات الدولة برمتها. التلفزيون في هذا المعنى نجح حيث فشل المجتمع، وبهذا النجاح يؤشر الى أحد ادواره المستقبلية بالغة الخطورة وعظيمة الفتك في آن واحد. لم يكتف معدو البرنامج بجمع الزوجين مجدداً، بل عمدوا الى تأمين شروط استقرار حياتهما المادية معاً. وفي هذا السلوك ما يجعل المجتمع أعجز من ان يضارع التلفزيون قوة وبأساً، كأن من يصطفيه التلفزيون بمحض الصدفة العمياء هو الكائن المحظوظ من دون غيره من البشر، وكأن التلفزيون يريد لجميع الناس ان يسعوا ما في وسعهم ليكونوا من المحظوظين الذين تهل عليهم نعمه. على كل حال تبدو محطة تلفزيون "المستقبل" في هذا المجال بالغة الوضوح في تطلبها هذا. فما ان يتصل المشاهد ببرنامج "ميشو شو" حتى يكون قد ربح، وعلى النحو ذاته تحاول مقدمات برامج الحظ في المحطة ذاتها ان لا تترك متصلاً من دون ربح، فيحاولن تسهيل الأسئلة المطروحة الى درجة مربكة لأي متصل يتمتع بقدر قليل من الذكاء وبعض المعرفة. ولا يكتفين بذلك بل يساعدن المشاهد بالاشارات الواضحة ليحرز الجواب الصحيح. كانه انفصال بين عالمين عالم التلفزيون المستريح والواثق وعالم الناس المترددين والمنتظرين، وبين العالمين ثمة الانتظار والتسليم بفاعليات الحظ وآلياته، ليبقى المشاهد من دون حول ولا قوة، ولا يقوى على غير انتظار الحظ الذي يأتيه من فم المذيعة الجميل. في لبنان أىضاً، حجبت لجنة متحف سرسق جائزتها عن المشاركين في معرض الخريف هذا العام، الذين كتبوا مؤيدين قرار اللجنة، ذهبوا الى التوجس من كسل يطبع المشتغلين بالفنون التشكيلية والنحت من الشباب اللبنانيين. وبعضهم دعا هؤلاء الى المثابرة ونصحهم بأخذ أعمالهم بجدية أكبر ونبذ التسرع، على ما ذهب اليه عباس بيضون في "السفير" شأن ثقافي بامتياز. ان يدعو المثقفون الفنانين الى الجهد وأن لا يرضوا ان يكافئوا إلا بناء على وضوحه في الأعمال الفنية. لكن ما يدعو للقلق ليس حجب الجائزة في حد ذاته، بل عزوف الثقافة اللبنانية عن ملاحظة كل هذه الدعوات التي يبثها التلفزيون يومياً في تمجيد الكسل وانتظار الحظ والحض الدائم والمستفز عليهما. بيروت - بلال خبيز